يعد عالم النفس الأمريكي كارل روجرز واحد من أهم مؤسسي علم النفس الإنساني، وقد اشتهر بشكل خاص بنهجه الثوري في العلاج النفسي والذي يركز حول الشخص أو العميل، لذا يعتبر على نطاق واسع أحد الآباء المؤسسين لأبحاث العلاج النفسي وتم تكريمه أكثر من مرة بسبب أبحاثه الرائدة في مجال علم النفس، تعرف أكثر على مسيرته المهنية وأهم إنجازاته في هذا المقال.
من هو كارل روجرز؟
كارل رانسوم روجرز هو عالم نفسي أمريكي ولد في 8 يناير عام 1902 في سان دييغو في كاليفورنيا وهو واحد من أهم علماء النفس وأهم رواد العلاج النفسي الأوائل وأكثرهم تأثيرًا.
اشتهر روجرز بنظرياته المبتكرة حول العلاج النفسي، كما عرف بنهجه العلاجي الفريد من نوعه فأحدث ثورة حقيقية في مجال فهم السلوك النفسي وقدرته على تقديم مساعدة للأفراد من أجل تحقيق ذواتهم.
عرف روجرز بتطوير الأسلوب العلاجي الذي عرف باسم "العلاج المتمركز حول العميل أو الشخص" ويركز فيها على العلاقة بين المعالج والعميل إيمانًا بقدرة المريض على النمو والتغيير من خلال معرفة الذات الحقيقية للإنسان ومساعدتها للتعبير عن نفسها.
لم تقتصر مساهمات روجرز في مجال علم النفس فقط، بل امتدت أيضًا إلى مجال التعليم والتربية حيث آمن بأهمية خلق بيئة تعليمية تركز على احتياجات الطالب الفردية وتشجع على التعلم الذاتي واكتشاف الإبداع ولا يزال أسلوبه نهجًا يمارسه المعالجون والمربون والباحثون كذلك.
نشأته وتعليمه
ولد كارل روجرز في إلينوي في ولاية شيكاغو لأسرة من الطبقة المتوسطة. والده كان مهندسًا مدنيًا ووالدته كانت ربة منزل، وقد نشأ في أسرة متدينة تنتمي إلى الكنيسة البروتستانتية.
لدى روجرز 5 إخوة وهو الطفل الرابع، وقد كان طفلًا ذكيًا جدًا، فقد تمكن من القراءة بشكل جيد قبل الذهاب إلى الحضانة، كما أن نشأته الدينية الصارمة والتربية الدينية الأخلاقية الحازمة جعلته طفلًا منضبطًا ومستقلًا ومنعزلًا بعض الشيء.
أحب روجرز الدراسة منذ طفولته، وقد حظي بتقدير معلميه في المدرسة وتمكن فيما بعد إلى الدراسة في جامعة ويسكونسن ماديسون، وقد درس الزراعة أولًا بعدها قرر دراسة التاريخ ثم اتجه إلى دراسة الدين في الجامعة.
في عام 1922 سافر روجرز إلى الصين من أجل حضور مؤتمر مسيحي دولي، وبعد عودته من رحلته بدأ يشكك في معتقداته الدينية وقد أثر ذلك على ميوله الدراسية أيضًا، لذا حضر ندوة في الجامعة بعنوان "لماذا أدخل الوزارة" وبعدها قرر تغيير مهنته.
تخرج روجرز من جامعة ويسكونسن عام 1924 وبعدها التحق بمدرسة الاتحاد اللاهوتية في نيويورك وبمرور الوقت أعلن أنه أصبح ملحدًا، وبعد عامين من الدراسة في المدرسة تركها والتحق بكلية المعلمين في جامعة كولومبيا وحصل على درجة الماجستير عام 1927 ثم درجة الدكتوراه عام 1931.
خلال تحضيره للدكتوراه اهتم روجرز بدراسة نفسية الأطفال، حيث درس مع عالم النفس النمساوي ألفريد أدلر في الفترة من عام 1927 و1928 وتدرب في معه إرشاد الطفل في مدينة نيويورك.
تعلم روجرز الكثير من دكتور أدلر، وعن تجربته في هذه الفترة يقول روجرز: "اعتدت على المنهج الفرويدي الصارم الذي يتبعه المعهد اللاهوتي، ولكن عندما تعاملت مع الدكتور أدلر بشكل مباشر صدمتني طريقته البسيطة والمخادعة والمتعلقة بالطفل، واستغرق الأمر مني بعض الوقت لأدرك أنني تعلمت الكثير منه".
ديانة كارل روجرز
رغم أنه ولد في عائلة مسيحية متدينة ودرس الدين في الجامعة وانضم إلى جماعات دينية خلال دراسته إلا أنه في بداية العشرينات من عمره بدأ التشكيك في معتقداته الدينية حتى صرح في النهاية أنه أصبح ملحدًا.
ورغم أن صفة ملحد لازمته طوال حياته تقريبًا، إلا أنه في سنواته الأخيرة تحدث كثيرًا عن الروحانية، حيث اعترف بوجود بعد آخر في الحياة مثل الصوفي والروحية وهو الأمر الذي استشفه خلال تجربته المهنية وانفتاحه على تجارب الآخرين، لذا فضّل البعض بوصفه بأنه "عالم روحي" بدلًا من كونه ملحدًا.
