واحد من أهم رواد الثورة التجديدية في الأدب العربي المعاصر، وزعيم الحركة المهجرية في اللغة من الجمود إلى الحياة، إنه الشاعر والأديب اللبناني ميخائيل نعيمة ناسك الشخروب الذي أثرى المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات والكتابات التي حفظت مكانته في عالم الفكر والأدب محليًا وعالميًا.
حياة ميخائيل نعيمة ونشأته
هو شاعر وأديب وناقد ومفكر لبنان ولد في 17 أكتوبر عام 1889 في قرية بسكتنا على سفح جبل صنين في لبنان، وفي هذا العام ولد فيه عميد الأدب العربي طه حسن.
حصل ميخائيل على نفسه اسم جده، وكان أهل القرية ينطقونه "مخايل"، وفي مذكراته يُشير ميخائيل إلى أن أجداد جده نزحوا إلى لبنان من عكا واستوطنوا جيل صنين، وقبل عكا كان في حران وأشار أنه من المرجح أن يكون أجداده جاؤوا من اليمن بعد سيل وادي العرم، لذا فهو من العرب الأقحاح، وهم مسيحيون على المذهب الأرثوذكسي.
في طفولته كان ميخائيل شديد الارتباط بجده، وكان جده يعمل حلاقًا في القرية وله لحية كثيفة، ووصف علاقته المقربة بجده في مذكراته، حيث يقول "أراني نائما إلى جانب جدي وقد التهبت لوزاتي، وانحمّ بدني حتى كأن في داخلي أتّونا، وكأن حلقي بات مسدودا فلا أستطيع بلعَ ريقي. لقد كان جدي طوال الليل، يتحسّسُني، ويضمني إليه، ويُمسّدُ وجهي، وجبهتي ورأسي، ويردد في أذني" يا روح جدك أنت".
تأثر ميخائيل بقريته بسكنتا، وقد عاش مع جده وهاجر والديه إلى أمريكا لطلب الرزق، وتعد أهم الأحداث في حياته عودة والديه من المهجر.
التحق ميخائيل بالمدرسة الروسية التي أنشأه الروس للمسيحين الأرثوذكس في القرية، وذلك في عام 1899، وبسبب تفوقه في المدرسة كان من المحظوظين من الطلاب للسفر للدراسة في المدارس الروسية في الناصرة بفلسطين، وكان ذلك في عام 1902.
عرف ميخائيل بعد سفره إلى فلسطين طعم الغربة وأحسها، وفي هذه المدرسة أحب الشعر وانغمس فيه، وساعده على التأمل في مشكلات الحياة.
لم تكن غربته في الناصر الغربة الأولى بالنسبة له، فبسبب تفوقه واجتهاده في المدرسة حصل على منحة للدارسة في روسيا على نفقة الجمعية الإمبراطورية الفلسطينية، وكان ذلك في عام 1906.
في روسيا وتحديدًا في بولتافا انتسب ميخائيل إلى "السمنار الروحي" وهي مدرسة تدرس الدروس العلمانية وبعض المواد الديني، وهناك قرر ميخائيل أن يجاري الروس في حياتهم، فيتعلم لغتهم ويتقيد بعاداتهم، ويحب ما يحبونه.
في روسيا شرع في قراءة كتابات أعظم الكتاب والشعراء الروس أمثال دستويفسكي، وتولستوي، وغوغول، وبوشكين، وتشيكوف، ولرتمنتوف، وعلى الرغم من عشقه شغفه بالحياة الروسية ولكن ظل قلبه متعلقًا باللغة العربية الذي فُتن بها منذ صباه.
اكتشف ميخائيل بعد ذلك الكتاب الروس الجديد، فعكف على قراءة مؤلفات الكُتاب الشباب أمثال مكسيم غوركي، وأرونبورنسكي، وزولوتاريف، وأعجب بالتجديد في أسلوبهم وتمنى أن يكون هناك تجديد في الأدب والشعر العربي مثلهم، ومن هنا جاءت نزعة التجديد لديه.
بعد أن تحصل ميخائيل نعيمة المعارف في البلاد الروسية، عاد إلى لبنان، وكان ينوي أن يسافر إلى فرنسا ليكمل تعليمه العالي في جامعة السوربون العريقة، ولكن أقنعه شقيقه الذي يقيم في الولايات المتحدة الأمريكية أن يرافقه إلى واشنطن، وكان ذلك في عام 1911.
سافر نعيمة برفقة أخيه إلى نيويورك، وستغربت الرحلة فوق الثلاثين يومًا، وكتب في مذكراته "سبعون" رحلته من لبنان إلى أمريكا، ويقول "بسكنا...بيروت...نابولي... مرسيليا.... باريس... شربورغ... نيويورك... رحلة في البرّ والبحر استغرقت من الأيام ومن الليالي فوق الثلاثين، وتناولت من الكرة الأرضية نصفَها. ما أكبرك أيتها الأرض... وما أصغرك اليوم... وغدا سوف تصبحين أصغر منك اليوم، ثم يأتي يوم نذكرك فيه كما نذكر السرير الذي احتوانا في عهد الطفولة".
بعد وصوله إلى أمريكا شرع في تعلم اللغة العربية واستعان بقاموس من وضع يوحنا أبكاريوس، والتحق بجامعة واشنطن، وحصل على شهادة في الآداب، وأخرى في الحقوق، وبعدها غادر الجامعة واتجه إلى مدينة "والا والا" وهي مدينة هادئة وبدأ إسهاماته الأدبية.
