واقعة العبدلي- عندما يتدخل البوليس في تونس في "تقييم"الأعمال الفنية

  • DWWbronzeبواسطة: DWW تاريخ النشر: السبت، 13 أغسطس 2022
واقعة العبدلي- عندما يتدخل البوليس في تونس في "تقييم"الأعمال الفنية

يصرخ الممثل الفكاهي لطفي العبدلي بأعلى صوته من فوق رُكحخشبة مسرح بمهرجان صفاقس ليطلب تحكيم الجمهور، بسبب نزاع مع أعوان البوليس، ومن ثم يغادر المسرح نحو وجهة مجهولة.

كان آخر ما كتبه العبدلي على صفحته بموقع فيسبوك بعد مغادرته للمسرح أنه في خطر ويعتزم مغادرة البلاد نهائيا، بينما اعتبرت نقابات أمنية أن "ما صدر عن العبدلي في العرض يعد فضيحة اخلاقية وتعديا مباشرا عليهم" كانت كافية لانسحابهم من تأمين العرض والجمهور الحاضر.

ومع ان الروايات تضاربت بشأن ما بدر من العبدلي أو من رجال الشرطة بزيهم المدني فإنها كانت ليلة صادمة للجمهور التونسي في صيف لم يكن عاديا في المهرجانات الثقافية، حيث أبان عن قلق كبير يعتري الفنانين والممثلين بشأن مستقبل الثقافة والإبداع في هذا البلد بعد منعطف سياسي أعقب أحداث 25 تموز/ يوليو 2021.

"ساتند اب كوميدي" نمط جديد

ويقول محمد بوذينة منتج العرض المسرحي المثير للجدل "لطفي العبدلي في الخمسين أقولها كما أعنيها" إن تصرفات الأمنيين تكررت في أكثر من عرض بما في ذلك عرضه الآخر الموسيقي الذي انتجه "الزيارة"، وفي أكثر من مهرجان في البلاد. وترافق ذلك، في تقديره، مع حملة منظمة ضد صور العبدلي على المسرح بمواقع التواصل الاجتماعي.

ويضيف بوذينة في شهادته لـ DW عربية "يمكن ملاحظة ذلك من خلال بعض الاستفزازات وعمليات التفتيش المبالغ فيها للممثلين. نحن نشك بأن هذه الممارسات لم تكن الإطارات العليا الأمنية على علم بها".

لا يريد محمد تعميم السلوك غير الطبيعي على جميع الأمنيين لكنه يضيف أن "ما حدث في صفاقس كان بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس"، ويضيف في روايته "ظهر رجال بزي مدني كانوا في حالة لاوعي ولم نكن نعلم أنهم من رجال الشرطة وبدأوا بإحداث شوشرة".

ويتابع بوذينة في الرواية "أحسسنا بالخطر قمنا بتهريب لطفي في سيارة التجهيزات للتمويه. وتعرضت أنا للضرب المبرح من ست أشخاص ضيقوا على أنفاسي بشكل كبير".

يصنف العرض الذي قدمه الفكاهي لطفي العبدلي على مسرح صفاقس ضمن عروض "ستاند اب كوميدي"، التي تعتمد على النكات وعرض مواقف في قالب ساخر وجريء لا يخلو من ألفاظ الشارع المبتذلة. وقد تخصص العبدلي في مثل هذا النوع من العروض حديثة العهد بالمسارح التونسية مع مسحة محلية ونجح في أن يستقطب شريحة واسعة من الجماهير إلى عروضه في المهرجانات الصيفية.

ولكن تساق إلى العبدلي اتهامات بضرب "الأخلاق العامة والانحراف بالذائقة الفنية" في النصوص التي يقدمها، وهي اتهامات يرفضها الفكاهي بشكل دائم.

ويقول بوذينة "أصبح هذا الاتهام مثل الديسك المشروخ. ليس من مهام النقابات الأمنية أن تقيم الأعمال الفنية وليس هناك وصيّ على الشعب، فهو يعرف ما يريد ونحن لم ندخل بيوت الناس. إن ما يربط الفنان بجمهوره هو عقد يتلخص في التذكرة وقد كانت كل المسارح ملآنة".

ويفسر المنتج ردود الفعل المتضاربة بشأن عروض العبدلي "كونها تناقض التابوهات وتسعى لكسر الحاجز"، ويقول إن ما يقدمه العبدلي في عروضه مقارنة بما يقدمه فنانو الستاند اب كوميدي في فرنسا والولايات المتحدة يعد "مضمونا مخففا".

روائح السياسة

مع اعترافها بحق الجمهور بألا يكون هناك وصي على ذائقته وبضرورة عدم العودة إلى فرض الرقابة على الإبداع الفني والثقافي، إلا أن النقابات الأمنية هددت بأنها لن تقوم بتأمين أي عرض ينافي "الأخلاق الحميدة"، مستندة في ذلك إلى الفصل 226 من المجلة الجزائية الذي "يجرم الخدش بالحياء".

وتحدثت النقابات الأمنية عن إشارات باليد بدرت من العبدلي في عرضه لكن لم يؤكد شهود هذه الواقعة. ويشير العضو في النقابة الأمنية نسيم الرويسي بأن ما بدر من العبدلي على "الرُكح" يعد اعتداء على الأمنيين، الذين كانوا يقومون بتأمينه، مؤكدا على ضرورة التمييز بين النقد من جهة والسب والشتم والاعتداء على المؤسسات من جهة أخرى.

لكن الرويسي لم يستبعد "السياسة" من هذه المعمعة مضيفا في تعليقه "هناك رائحة سياسية في الموضوع هناك من أراد خلق جدل حول الموضوع".

