يعد الملحن والموسيقار الروسي ديمتري شوستاكوفيتش واحد من أهم الملحنين في القرن العشرين، وقد تميز بتقديم موسيقى بأسلوب فريد مزج فيها بين التقليدية والابتكار، وبين العاطفة والتعبير، وخلال مسيرته الفنية قدم ما يصل إلى 15 سيمفونية، والعديد من أعمال الأوبرا، ونالت موسيقاه شهرة عالمية.
برزت موسيقى ديمتري وسط الحروب والدمار خلال الحرب العالمية الثانية، وقد كانت الموسيقى التي قدمها بمثابة السلاح الذي استخدمه بدلًا من رصاص البندقية والمدفعيات، في هذا المقال نسلط الضوء على حياة الملحن العبقري، وأهم إبداعاته.
معلومات عن ديمتري شوستاكوفيتش
ديمتري ديمترييفيتش شوستاكوفيتش هو ملحن وعازف بيانو سوفيتي، ولد في 25 سبتمبر عام 1906، ويعتبر أحد أعظم الملحنين في القرن العشرين. وُلد في سانت بطرسبرغ، روسيا، وكان طفلاً معجزة في الموسيقى.
اشتهر شوستاكوفيتش بسيمفونياته، حيث كتب 15 سيمفونية. من بين أشهر أعماله السيمفونية الخامسة والسيمفونية السابعة (لينينغراد) التي ألّفها خلال حصار لينينغراد في الحرب العالمية الثانية.
ألف ديمتري كذلك العديد من أعمال الموسيقى الحجرية، والكثير من أعمال الأوبرا، والموسيقى التصويرية، وقد برز خلال الحرب العالمية الثانية.
وعلى الرغم من علاقته المعقدة مع الاتحاد السوفيتي، فتارة يتم الاحتفاء به، وتارة أخرى يتعرض لانتقادات شديدة، إلا أنه استمر في كتابة وتأليف الموسيقى التي حملت في طياتها رسائل خفية عبّر من خلالها عن آرائه ومواقفه، وقد نال خلال الخمسينيات والستينيات الاعتراف الدولي.
ترك شوستاكوفيتش إرثًا موسيقيًا غنيًا ومعقدًا، ويعتبر عمله مزيجًا من الحداثة والتقليد، وعكس تعقيدات وتحديات الحياة في الاتحاد السوفيتي. موسيقاه تستمر في الإلهام والتأثير على الموسيقيين والمستمعين في جميع أنحاء العالم.
نشأته وحياته المبكرة
ولد ديمتري شوستاكوفيتش في عائلة روسية غنية في سانت بطرسبرغ، وهو الابن الثاني من بين 3 أطفال. تعود أصول ديمتري إلى سيبيريا وبولندا، وقد أصبح جده من والده مصرفيًا غنيًا في مدينة إيركوتسك الروسية. كان والده مهندسا درس الفيزياء والرياضيات في جامعة سانت بطرسبرغ.
كان ديمتري عاشقًا للموسيقى منذ طفولته، وقد أظهر موهبة موسيقية في البيانو منذ سن التاسعة، وأظهر بمرور الوقت تطورًا ملحوظًا في قدراته الموسيقية، وقد كان قادرًا على عزف موسيقى صعبة بمفرده دون مساعدة من معلمه.
عندما بلغ ديمتري سن الثالثة عشر، وتحديدًا في عام 1919، التحق بمعهد برتوجراد الموسيقي، وهناك لمس موهبته رئيس المعهد ألكسندر جلازونوف، وراقب تقدمه، وتعلم على أيدي أمهر الموسيقيين في المعهد، منهم نيكولاي مالكو، وغيرهم.
زوجاته
تزوج ديمتري شوستاكوفيتش من نينا فارزار في عام 1932، إلا أنه انفصل عنها عام 1935، ثم تزوجها مرة أخرى بعدما حملت زوجته بطفلتهما الأولى جالينا، والتي أصبحت عازفة بيانو شهيرة أيضًا.
