يعد النحات الإنجليزي هنري مور واحد من أهم النحاتين في القرن العشرين ويعتبر رائد من رواد فن النحت الحديث، فقد اشتهر بأعماله المجردة التي تعتمد على الأشكال الحيوانية والبشرية والتي تتميز ببساطتها وجمالها الفريد، تعرف أكثر على مسيرته الفنية وحياته.
من هو هنري مور؟
هنري سبنسر مور هو فنان ونحات إنجليزي ولد في 30 يوليو عام 1898 كاسلفورد إنجلترا ويعد واحد من أشهر النحاتين في العالم ورائد من رواد النحت الحديث اشتهر بمنحوتاته البرونزية الضخمة شبه التجريدية.
أنتج مور العديد من المنحوتات الرائعة والكثير منها يتواجد في العديد من المدن حول العالم وخاصة في لندن، وبجانب منحوتاته فقد كان له العديد من الرسومات على الورق.
اشتهر مور بمنحوتاته التجريدية للشخصيات والحيوانات، والكثير من أعماله توحي بالجسد الأنثوي، وقد اشتهرت أعماله أيضًا بمتوجاتها وعرضها في المناطق الطبيعية مثل التلال والجمال والمتنزهات الخضراء.
اشتهر مور أكثر بالمنحوتات الرخامية والبرونزية المجردة، وقد أشاد الكثير من الفنانين حول العالم بأعماله المميزة، وأصبح قدوة للكثير من النحاتين من بعده.
نشأته وتعليمه
ولد هنري مور في مدينة كاسلفورد في إنجلترا لوالد من أصل أيرلندي كان يشغل منصب مدير منجم وأم ربة منزل. كان والده يحب التعليم الذاتي ومهتم بالأدب والموسيقى بشكل كبير، لذا قرر أن أبناءه لن يعملوا في المنجم وأهتم بتعليمهم تعليم نظامي لتحسين مستقبلهم.
كان هنري هو الابن السابع من بين 8 أطفال في عائلة تعاني من الفقر والأوضاع المادية المتردية، ورغم ذلك التحق بالمدرسة الابتدائية في كاسلفورد مع أشقائه وهناك تعرف لأول مرة على فن النحت بالطين والنحت على الخشب وقرر منذ هذا اليوم أن يصبح نحاتًا في المستقبل.
ظهرت ميوله الفنية بشكل أكبر في سن الحادية عشر حينما سمع عن النحات والرسام الإيطالي مايكل أنجلو الذي انبهر بفنه وموهبته وقرر أن يسلك مسار الفن. التحق مور بمدرسة كاسلفورد الثانوية مع إخوته وسرعان ما لاحظ المدير موهبته واهتمامه بالنحت في العصور الوسطى، لذا أوصى معلمته للفنون بتوسيع معرفته بالفن وتشجيعه على مواصلة الفن حتى قرر أن يجعل الفن مساره المهني.
قرر مور أن يجري اختبارات من أجل الدراسة في كلية الفنون المحلية. على الرغم من موهبته إلا أن والديه رفضا عمله كنحات حيث اعتبرا هذه المهنة عملًا يدويًا لن توفر له مرتبًا مجزيًا، لذا عمل مور لفترة وجيزة كمدرس في مدرسته الثانوية.
عندما بلغ سن الثامنة عشرة تطوع للخدمة في الحرب العالمية الأولى، وكان أصغر جندي في فوج بنادق الخدمية المدينة وأصيب في الحرب عام 1917 بسبب هجوم بالغاز خلال معركة كامبراي، وبعد تعافيه تابع مهمته العسكرية كمدرب تدريب بدني. كان مور يعتقد أنه بطل قوي خلال الحرب إلا أن نظرته تبدلت بعدما رأى الدمار الذي خلفته الحرب.
زوجة هنري مور وطفلته
تزوج هنري مور من إيرينا راديتسكي في يوليو عام 1929 وكانت طالبة رسم في الكلية الملكية، وقد ولدت في كييف عام 1907 وقتل والدها في الثورة السورية ثم سافرت والدتها إلى باريس وهناك تزوجت من ضابط في الجيش البريطاني.
هربت إيرينا فيما بعد إلى باريس بعدها بعام التحقت بالمدرسة في سن 16 عامًا، وبعدها انتقل للعيش مع أقارب زوج والدتها في باكينجهامشير في إنجلترا.
