يعد الطبيب والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون واحدًا من أشهر المؤرخين الأجانب الذين اهتموا بالحضارات العربية والإسلامية والشرقية.
تميزت أعماله بالحيادية والموضوعية في الحكم على الحضارة العربية الإسلامية، كما اعترف في أعماله بفضل الحضارة العربية والإسلامية على الحضارة الغربية الأوروبية، تعرف أكثر عليه في السطور التالية.
حياة غوستاف لوبون ونشأته
تشارلز ماري جوستاف لوبون هو عالم، ومستشرق وطبيب ومخترع فرنسي ولد في نوجينت لو روترو، فرنسا في 7 مايو عام 1841 لعائلة من أصل بريتون، وهي مجموعة عرقية موطنها بريتا.
والدته هي أنيت جوزفين، ووالده تشارلز لوبون كان موظفًا إقليميًا في الحكومة الفرنسية، وحينما كان لوبون يبلغ من العمر 8 سنوات حصل والده على منصب جديد في الحكومة.
لا يُعرف الكثير عن طفولته، باستثناء أنه درس في مدرسة ثانوية في تور، وكان طالبًا غير استثنائي.
في عام 1860 بدأ دراسته الطبية في جامعة باريس، وأكمل تدريبه وحصل على الدكتوراه في عام 1866، وبعدها أطلق على نفسه طبيب، على الرغم من أنه لم يعمل رسميًا كطبيب.
خلال سنوات دراسته الجامعية كتب لوبون مقالات عن الموضوعات الطبية، ومنها ما يتعلق بالأمراض التي يعاني منها من يعيشون في ظروف تشبه المستنقعات. نشر كذلك عدة مقالات عن داء الفيلاريات، والاختناق. أصدر لوبون كتابه الكامل عام 1866، وتناول كتابه تعريف الموت.
حياته في باريس
بعد تخرجه من الجامعة بقي غوستاف لوبون في باريس، وعلّم نفسه الإنجليزية والألمانية من خلال قراءة أعمال شكسبير بكل لغة. كما استمر في كتابة وتأليف العديد من الدراسات الفسيولوجية.
كتب لوبون كتاباً مدرسي حول التكاثر الجنسي عام 1868، وبعدها انضم إلى الجيش الفرنسي كضابط طبي بعد اندلاع الحرب الفرنسية البروسية في يوليو عام 1870.
وخلال الحرب نظم لوبون فرقة من سيارات الإسعاف العسكرية، وفي الحرب كتب عن القيادة وسلوك في الإنسان في حالات التوتر والمعاناة، ونالت كتاباته وأفكاره الثناء من الجنرالات.
دُرست كتاباته لاحقًا في الأكاديميات العسكرية في فرنسا، وفي نهاية الحرب حصل على لقب فارس ووسام جوقة الشرف.
في عام 1871 شهد لوبون "كومونة باريس" هي حكومة ثورية استولت على السلطة في باريس، وأثر هذا الحدث على نظرته للعالم، وشاهد عبينه حرق العديد من الأعمال الفنية في قصر التويلري ومكتبة اللوفر.
ومنذ هذا الحدث أصبح معارضًا للاشتراكيين والحمائيين، حيث اعتقد أنهم يقفون أمام التطور العسكري لفرنسا، ويخنقون نموها الصناعي كذلك.
رحلاته الاستشراقية
أصبح غوستاف لوبون بعد ذلك مهتمًا بالأنثروبولوجيا، وسافر في جميع أنحاء أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا، وتأثر بتشارلز داروين وهربرت سبنسر، وإرنست هيكل، حيث دعم الحتمية البيولوجية، والنظرية الهرمية للأجناس والجنس.
وخلال بحثه اخترع مقياس رأس محمول للمساعدة في قياس الخصائص الفيزيائية للشعوب البعيدة، ونشر عام 1881 ورقة بعنوان "بوصلة الإحداثيات" أو "مقياس الجيب" يشرح فيها اختراعه وتطبيقه.
في عام 1884 كلفته الحكومة الفرنسية بالسفر في جميع أنحاء آسيا وإعداد تقارير عن الحضارات هناك، وكتب في رحلاته عدد من الكتب، وتتطور لديه رؤية أن الثقافة تتأثر بشكل كبير بالعوامل الوراثية مثل السمات العرقية الفريدة للناس.
أصدر لوبون أول كتاب له عام 1884 "حضارة العرب" وفي هذا الكتاب أشاد بالعرب بسبب مساهماتهم في الحضارة، ولكنه انتقد الإسلام السياسي باعتباره عاملًا من عوامل الركود.