في عام 1953 تزوج للمرة الثانية من مارغريتا كاينوفا، وكانت ناشطة في الاتحاد السوفيتي، إلا أنه انفصل عنها بعد 5 سنوات من الزوج، وفي عام 1962 تزوج للمرة الثالثة من إيرينا سوبينسكايا، وكان زواجه سعيدًا، وقيل إنه عاش السلام الأسري أخيرًا خلال زواجه منه.
بداية مسيرته المهنية كموسيقار
في عام 1925 تمكن ديمتري من قيادة أوركسترا المعهد الموسيقي لتقديم سيمفونية بيتهوفن الأولى، وكان هذا العام الذي قدم فيه أول موسيقى له عُزفت في موسكو، إلا أن الجمهور استقبل أولى تجاربه في تأليف الموسيقى ببرود.
حقق ديمتري شوستاكوفيتش نجاحًا كبيرًا حينما انتشرت له السيمفونية الأولى، والتي كتبها في سن 19 عامًا فقط، وبالفعل نجح في تقديمها مع أوركسترا المعهد الموسيقي عام 1925، وحقق حفله الأول نجاحًا كبيرًا، وظل يحتفل بتاريخ طهوره السيمفوني الأولى طوال حياته.
بعد التخرج من المعهد بدأ ديمتري مسيرته المهنية كعازف بيانو في الحفلات، وملحن موسيقي، ورغم مهارته، إلا أن أسلوبه الجاف في العزف على البيانو كان محل انتقاد الكثيرين.
في عام 1927 شارك ديمتري في مسابقة شوبان الدولية الأولى للبيانو، ورغم أنه لم يحصل على المركز الأول، إلا أنه واصل مسيرته كفنان موسيقي، وبعدها كتب سيمفونيته الثانية واسمها "إلى أكتوبر" وهي موسيقى وطنية مؤيدة للسوفييت، إلا أنها لم تلقَ نفس القبول الذي حظيت به سيمفونيته الأولى نظرًا لحداثتها.
قدم ديمتري في عام 1929 أول أوبرا له وهي أوبرا ساخر للروائي الروسي غوغول، وبعد تقديم هذه الأوبرا تعرض لانتقادات عديدة من عدة صحف روسية، وخاصة صحيفة برافدا، والتي كانت تروج بشكل سيئ إلى حفلاته الموسيقية التي كان يقدمها بانتظام.
ساهم الهجوم المتكرر من صحيفة برافدا إلى تقليل عمولته في الحفلات الموسيقية، وفي عام 1936، وخلال فترة التطهير العظيم في روسيا، قتل العديد من أفراد عائلته وأصدقائه.
أسلوب موسيقى ديمتري شوستاكوفيتش
تميز أسلوب دميتري شوستاكوفيتش الموسيقي بالتنوع والتعقيد، مما يجعله واحدًا من أكثر الملحنين تميزًا في القرن العشرين، وقد عكست الموسيقى التي قدمها حياته وتعقيداته الشخصية والسياسية، مما يجعله واحدًا من أكثر الملحنين تأثيرًا وتنوعًا في تاريخ الموسيقى.
جمع شوستاكوفيتش بين مجموعة متنوعة من الأنماط الموسيقية، مثل الرومانسية والحداثة والكلاسيكية، مما أعطى موسيقاه طابعًا فريدًا ومعقدًا، وعُرفت موسيقاه بالتعبير القوي عن المشاعر، حيث يمكن أن تكون درامية ومكثفة، مع تحولات مفاجئة في المزاج والوتيرة.
استخدم شوستاكوفيتش السخرية والهجاء في موسيقاه، مما يعكس تجربته الشخصية والسياسية في الاتحاد السوفيتي، وهذه العناصر يمكن أن تكون دقيقة، وتتطلب فهماً عميقاً للتاريخ والسياق لفهمها بشكل كامل.