زوجة كارل روجرز
تزوج روجرز عام 1924 من زميلته في جامعة ويسكونسن اسمها أوك بارك، وقد رزق بابنته اسمها "ناتالي روجرز والتي أكملت مشوار والدها وتعد من أوائل المساهمين في مجال علم النفس الإنساني وعلم النفس المتمركز حول الشخص والعلاج بالفنون التعبيرية. لديه ابن آخر اسمه ديفيد إليوت روجرز.
مسيرته المهنية
في عام 1930 وبعد إنهاء رسالة الدكتوراه شغل مارك روجرز منصب مدير جميعة منع القسوة على الأطفال في نيويورك في الفترة من عام 1935 إلى عام 1940، وخلال شغله هذا المنصب كان محاضرًا في جامعة روتشستر.
كتب روجرز أيضًا كتاب بعنوان "العلاج السريري للطفل الذي يعاني من مشكلة" وفيه يروي تجربته وخبرته في العمل مع الأطفال المضطربين نفسيًا، وتأثر بشدة بأسلوب عالم النفس أوتو رانج.
في عام 1940 أصبح روجرز أستاذا لعلم النفسي السريري في جامعة ولاية أوهايو، وخلال هذه الفترة كتب كتابه الثاني "الإرشاد والعلاج النفسي" وفيه بدأ الترويج إلى نظريته في العلاج النفسي حيث رأى أن المعالج يمكنه مساعدة العميل في حل الصعوبات واكتساب البصيرة من أجل إعادة هيكلة حياته من خلال إقامة علاقة تفهم وتقبل بين العميل والمعالج.
في عام 1945 شارك روجرز في إنشاء مركز استشاري في جامعة شيكاغو، وبعدها بعامين تم انتخابه رئيسًا لجمعية علم النفسي الأمريكية، كما ساعد في إنشاء مركز استشاري آخر في الجامعة حينما كان يعمل أستاذَا في جامعة شيكاغو في الفترة من عام 1945 إلى عام 1957.
درّس روجرز أيضًا علم النفسي في جامعة ويسكنسون وظل يرف الكتب النفسية التي حققت نجاحًا كبيرًا وأصبح من أهم رواد العلاج النفسي في الولايات المتحدة، وفي عام 1961 تم انتخابه زميلًا في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم.
ظل روجرز يدرس في جامعة ويسكونسون حتى عام 1963 وبعدها أصبح معالجاً مقيماً في معهد العلوم السلوكية الغربية، وظل يعمل فيه حتى بقية حياته حيث كان يقوم بجلسات علاج ويقوم بمؤتمرات وخطب كما ألف العديد من الكتب المهمة.
أهم أعمال كارل روجرز
ألف كارل روجرز العديد من الكتب والمؤلفات في العلاج النفسي، وكان كتابه الأول بعنوان "العلاج السريري للطفل الذي يعاني من مشكلة" ونشر عام 1939 وقد كتبه بعد تجربته في علاج الأطفال المضطربين نفسيًا.
في عام 1942 صدر له كتابه الثاني "الإرشاد والعلاج النفسي" والذي روج فيه لنظريته في العلاقة بين المعالج والعميل، حيث رأى أن إقامة علاقة تفهم وقبول بينهما يساعد العميل على حل مشكلاته النفسية.
في عام 1951 نشر كتاب "العلاج المتمركز على العميل" ثم كتاب "العلاج النفسي"، وكتاب "تغيير الشخصية". أما أشهر كتبه على الإطلاق كتاب بعنوان "كيف تصبح شخصًا" الذي أصبح ثورة في عالم الطب النفسي.
في عام 1977 ألف كتاب "القوة الشخصية" وتحدث فيه عن نظريته في بناء الشخصية، وفي عام 1983 ألف كتاب بعنوان "حرية التعلم في الثمانينات".
بين أعوام 1974 و1984 تعاون روجرز مع ابنته العالمة النفسية ناتالي روجرز وعدد من علماء النفس الآخرين منهم ماريا بوين ومورين واهارا وغيرهم وقدموا عددًا من البرامج العلاجية الداخلية في الولايات المتحدة ودول أخرى مثل اليابان والبرازيل وعدد من الدول الأوروبية.
قام روجرز أيضًا بورش عمل طبق فيه نظرياته على النهج المتمركز على العميل والتواصل بين الثقافات والنمو الشخصي وتمكين الذات.
من هو صاحب نظرية الذات في علم النفس؟
نظرية كارل روجرز هي من أشهر النظريات في علم النفس، فوفقًا لروجرز الذات هي كينونة الفرد التي تكون منفصلة تمامًا عن المجال المدرك، والذات ينمو ويظهر نتيجة تفاعل الإنسان مع بيئته أو من خلال الخبرات التي يمر بها في حياته.