حاولت إيرينا الإنجاب أكثر من مرة لكن كان حملها يفشل، وبعد الحرب العالمية الثانية تمكنت أخيرًا من إنجاب ابنتها الأولى ماري موري في مارس عام 1946، وقد سميت على اسم والدة مور.
كانت العائلة أثرًا كبيرًا على أعماله في هذه الفترة، فبعد وفاة والدته ووصول طفلته بدأ يركز على الأسرة وظهر ذلك جليًا في الكثير من منحوتاته في هذه الفترة حيث نحت العديد من المنحوتات المؤلفة من الأم والطفل.
دراسته لفن النحت
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى حصل هنري مور على منة لمواصلة تعليمه فالتحق بمدرسة ليدز للفنون عام 1919، وهي المدرسة التي أنشئت استوديو خاص به للقيام بمنحوتاته.
خلال دراسته تعرف على زميلته النحاتة باربرا هيبوورث والتي أصبحت منافسته لسنوات طويلة، وقد تأثر خلال سنوات دراسته بالعديد من النحاتين منهم مايكل سادلر الذي كان له تأثير واضح على تطوره.
في عام 1921 حصل على منحة أخرى للدراسة في الكلية الملكية للفنون في لندن، وهناك تعرف أكثر على الفن البدائي والنحت وتضمنت منحوتاته الأولى النمط الفيكتوري الرومانسي والأشكال والمناظر الطبيعية والنماذج التصويرية للحيوانات.
بمرور الوقت أصبح غير مرتاح للنمط الكلاسيكي واتجه إلى النحت المباشر وتأثر حينها بالعديد من النحاتين منهم جاكوب إبستاين وقسطنطين برانكوي، وفي منحوتات هؤلاء الفنانين كانت العلامات التي خلفتها أدوات النحت جزءًا من الشكل النهائي للمنحوتة، وبسبب اتباعه لهذا الأسلوب الفني تلقى مور معارضة شديدة من المعلمين في المدرسة.
في عام 1924 التحق بمدرسة فنية في شمال إيطاليا لمدة 6 أشهر لدراسة أعمال مايكل أنجلو وجيوتو دي بوندوني ونحاتين إيطاليين آخرين، وخلال هذا الوقت أيضًا زار باريس وحصل على العديد من الدروس في أكاديمية كولاروسي.
مسيرته الفنية
عاد هنري مور إلى لندن عام 1925 تقريبًا وبدأ مسيرته المهنية في التدريس في الكلية الملكية للفنون واستمرت لمدة 7 سنوات، حيث كان يدرس لمدة يومين في الأسبوع فيما يستغل بقية الأسبوع من أجل منحوتاته.
كانت أول أعماله المعروضة منحوتة بعنوان "الرياح الأربعة" الموجودة حاليًا في مترو أنفاق لندن وبعدها أقام عدة معارض له في لندن، وقد انضم مع زوجته إيرين إلى الفنانين الطليعيين.
بعد 6 سنوات من التدريس تولى مور منصب رئيس قسم النحت في مدرسة تشيلسي للفنون عام 1932 وواصل أيضًا تقديم منحوتاته التي أصبحت تجريدية بشكل مطرد، كما تأثرت أعماله في هذه الفترة بالسريالية وحركة الفن الحديث.
في عام 1936 انضم مور رسميًا إلى الفنانين السرياليين، وبعدها بعامين أصبح عضوًا في مجلس الفنون في بريطانيا العظمى وقد قام بتنظيم العديد من المعارض للفنانين في بريطانيا.
خلال الحرب العالمية الثانية انتقل مور إلى عدة مناطق بسبب الحرب، وقد رسم العديد من اللوحات التي تعكس الحياة في لندن مثل لوحات الناس في الملاجئ ومترو الأنفاق، وقد ساعدت هذه اللوحات في تعزيز سمعته الدولية وخاصة في أمريكا.
ثروة هنري مور
واصل هنري مور تنظيم معارض ومنحوتات حول العالم، وبدأ يحقق شهرة واسعة وكون ثروة ضخمة، ومع نمو ثروته بدأ يشعر بالقلق لذا أنشأ صندوق هنري مور عام 1972 بهدف حماية ممتلكاته بعد الوفاة، وبحلول عام 1977 كانت يدفع ضرائب سنوية تقرب من مليون جنيه إسترليني.
قبل وفاته كان مور واحد من أكثر الفنانين نجاحًا في المزادات، فقد كانت أعماله ومنحوتاته تباع بملايين الدولارات، ومن ضمن منحوتاته الغالية منحوتة بعنوان "التمثال المتكئ" وطوله 1.8 مترًا وقد بيع مقابل 1.2 مليون دولار أمريكي.