اعتمد ديمتري على تقديم ألحان قوية وجذابة، غالبًا ما تكون بسيطة، ولكنها تتطور بشكل معقد، فيما استخدم هارمونية جريئة ومتنوعة، مما أعطى موسيقاه طابعًا حداثيًا ومبتكرًا، كما اهتم بالإيقاعات المعقدة والمتغيرة.
كتب شوستاكوفيتش العديد من الأعمال الأوركسترالية، بما في ذلك 15 سيمفونية، وكلها تُظهر مهاراته الفائقة في التوزيع الأوركسترالي، كما استخدم رموزًا موسيقية مشفرة لنقل رسائل سياسية وشخصية، وكانت موسيقاه غالبًا تعبر عن التوترات والصراعات التي واجهها في ظل النظام السوفيتي، مما جعلها تعكس تجربته الشخصية والتاريخية بشكل عميق.
أعمال دميتري شوستاكوفيتش
قدم دميتري شوستاكوفيتش نحو 15 سمفونية خلال حياته، وقد حققت سمفونيته الأولى التي قدمها عام 1925 نجاحًا كبيرًا، وانتشرت بسرعة في جميع أنحاء العالم، وفي هذه السمفونية أظهر تأثره الواضح تشايكوفسكي.
في عام 1927 كتب سمفونيته الثانية "إلى أكتوبر"، وكانت سمفونية وطنية أيد فيها الاتحاد السوفيتي، وفي عام 1929 قدم السمفونية الثالثة، وفي عام 1936 قدم سمفونيته الرابعة.
في عام 1937 كتب ديمتري سمفونيته الخامسة، والتي كانت بمثابة رد منه على الانتقادات التي واجهها بسبب الموسيقى التي يقدمها، وحقق بسبب هذه السمفونية نجاحًا عالميًا، وفي سمفونيته الرابعة والخامسة، اقتيس دميترس أجزاء من موسيقى سابقة له، وعدل عليها وأضاف إليها.
كانت أشهر أعمال دميتري شوستاكوفيتش الأكثر شهرة هي السيمفونية السابعة، والتي كتبها خلال الحرب العالمية الثانية، وعرضت في روسيا ولندن والولايات المتحدة، وحققت نجاحًا كبيرًا.
في عام 1953 قدم سمفونيته العاشرة، وقد لاقت قبولًا كبيرًا، وقد صدرت في نفس عام وفاة ستالين، كما توفي الموسيقار بروكوفييف، وبوفاته أصبح ديمتري رأس الموسيقى الروسية.
علاقة دميتري شوستاكوفيتش بالاتحاد السوفيتي
كانت علاقة الموسيقار دميتري شوستاكوفيتش بالاتحاد السوفيتي معقدة ومليئة بالتوتر، حيث تأثرت موسيقاه وحياته بشكل كبير بالسياسات والرقابة التي فرضتها الحكومة السوفيتية، ولكنه تمكن من التعبير عن نفسه بشكل مبتكر وخلاق.
جذبت الموسيقى التي قدمها دمتري الجمهور والنقاد إليه، وسرعان ما أصبح من أشهر الموسيقيين الواعدين في روسيا، ولكنه تعرض لانتقادات لاحقة بسبب تأثر الموسيقى التي قدمها بالموسيقى الغربية، في وقت كانت الاتحاد السوفيتي يرغب في تقديم موسيقى وطنية خاصة به.
كانت أوبرا "نوس"، و"ليدي ماكبث" التي قدمها سببًا في تعرضه لحملة انتقادات حادة، رغم تحقيقها نجاحًا كبيرًا في البداية، وقد لاقى انتقادات من قبل السلطات السوفيتية، خصوصًا من جريدة "برافدا"، مما أثر بشكل كبير على مسيرته.