وقد قسم روجرز مفهوم الذات إلى 3 مفاهيم أساسية، وأنواع الذات عند كارل روجرز هي كالتالي:
المفهوم الأول هو "الذات المدرك" وهي ذات الشخص كما يعتقدها هو، والمفهوم الثاني المفهوم الاجتماعي وهي الصورة التي يرى فيها الفرد كيف يتصوره الأشخاص الآخرون في المجتمع، ويتمثل هذا الأمر في تفاعله معه.
أما المفهوم الثالث للذات هو المفهوم المثالي وهي الصورة المثالية التي يرغب كل فرد في أن يكون عليها. يرى روجرز أن أهمية معرفة مفهوم الذات تكمن في قدرة الفرد على تنظيم خبراته المتغيرة بسبب التفاعلات الاجتماعية أو الدافع الداخلي لكل إنسان في تحقيق ذاته.
يرى روجرز أن مفهوم الذات هو مفهوم شعوري، ولكنه في الوقت نفسه يشمل عناصر لا شعورية لا يعيها الإنسان. يأتي من ضمن نظرية الذات الخبرة، وهي كل تجربة أو موقف يعيشه الفرد ويتفاعل فيه مع الآخرين، والخبرات التي لا تتوافق مع مفهوم الذات قد تهدد الفرد وتسبب له التوتر.
أما الفرد فهو الدافع الأساسي والمستمر لتحقيق الذات، وأحيانًا قد يصدر عن الفرد سلوك لا يتفق مع مفهومه عن ذاته بسبب الخبرات التي مر فيها في حياته مما يسبب له التوتر، وهذا يعني أنه من مقومات نظرية التمركز حول الذات هي الخبرة والفرد.
العلاج المتمركز حول العميل
تبلورت نظرية كارل روجرز في الشخصية بشكل واضح في الطريقة التي اتبعها في العلاج النفسي وهي "العلاج المتمركز حول العميل" والتي تعتبر من أحدث طرق العلاج النفسي والتي يتبعها ملايين الأطباء النفسيين حول العالم حتى الآن.
يهدف هذا النوع من العلاج على مساعدة العميل على النمو النفسي وإعادة هيكلة حياته من جديد، وليس فقط تقديم له المساعدة لحل مشكلة معينة فقط في حياته. يهدف هذا العلاج أيضا إلى الوصول إلى أكبر قدر من التطابق بين مفهوم الذات المدرك والمثالي والذات الاجتماعي.
يهدف أيضًا العلاج إلى التركيز على المشاعر السلبية التي قد تصدر من العميل ومساعدته على مواجهتها والاعتراف بها من أجل التخلص منها وهو ما يكون مفهوم ذات إيجابي ومساعدة الإنسان على تكوين اتجاه جديد صحيح في الحياة ودعم الثقة بالنفس والذات
يقوم النموذج العلاجي لكارل روجرز على مجموعة من الافتراضات الأساسية، ومنها أن الإنسان خير بطبيعته ومدفوعة للقيام بالأفضل، وأن الأشخاص الأصحاء نفسيًا يكونون على وعي بسلوكياتهم ودوافعهم من أجل السلامة النفسية.
يعتمد النموذج العلاجي أيضًا على أن الإنسان يميل إلى تحقيق ذاته وتحقيق الاستقلال والتحكم في بيئته وسلوكه، كما أن أن السلوك يستجيب لمؤثرات مختلفة منها البيئة والدوافع الداخلية والذات كذلك.
أما الافتراض الأهم الذي يقوم عليه هذا النمط العلاج أن الإنسان قادر على حل مشكلاته إذا نجح المعالج في إقامة علاقة بينه وبين العميل تتميز بالدفء والقبول والفهم مما يساعد العميل على أخذ قراراته بنفسه بشكل مستقل.
لذا يرى روجرز أهمية المقابلة بين المعالج والعميل من أجل جمع المعلومات وتكون المسافة بينهما صغيرة من أجل خلق جو من الألفة والمحبة، ويجب على المعالج أن يكون مستمعا جيدًا وقادرًا على الإصغاء بشكل جيد ويمنحه الفرص عن تفريغ انفعالاته من أجل التخلص من التوتر والقلق.
يأتي ذلك بعدها مهمة المعالج حيث يعكس فيها مشاعر العميل من أجل مساعدته على فهم مشاعره، ثم تأتي فقرة السؤال حيث يبدأ المعالج بتوجيه أسئلة لها ارتباط وثيق بمشكلة العميل.
وفاة كارل روجرز
في عام 1987 تعرض كارل روجرز إلى كسر في الحوض بعدما سقط وأجريت له عملية جراحية ناجحة، إلا أنه في اليوم التالي فشل البنكرياس وتوفي بعدها بأيام بسبب نوبة قلبية في 4 فبراير عام 1987 عن عمر 85 عامًا.
وبعد وفاته تم الترويج إلى أشهر عباراته وأقواله حول الموت حيث قال: "الموت نهائي، وقبول ذلك هو أصعب شيء يجب القيام به. ذلك الشخص المحبوب لن يعود ولا شيء يمكن أن يغير ذلك. الحياة ثمينة وضعيفة، لذا كن حكيماً في كيفية اختيارك لإنفاقها، لأنه بمجرد وصول الموت فلا رجعة".