لم يتزوج نعيمة في حياته، ولكنه أحب فتاة روسية أثناء دراسته في روسيا ولم يتمكن الزواج منه، وقد وصى عند وفاته أن يترك باب ضريحه مفتوحًا لعل الفتاة الروسية التي أحبها تأتي إليه في يوم ما.
حياته الأدبية
بدأ ميخائيل نعيمة إسهاماته الأدبية في روسيا، فحينما كان يدرس في "السمنار" نظم قصيدة "النهر المتجمد" باللغة الروسية، وعندما وصل إلى نيويورك نظم قصيدة "الدردور الرهيب" عام 1916 وكانت باللغة الإنجليزية.
حينما سافر إلى أمريكا اكتشف ميخائيل المجددون من الأدباء العرب الذين يعيشون في المهجر الأمريكي، وخصوصًا جبران خليل جبران، وقد تعرف على مجلة "فنون" التي أشرف عليه صديقه في المدرسة في فلسطين نسيب عريضة.
بعد حصوله على الشهادة الجامعية انتقل إلى مدينة "والا والا" وأمضى فيها العطلة الصيفية، وفيها انكب على القراءة، وألف مسرحية "الآباء والبنون" في ثلاثة أسابيع، ثم انتقل إلى نيويورك، وهناك عثر على عمل براتب زهيد.
فضّل ميخائيل الانتقال إلى بنسلفانيا بعثًا عن عمل ذي عائد مادي أعلى، وقبل أن يغادر نيويورك ترجم إلى اللغة العربية قصيدة "النهر المتجمد" التي كتبها باللغة الروسية، ونشرها في مجلة فنون، وجاءته العديد من الرسائل المهنئة على هذا التجديد.
وفي هذه القصيدة نقرأ فيها ما يلي:
أخي، من نحن؟ لا وطن، ولا أهل ولا جار
إذا نمنا، إذا قمنا، ردانا الخزي والعارُ.
لقد خمّنت بنا الدنيا كما خمّنت بموتانا.
فهات الرفش واتبعني لنحفر خندقا آخر
نُواري فيه أحيانا.
في عام 1917 أرسل ميخائيل إلى جبهة القتال، وقد كتب كتاب حمل عنوان "مذكرات الأرقش"، وعمقت الحرب التجربة الروحية والفكرية له، فازداد تأملًا في قضايا الحياة والموت والمصير.
بعد الحرب عاد إلى مدينة "والا والا" ثم سرعان ما غادرها إلى نيويورك، وهناك اكتشف نماذج جديدة من الأدب المهجري التي تجسدت في قصائد إيليا أبو ماضي، فانشغل بالتجديد في الأدب العربي شكلًا ومضمونًا.
كان نتاج هذا التجديد تأسيس "الرابطة القلمية" التي ولدت في نيويورك سنة 1920، وانطلاقًا من العشرينات بدأ اسم هذه الرابطة ينتشر، وشاعت مؤلفاته في الصحف، وانتشر هذا التجديد خارج شعراء وأدباء المهجر.
شرع ميخائيل في نشر سلسلة من المقالات التي جمعها في كتاب حمل عنوان "الغربال" وتحدث فيه عن اللغة والنقد والشعر وغيرها.
في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، وبعد وفاة جبران خليل جبران غادر نعيمة الولايات المتحدة وليس معه إلى 500 دولارًا فقط، وعاد إلى لبنان وعاش حياة الزهد، فسكن قريته وكتب العديد من المؤلفات.
ميخائيل نعيمة ناسك الشخروب
عاد ميخائيل إلى لبنان عام 1932 وسكن في مسقط رأسه بلدة بسكنتا، وتحديدًا على تلة خارجها اسمها "الشخروب" وهناك اعتزل قارئًا وكاتبًا ومتأملًا وألف العديد من الكتب، ولهذا السبب حصل على لقب "ناسك الشخروب".
في الشخروب كتب نعيمة العدي من المؤلفات، حيث نشر مجموعته القصصية الأولى سنة 1937 التي حملت عنوان "كان يا ما كان"، ونشر مجموعة قصصية أخرى بعنوان "أكابر" عام 1956، ومجموعة ثالثة بعنوان "أبو بطة" عام 1958، ومجموعة رابعة بعنوان "هوامش عام 1965.
وفي المسرح كتب نعيمة مسرحية "أيوب" عام 1967، أما في الشعر فقد كتب مجموعة الشعرية الوحيدة همس الجفون" وتحتوي على عدة قصائد منظومة باللغة العربية، وأخرى معربة، وصدرت المجموعة عام 1945.
كانت له عدة روايات كذلك، منها "لقاء"، و"كتاب مرداد: رواية فلسفية"، و"مذكرات الأرقش"، و"اليوم الأخير"، و"يا ابن آدم"، وقد زادت عدد مؤلفات عن الثلاثين مؤلفًا.
عندما بلغ ميخائيل نعيمة السبعين من عمره كتب سيرته الذاتية "سبعون" ظنًا منه أنه يقترب من الوفاة، ولكن امتد به العمر ليرحل عن عالمنا عام 1988، وتكريمًا له تحولت الشخروب إلى معلم سياحي.
في الشخروب تجد مسجمًا تكريمًا لنعيمة في الصخر، نحته النحات اللبناني عساف عساف، وأصبحت نقطة جذب سياحية لمحبيه من المثقفين والأدباء والتلامذة والقراء، وقبالة النحت جب صنين العالي.