في كل الحالات اعتبرت رابطة حقوق الانسان سلوك الأمنيين "انتهاكا لحق الجمهور في النفاذ إلى النشاط الثقافي دون وصاية"، محذرة من مخاطر تحول الجهاز الأمني إلى "هيئة رقابة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليصبح وصيا على الذوق العام وعلى حرية الفن والإبداع بل وهيئة رقابية موازية".

سوابق وفوضى "مفتعلة"

لم تكن الحادثة التي ظهرت في مسرح صفاقس الأولى هذا العام فقد تكررت البلبلة في مسارح أخرى، بدأت من قرطاج بانسحاب المتفرجين من عرض للكوميدي المخضرم الأمين النهدي في واقعة أثارت جدلا. كما حدثت مناوشات في عروض أخرى في المنستير والقصرين والحمامات وغيرها.

وتحتفظ مسارح تونس والفضاءات الثقافية بسوابق من الاختراقات، من بينها مناوشات حصلت للعبدلي نفسه مع الجماعات السلفية في بداية الانتقال الديمقراطي بعد 2011 وتعرضت دور سينما لهجمات من المتشددين، بجانب الضجة المرافقة لعرض فيلم "برسيبوليس" الإيراني على قناة "نسمة" الخاصة بسبب احتجاجات الإسلاميين.

وأرجع ماهر الهمامي نقيب الموسيقيين في حديثه لـDW عربية الفوضى إلى "سوء الإدارة وسوء التقدير" بسبب منح مسؤولية تسيير المهرجانات إلى جمعيات بدل هيئات إدارية تتبع وزارة الثقافة مثلما كان الحال في السابق. وتسبب هذا، حسب تقديره، في "السقوط في العشوائية في برمجة العروض والافتقاد إلى الحس الفني في توظيف العروض المناسبة في المهرجانات".

ويضيف الهمامي: "يتوجب حل هذه الجمعيات لأن كثيرا منها يفتقد إلى مستشارين فنيين". غير أنه لا يخفي من جهة أخرى حالة الاستقطاب ومحاولات جر الفن إلى مستنقع السياسة.

ومثل هذا الرأي جرى تداوله على نطاق واسع من قبل المتابعين في القطاع الثقافي حول "وجود نوايا غير معلنة لتحويل المهرجات إلى ساحة معارك سياسية". ويستدل على ذلك رئيس نقابة المستقلة لمحترفي الفنون الدرامية جمال العروي بإعلان الكوميدي الأمين النهدي لانتمائه السياسي المؤيد للحزب الدستوري الحر، أبرزالأحزاب المعارضة والمنافسة على السلطة، وهو امتداد للحكم الذي ساد قبل ثورة عام 2011، بجانب إعلان الكوميدي لطفي العبدلي دعمه الصريح للرئيس الحالي قيس سعيد.

ويشك جمال العروي في حديثه لـDW عربية في أن الفوضى برمتها "مفتعلة" في ظل تواتر أحداث مشابهة من مسرح إلى آخر، وهو لا يخفي مخاوفه من العودة إلى "المربع الأول"، أي قبل اندلاع ثورة 2011.

ويتساءل العروي في تعليقه "أين مسؤولية السلطة في حماية المبدعين والفنيين؟" ويتابع قوله: "كنا ننتظر خروج رئيس الجمهورية ليلقي خطابا ويضع الأمور في نصابها. ما حصل ليس هين وهو يصنف بالخطير جدا، هو خطير على المهنة وعلى الكلمة وعلى تونس".

ويعرب العروي عن قلقه بالقول: "نحن نعود إلى المربع الأول وربما الأسوأ من ذلك. يتعين أن يكون الأمن جمهوريا وأن لا يقحم نفسه في التقييم والتحكم فيما يعرض من فنون، كان يفترض التوجه إلى القضاء في حال حصل إخلال".

ويرى العروي أن الخطر الأكبر يكمن في اللجوء إلى تحريض الجماهير على الفن ونصب ما سماها بـ"المحاكمات الشعبية"، محذرا في نفس الوقت "إذا استمر هذا الوضع سينهار السقف على الجميع".

اختبار جديد للرئاسة

قبل أحداث 25 تموز/ يوليو فاجأ الرئيس قيس سعيد أعضاء الحكومة والأحزاب السياسية خلال الاحتفال السنوي بتأسيس قوات الأمن، بأنه يمثل القائد الأعلى لقوات الجيش والأمن معا، في تأويل مفاجئ لنص الدستور، اعترض عليه خصومه في البرلمان والحكومة.

وينظر إلى الرئيس، الذي يمسك بالسلطات التنفيذية بشكل كامل، بأنه المسؤول الأول عن إدارة الأمن. وتضع الموجة المتفشية في المسارح مصدقيته في تأمين حرية التعبير والرأي على المحك، خاصة بعد نجاحه في كسب نسبة تأييد عالية للدستور الجديد، الذي عرضه على الاستفتاء الشعبي.

ومع أن ردة الفعل المتأخرة من الرئيس منحت رسالة طمأنة إلى القطاع الثقافي إلا أنها تثير تساؤلات بشأن مستقبل العلاقة مع النقابات الأمنية بعد مطالبته بمنع الاضرابات في هذا القطاع وأن يقتصر نشاطها النقابي على الجانب الاجتماعي. ويقول المنتج محمد بوذينة إن وزارة الداخلية تعهدت بإصلاحات حقيقية وأكدت أن ما حصل في صفاقس كان خارج نطاق الأمنيين.

ويضيف بوذينة "وجدنا تطمينات. نحن نتعامل الآن مع مؤسسات الدولة. ستكون خيبة أمل كبرى إذا لم نصلح هذا. الطريق صعب لكن لا يزال هناك أمل".

تونس- طارق القيزاني

القيادي الآن على واتس آب! تابعونا لكل أخبار الأعمال والرياضة