وصف ثقافة العرب كذلك بأنها متفوقة على ثقافة الأتراك، وكانت ترجماته مصدر إلهام للقوميين العرب الأوائل.
تبع رحلاته في شمال إفريقيا رحلات إلى نيبال، ليصبح أول فرنسي يزور نيبال، وألف كتاباً عن رحلته هناك وصدر عام 1886.
في عام 1887 ألف كتاب عن "حضارة الهند" وأشاد فيها بالهندسة المعمارية والفن والدين الهندي، ولكنه جادل بأن الهنود أدنى نسبيًا من الأوروبيين فيما يتعلق بالتقدم العلمي، وهذا ما سهل الهيمنة البريطانية على الهند.
ثم ألف في عام 1889 كتاب "تاريخ الحضارات الأولى" وقدم فيه لمحة عامة عن حضارات بلاد ما بين النهرين والهند، والصين ومصر.
وفي العام نفسه ألقى خطابًا أمام المؤتمر الاستعماري الدولي انتقد فيه سياسات الاستعمار التي تضمنت محاولات الاستيعاب الثقافي، حيث قال "اتركوا للسكان الأصليين عاداتهم ومؤسساتهم وقوانينهم".
في عام 1893 ألف كتابًا مرة أخرى عن حضارة الهند، وأشاد مرة أخرى بالإنجازات المعمارية للشعب الهندي.
نظرياته العلمية والفيزيائية
سافر لوبون في معظم أسفاره على ظهور الخيل، ولاحظ أن تقنيات تربية الخيول تختلف باختلاف المنطقة، وعندما عاد إلى باريس رماه حصانه ونجا بصعوبة من الموت، فقرر أن يدرس الحصان.
درس لوبون ما فعله الفرس، وألف كتاب به العديد من الصور الفوتوغرافية للخيول أثناء السير، وبجانب كل صورة تحليل لوبون، وأسهم هذا الكتاب في تطوير سلاح الفرسان.
استنبط لوبون دراساته حول سلوك الخيول لتطوير نظريات حول تعليم الطفولة المبكرة، وأثارت نظرياته حول سلوك الخيول أيضًا اهتمامًا بعلم النفس، وكتب كتابًا في علم النفس اسمه "السنن الفطرية لتطور الأمم".
أنشأ لوبون مختبرًا منزليًا، وفي عام 1896 أبلغ عن ملاحظة "الضوء الأسود" وهو نوع جديد من الإشعاع الذي يُعتقد أنه يختلف عن الأشعة السينية وأشعة الكاثود.
على الرغم من أنه لم يتم تأكيد وجود الإشعاع، ولكنه جذب اهتمامًا كبيرًا بين العلماء في فرنسا، حتى إنه تم ترشيحه لجائزة نوبل في الفيزياء عام 1903 بسبب اكتشافه ذلك.
تنبأ لوبون حول تكافؤ الكتلة والطاقة، وأرسل رسالة إلى ألبرت أينشتاين عام 1922 حول هذا الأمر، وأجاب أينشتاين وأقر أنه تم اقتراح معادلة الكتلة والطاق، وكانت النظرية النسبية فقط هي من أثبتت ذلك بشكل مقنع.
كتب لوبون كذلك عن ظهور قوة جديدة، وهي الطاقة داخل الذرة، كما ذكر أن العالم الذي سيكتشف طريقة لفصل غرام واحد من أي معدن بسرعة لن يشهد نتائج تجاربه، حيث سيكون الانفجار الناتج عن ذلك هائلًا لدرجة أن مختبره وجميع البيوت المجاورة ستُسحق تمامًا.
توقف لوبون عن بحثه في الفيزياء عام 1908، وعاد مرة أخرى إلى دراسة علم النفس، وألف عدة مؤلفات في علم النفس من عام 1910 إلى 1914 ووضح فيها وجهات نظره حول الفكر العاطفي والعقلاني، وتاريخ الحضارة، وعلم نفس العرق.
وفاته
واصل غوستاف لوبون الكتاب طوال الحرب العالمية الأولى، وفي عام 1920 استقال من منصبه كأستاذ لعلم النفس والعلوم بجامعة باريس وتقاعد في منزله.
أصدر بعد ذلك عدة كتب في علم النفس، وأعطى وجهة نظره عن العالم خلال فترة ما بين الحربين، وفي عام 1929 حصل على وسام جوقة الشرف، وتوفي لوبون في 13 ديسمبر عام 1931 في سن التسعين.