عبقري الموسيقى ومايسترو التجربة الفنية التي لا تزال ساطعة حتى يومنا هذا، كتب ولحن كل شيء لفيروز وكون مع شقيقه منصور ظاهرة فنية عُرفت باسم "الأخوين رحباني" إنه المؤلف الموسيقي عاصي الرحباني الذي ابتكر موسيقاه بإلهام من طبيعة لبنان.
حياة عاصي الرحباني ونشأته
عاصي حنا إلياس الرحباني هو مؤلف موسيقي وشاعر ومسرحي لبناني، ولد في 4 مايو عام 1923 في قرية أنطلياس شمال بيروت لوالديه حنا إلياس الرحباني، ووالدته سعدي صعب.
نشأ الرحباني في بيئة ريفية، فقد تربى بين البساتين والمزارع وأثر ذلك على طفولته والموسيقى التي ألفها، وقضى جزءًا هامًا من طفولته في مقهى الفوار الذي سمع فيه القصص والأشعار من الموروث اللبناني الشعبي وحفظها.
عشق عاصي الموسيقى منذ صغره، وفي مراهقته لم يتمكن من الانضمام إلى جوقة الكنيسة التي أسسها الأب بولس الأشقر الأنطوني، ولكن لم يمنعه ذلك من متابعة دروس الموسيقى خلسة من النافذة.
تمكن عاصي بعد ذلك من أن يحقق حلمه بالانضمام إلى الجوقة عندما سأل الأب أنطوني الطلبة سؤالًا ولم يستطع أحدًا الإجابة عليه، فبادر عاصي وجاوب بنفسه، وحينها أعجب به الأب أنطوني وجعله يدرس في الجوقة.
تتلمذ عاصي على يد الأب بولس لمدة 6 سنوات تعلم خلالها الموسيقى والألحان الشرقية والكنسية، وبعدها درس الموسيقى الغربية على يد الأستاذ برتران روبيار.
أولى الآلات الموسيقية التي تعلم عاصي العزف عليها كانت الكمان، وبعدها تعلم العزف على البيانو، ثم البزق الذي استخدمه في عزف ألحان رئيسية العديد من المرات، كما كانت هذه الآلة المحطة الأولى لألحان عاصي.
بعد رحيل والده اضطر العاصي للعمل في البلدية في النهار والعف على الكمان ليلًا، أما أخوه منصور بفقد عمل في الشرطة القضائية، ثم دخل عاصي الإذاعي في نهاية الأربعينيات بصفته عازفًا وملحنًا.
مرضه ووفاته
في شهر سبتمبر عام 1972 أصيب عاصي الرحباني بنزيف حاد في الجهة اليسرى من دماغه ونقل فورًا إلى المستشفى، حيث قال الأطباء أن سبب النزيف عوامل وراثية، وتدخين مفرط وقلة الراحة.
تحدث الأطباء عن ضرور إجراءه عملية جراحية عاجلة لإنقاذ حياته من الموت، ولكن ربما تنتج عن الجراحة آثار جانبية خطيرة مثل العمى، أو الشلل، أو تلف الدماغ أو جميعها معًا.
أجرى له العملية الأستاذ في جامعة الطب ورئيس قسم جراحة الدماغ والنخاع الشوكي البروفسور لوغرو، وفي العملية تفاجئ الجراح بأن الدم متجمد بسبب النزيف ووصل سمكه إلى ستة سنتيمترات ونصف.
وصف الجراح بأن هذه العملية كانت الأخطر والأدق على الإطلاق، حيث قال إن دماغ عاصي أكبر حجمًا من أدمغة 55 مريضًا أجرى لهم عمليات مماثلة حول العالم، وأن حجم دماغه الكبير ساعده على تحمل وطأ النزيف ومنع حصول مضاعفات تؤدي إلى الشلل.
سرت العملية بنجاح ونجى عاصي من حالته الحرجة، وبعد أقل من شهر خرج من المستشفى وتمكن من المشي، وكان شفاءه سريعًا بشكل أدهش الأطباء.
بعد مرور أقل من 3 أشهر على أزمته الصحية تمكن عاصي من العودة للتلحين مجددًا وبدا اللحن حزينًا، وكان أول لحن يؤلفه بعد أزمته الصحية.
بعد مرور أقل من أربعة أشهر على الحادثة والجراحة استأنف عاصي عمله بشكل طبيعي، وفي عام 1973 أي بعد عام ونصف على مرضه كتب لفيروز أغنية "يا قلبي لا تتعب قلبك" التي غنتها في افتتاح مهرجان بعلبك لهذا العام.
في أوائل الثمانينات أدخل عاصي إلى المستشفى أكثر من مرة، وكانت آخرها عام 1986، حيث دخل في غيبوبة دامت لمدة 6 شهور، ورحل عن عالمنا في 21 يونيو عام 1986 في يود عيد الموسيقى.
مشواره الفني
كانت باكورة أعمال عاصي الرحباني الفنية في قريته أنطلياس، حيث كان يكتب منشورات وقصص وأخبار ويوقعها بمجموعة من الأسماء المستعارة، كما كان يكتب تمثيليات جريئة على المجتمع، ومنها "عذارى الغدير"، و"تاجر حرب"، و"عرس في ضوء القمر".