في عام 2012 بيعت منحتوته البرونزية التي يبلغ ارتفاعها 8 أقدام حوالي 19.1 مليون جنيه إسترليني ليصبح ثاني أغلى فنان بريطاني في القرن العشرين بعد الفنان فرانسيس بيكون.
المنحوتات العائلية
اشتهر هنري مور بمنحوتاته العائلية، وكانت أول منحوتة له نحت مادونا والطفل والتي عرضت في كنيسة القديس ماثيو وتبع هذه المنحوتة سلسلة من المنحوتات العائلية المهمة.
بعد الحرب العالمية الثانية وبعد وفاة والدته ووصل ابنته الأولى نحت مور العديد من المنحوتات عن العائلة وخاصة منحوتات الأم والطفل، ومنحتوته الشهير "مجموعة العائلة" المعروضة حاليًا في مدرسة باركلي، وهي واحدة من أشهر منحوتات هنري مور.
أسلوب هنري مور
تأثر مور بشكل كبير بالنحت الفرعوني والآشوري، حيث كان لهما تأثير واضح في أعماله، وقد وصف الفن الآشوري بأنه بالغ الإتقان، وغالباً ما يظهر هذا التأثير في إبداعاته.
ويرجع ما توصل إليه من نتائج وقناعات في تحديد أسلوبه الفني وشخصيته الفنية إلى مراقبته الدقيقة وتأمله العميق في مقتنيات فنون الشعوب في المتحف البريطاني، ومنذ عام 1922، تأثر مور بالفنون الأفريقية، وبعد عدة سنوات بدأ يظهر تأثره بالفنون الكولومبية القديمة، خاصة حضارة المايا.
يركز هنري مور في معظم أعماله على الجسد الأنثوي، وقد أصبح هذا الموضوع محور اهتمام النحات العراقي أيضاً، وفي إطار هذا التوجه، نفّذ مور العديد من أعماله التي تُظهر الجسد في وضعيات متكئة أو مستلقية، مثل سلسلة مواضيع العائلة التي تتضمن الأب والأم والطفل.
تتجلى تأثيرات الفنون الرافدينية بوضوح في أسلوب مور، خاصة في حركة الأطراف مثل الأيدي والأكف والجذع والكتف، حيث يركز على التضخيم والمبالغة لخلق تضاد يشكل محور ارتكاز العمل الفني.
يبتعد مور عن تفاصيل الوجه، بينما تحتفظ الأصابع بتفاصيلها الانسيابية الواضحة، مما يعزز الشعور بالعلاقة الحميمة بين التماثيل، كما تميزت أعماله بتكوينات نحتية ثنائية الشكل تعكس مفاهيم وأفكار النحات تجاه محيطه.
اشتهر هنري مور أيضًا باهتمامه بالفراغ النحتي، ويشير مفهوم الفراغ إلى الحيز الفارغ الموجود بين مكونات الأشكال والمحيط بها. يُعد الفراغ نوعًا من أنواع الشكل، ويتسم الفراغ والكتلة بالانسجام، حيث لا تطغى الكتلة على حيز الفراغ، ولا يقلل الفراغ من قوة الكتلة.
تأثير هنري مور
بحلول الأربعينات أصبح هنري مور أشهر نحات في العالم، وقد اتبع أسلوبه العديد من النحاتين على مستوى العالم، كما كان له تأثير مباشر على عدة أجيال من النحاتين في بريطانيا والعالم ومنهم أنتوني كارو وفيليب كينج وهيلين بولمنفيلد ولين تشادويك وويليام تورنبول وغيرهم.
وبسبب تأثيره على فن النحت في العالم فاز بالعديد من الجوائز، منها جائزة النحت الدولية من بينالي البندقية عام 1948، كما تم تعيينه عضوًا في وسام رفاق الشرف عام 1955 ورفض لقب الفروسية.
في عام 1968 تم اختياره عضوًا في وسام الاستحقاق وحصل على جائزة إيراسموس الفنية، كما أصبح عضوًا في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم والجمعية الفلسفية الأمريكية.
وفاة هنري مور
توفي النحات الإنجليزي هنري مور في 31 أغسطس عام 1986 عن عمر 88 عامًا في منزله في بيري جرين، وقد دفن في باحة كنيسة القديس توما.