من رحم المأساة دائما ما يولد الإبداع، وبعض الناس رغم أن حياتهم قصيرة على الأرض لكن أعمالهم جعلتهم خالدين في أذهان الناس بفنهم وإبداعهم الاستثنائي، من بين هؤلاء الرسام الهولندي فينسنت فان جوخ الذي عاش لمدة 37 عاما فقط ولكنه ترك بعضا من أكثر القطع الفنية شهرة وشعبية وأغلاها سعراً في العالم والتي ما زالت تعرض في أكبر متاحف العالم حتى الآن.
ولد فان جوخ يوم 30 مارس عام 1853، وتوفي يوم 29 يوليو 1890، عن عمر يناهز 37 عاما فقط، ملأها بالفن والإبداع، وكان والده قس في كنيسة هولندية، ودرس في مدرسة داخلية في زيفين برجين لمدة عامين وانتقل إلى مدرسة الملك ويليم الثاني الثانوية في تيلبورغ لعامين أيضا، وترك الدراسة عندما كان عمره 15 عاما.
انضم فان جوخ في عام 1869 لمؤسسة "جوبيل وسي" وهي شركة لتجار الفن في لاهاي واستمر بالعمل فيها لمدة 7 سنوات ثم انتقل إلى فرع الشركة في مدينة لندن بإنجلترا واستمر فيها لمدة عامين وزار العديد من المعارض الفنية والمتاحف، وأبدى إعجابه بـالنقاشين البريطانيين الذين تأثر بهم فيما بعد.
ثم انتقل إلى فرع الشركة في باريس لمدة عام قبل أن يتركها في 1876 ليعود إلى إنجلترا وعمل في مجال التعليم بمدرسة القس وليام، ثم عاد مجددا إلى هولندا وعندما فشل في دراسة علم اللاهوت سافر إلى منطقة التنقيب عن الفحم بمنطقة بوريفاج في بلجيكا بتوصية من الكنيسة ولم يستمر طويلا حتى قرر احتراف الفن.
انتقل فان جوخ إلى بروكسل في عام 1880 وبدأ دراسة الفن في مدرسة الفنون الجميلة ببروكسل لمدة قصيرة، ثم استمر في دراسة الرسم بمفرده، وساعده ابن عمه، وكانت رسوماته المبكرة عن عمال مناجم الفحم في بوريفاج.
كما صور فينسنت الحياة العائلية الهادئة مع بعض الإحساس باليأس، وبدأ في رسم اللوحات الزيتية عام 1882، وترك لاهاي وانتقل إلي درينتي الهولندية لرسم المناظر الطبيعية البعيدة مع سكانها، واهتم بالفلاحين المحليين وأنتج خلال هذه الفترة عشرات الرسوم منها لوحات الحياك والغزالين.
في عام 1885 رسم لوحة "آكلو البطاطا" وهي إحدى أشهر لوحاته والتي تعرف بأنها أول قطعة حقيقية نادرة له، وبعد ذلك انتقل إلى مدينة باريس في فرنسا سعيا للمزيد من النجاح وعرضت أعماله في عدد من المعارض الفنية.
ولكن توترت علاقته بأخيه وبعد عامين قرر الانتقال إلى جنوب فرنسا ورسم عددا من أشهر لوحاته الفنية منها لوحة "منظر طبيعي لطريق وأشجار مشذبة"، ولوحة "الطريق عبر حقل الصفصاف".
بدأت علامات المرض النفسي تظهر على فان جوخ وفي إحدى النوبات العقلية قام بقطع جزء من أذنه بشفرة حلاقة وعندما اكتشفت الشرطة الحادثة تم نقله إلى المستشفى، وعانى من الاكتئاب واستمر في زيارة الطبيب ثم انتقل إلى مارسيليا ورسم عددا كبيرا من لوحاته قبل أن يصاب بنوبة عقلية أخرى ويدخل إلى المستشفى.
وتم تشخيصه بالصرع وبعد استقرار حالته سمح له الدكتور بالاستمرار في الرسم ورسم لوحته الأفضل "ليلة النجوم"، ولكنه عانى مجددا من المزيد من النوبات العقلية في عام 1890.
أطلق فان جوخ الرصاص على نفسه يوم 27 يوليو 1890 واستقرت الرصاصة في صدره ولم يستطع الأطباء إنقاذه حتى فارق الحياة بعد يومين من المعاناة مع إصابته القاتلة.
هل قتل أم انتحر؟
تم التشكيك في رواية انتحار فان جوخ أكثر من مرة وفي عام 2011، نشر الصحفيان ستيفن نايفة وجريجوري سميث، سيرة ذاتية للفنان يؤكدان فيها أنه قتل واعتمادا على أنه لم يتم العثور على المسدس الذي انتحر به كما أنه لم يتم العثور على أدواته التي كان يستخدمها في الرسم، بجانب أن رسوماته الأخيرة لا توحي بأي كآبة أو اضطرابات عقلية ورسائله لأخيه كانت تؤكد شعوره بارتياح صحي ونشاط إبداعي.
وقبل ذلك بمدة طويلة، في الثلاثينيات من القرن الماضي زار الأكاديمي الأمريكي جون رونالد المنطقة التي كان يعيش فيها فان جوخ الذين تداولوا شائعات بأن الفنان قتل بالخطأ على يد بعض الصبية وأنه تحمل الذنب ليحميهم، حيث كان منهم أحد الصبية الذي يحب أفلام رعاة البقر واشترى مسدسا كان يطلق النار بالخطأ في بعض الأحيان.
يقول النقاد إن فان جوخ حاول في أعماله التقاط أكبر قدر ممكن من الضوء في لوحاته خاصة التي تعتمد على المظاهر الطبيعية كما يعتبر من رواد الانطباعية والوحشية، وبفضل موهبته فإن أعماله تعرض حتى الآن في متحف أورساي بباريس وفي متحف فان جوخ الوطني في أمستردام بهولندا، حيث قال في إحدى المرات عن نفسه: "لا أشعر أني حي إلا عندما أرسم".
وخلال 10 سنوات أنتج عددا كبيرا من اللوحات التي لا تزال محل دراسة من طلبة الفنون الجميلة، حيث رسم جوخ ما يزيد عن 2100 لوحة، منها 860 لوحة زيتية و1300 لوحة مائية بجانب رسومات ومخططات ومطبوعات أخرى.
وتعد من أشهر لوحاته: "آكلو البطاطا"، و"البيت الأصفر"، و"شارع السرو ونجمة"، و"غرفة نوم في آرل"، و"غروب الشمس في مونامور"، و"ليلة النجوم"، و"زهور عباد الشمس"، و"مقهى ليلي"، والأب اللاعب"، ولوحة "الرجل ذو الغليون" والتي رسم فيها نفسه حاملا غليونا وعلى أذنه ضمادة، قبل انتحاره رسم آخر لوحاته "جذوع الشجرة" والتي لا تحتوي إلا على جذور أشجار متداخلة جافة.
متلازمة فان جوخ
بسبب الحالة العقلية التي كان مصابا بها تم إطلاق اسمه على نوع من أنواع المرض النفسي ليصبح معروفا بـ"متلازمة فان جوخ" وهي حالة عقلية تصيب البالغين، حيث يقوم المريض بإيذاء نفسه ودائماً ما تكون هذه الحالة مصاحبة لمرض نفسي آخر، ويمكن للمريض أن يقوم بإيذاء نفسه بأكثر من طريقة مختلفة.