كانت هذه المسرحيات تُعرض في القرية في البداية، ولاحقًا عُرضت في مسرح الوست هول في الجامعة الأمريكية في بيروت، كما تم عرضها في الجونيور كولدج التي أصبحت كلية بيروت الجامعية، ثم الجامعية اللبنانية الأمريكية.
أصبح عاصي بعد ذلك من أبرز مؤسسي ورواد الحركة الرومانسية الفنية في الشرق الأوسط، وقد تميزت كلماته بالبساطة في الشكل والفكرة والعمق في المعنى والدلالة والأناقة في الموضوع والأسلوب.
في ألحانه وأشعاره ومسرحياته تأثر عاصي بمعلمه الأب بولس الأنطوني فيما يتعلق بتوزيع الموسيقى والغناء المتعدد الأسوات، فابتكر أسلو خاص به في التوزيع، وهو عبارة عن تحديد دور كل آلة موسيقية في تأدية اللحن.
كان عاصي يؤمن بتعدد الإمكانات الموسيقية مثل الحرف والكلمة، لذا لم تقتصر النقلة التي أحدثها في الموسيقى على اللحن والتوزيع، وإنما على تقنيات الأداء، سواء عند تسجيل الأغاني أو الأداء المباشر على المسرح.
وفيما يتعلق بالكورال في الأغاني فقد كانت له نظر وأسلوب خاص يتمثل في توحيد نبرة الصوت التي تعطي أبعادًا درامية للكلمة أو الحالة الجمالية، فأصبح لكورال عاصي شخصية متفردة ومستقلة.
في الإذاعة عمل عاصي ملحنًا وكانت شقيقتها الكبرى سلوى تغني في الإذاعة تحت اسم "نجوى" وقدمت أولى أعمالها الغنائية "يا ساحر العينين"، و"سمراء مها"، التي أعادت فيروز تسجيلها فزادت شهرتها.
أصبح عاصي بعد ذلك الملحن الرئيسي في الإذاعة، وبعدها قرر ترك وظيفته في البلدية والتفرغ للعمل في الإذاعة، كما استقال شقيقه من الشرطة القضائية وبدأ اسم "الأخوين رحباني" في الظهور بشكل لافت في الخمسينات.
عاصي الرحباني وفيروز
التقى عاصي بفيروز لأول مرة في كواليس الإذاعة اللبنانية عام 1950، وقدما معًا العديد من الأغاني التي ذاع صيتها، منها أغنية "حبذا يا غروب" من كلمات الشاعر قبلان مكرزل، وأغنية "بلمح ظلال الحب بعيونو" من أسطوانات بيضافون، وأغنية "رد يا أسمر لمحاتك".
تمكن عاصي مع فيروز من ترجمة مشاعر إلى أغانٍ عبرت عن قصة حب حقيقية، منها أغانٍ عتاب، وقف يا أسمر، ويابا لالا، ومين دلك، وراجعة، وحياة عينو وغيرها من الأغاني التي طبعت على أسطوانات ذودفون.
كانت كل هذه الأغاني تحمل لون غنائيًا وموسيقيًا جديدًا، وما بين مؤيد ومعارض نجحت هذه الأغاني في فرض حالة جادة من النقاش حول الأساليب التقليدية التي ستصبح قديمة فيما بعد.
كتب عاصي ولحن كل الأغاني لفيروز، فقدم كانت جميع الأعمال المسرحية من بطولة فيروز، ومنها "المحكامة"، و"موسم العز"، و"البعلبكية"، و"جسر القمر"، و"بياع الخواتم"، و"دواليب الهوا"، و"أيام فخر الدين"، و"هالة والملك"، و"الشخص"، و"ناطورة المفتايح" وغيرها.
قدما معًا أيضًا أغانٍ أزلية لا تزال الأجيال ترددها حتى الآن منها "نحنا والقمر جيران"، و"تحت العريشة" ومع تصاعد وتيرة الإبداع الفني توجت قصة الحب بين فيروز وعاصي بالزواج في عام 1955، ورزقا بأربعة أبناء وهم زيادة وهلي وليال وريما.
قضى الزوجان شهر عسلهما في القاهرة سجلا خلال أعمالًا فنية هامة في إذاعة صوت العرب في القاهرة، ومنها "احكيلي حكاية طويلة"، و"راجعون"، و"بيتنا في الجزيرة"، و"يا دار بتلوح" وغيرها.
ومع صدور الإسطوانات سجلا معًا العديد من الأغاني الحديثة منها "البنت الشلبية"، و"يا مايلة ع الغصون"، والأغاني الفلكلورية مثل "يا غزيل ويا حنية"، وغيرها.
لم تقتصر أعمال عاصي الرحباني على المسرح والإذاعة، فقد ألف مع شقيقه قصة وسينارو وحوار وموسيقى 3 أفلام من بطولة فيروز، وهم "بياع الخواتم" عام 1965، و"سفربرلك"، عام 1967، و"بنت الحارس" عام 1968.
انفصل عاصي عن فيروز عام 1987، ولكن لم يتوقف عاصي في التلحين لفيروز، وبعد وفاته عام 1986 وفي أحد الحفلات لفيروز انهمرت بالدموع على خشبة المسرح بعد أن غنت أغنية "سألوني الناس" وهي تقول "بيعز علي غني يا حبيبي ولأول مرة ما بنكون سوا".