انتقدت جريدة برافدا عام 1936 مقالة بعنوان "فوضى بدلاً من الموسيقى" ينتقد أوبراه "ليدي ماكبث"، ووصفها بأنها "فوضى موسيقية"، مما وضع شوستاكوفيتش في موقف صعب وأجبره على إعادة تقييم أسلوبه الموسيقي.
بعد هذا النقد، اتجه شوستاكوفيتش إلى كتابة السيمفونيات والأعمال الأوركسترالية التي كانت أكثر قبولًا من قبل النظام السوفيتي، مثل السيمفونية الخامسة التي نُظر إليها كعمل تصالحي.
في عام 1940، وخلال الحرب العالمية الثانية، كتب دميتري سمفونيته السابعة "لينينغراد" والتي أصبحت رمزًا للصمود السوفيتي ضد الحصار النازي، وحظيت بإعجاب كبير داخل وخارج الاتحاد السوفيتي.
ورغم نجاح هذه السمفونية، إلا أن دميتري لم يكن في مأمن المضايقات، وكان عليه بسبب ذلك أن يوازن دائمًا بين التعبير الفني، والرقابة السياسية المفروضة عليه من قبل الاتحاد السوفيتي.
بعد الحرب العالمية الثانية، واجه دمتري انتقادات مرة أخرى من قبل السلطات السوفيتية خلال حملة "زادنوف" الثقافية، وهي حملة هدفت إلى قمع أي توجهات فنية غير سوفيتية، إلا أنه بوفاة ستالين عام 1953 بدأت الأمور تتحسن نسبيًا بالنسبة له، حيث حصل على بعض الاعتراف الرسمي، وأصبح عضواً في العديد من اللجان الثقافية، رغم أن توتراته مع النظام لم تنتهِ تمامًا.
ظل دمتري، وحتى في السنوات الأخيرة من حياته، في إنتاج موسيقى تعبر عن تعقيدات الحياة في الاتحاد السوفيتي، وتعكس تجاربه الشخصية والسياسية.
جوائز وتكريمات
حصل الموسيقار الروسي ديمتري شوستاكوفيتش على العديد من الجوائز طوال مسيرته الموسيقية، ففي عام 1966 حصل على لقب "بطل العمل الاشتراكي"، كما حصل على وسام لينين 3 مرات في سنوات 1946، و1956، و1966.
في عام 1971 حصل على وسام ثورة أكتوبر، وفي عام 1940 حصل على وسام الراية الحمراء، كما حصل على جائزة السلام الدولية في عام 1954، وجائزة الدولة للاتحاد السوفيتي في عام 1968، وجائزة جلينكا الحكومية لجمهورية روسيا الاتحادية عام 1974، وبعد وفاته حصل ديمتري على جائزة شيفتشينكو الوطنية عام 1976.
كان ديمتري عضوًا في الأكاديمية الملكية للعلوم والآداب والفنون الجميلة في بلجيكا، كما حصل على جوائز أخرى، منها جائزة ليوني سونينج للموسيقى، والميدالية الذهبية من الجمعية الفيلهارمونية الملكية.
ترشح ديمتري أيضًا لجائزة الأوسكار أفضل موسيقى تصويرية، عن الموسيقى التصويرية التي قدمها لفيلم Khovanshchina عام 1962.
سنواته الأخيرة والوفاة
بداية من السبعينات عانى ديمتري شوستاكوفيتش من أعراض صحية مختلفة، فقد عانى من مرض التصلب الجانبي الضموري، وبمرور الوقت لم يتمكن من تحريك يده اليمنى، لذا توقف عن العزف.
كان دميتري مدخنًا شرهًا طوال حياته، كما كان يشرب الخمر باستمرار، وفي عام 1966 اضطر إلى الإقلاع عن التدخين بعدما عانى من نوبة قلبية، وفي عام 1973 تم تشخيصه بسرطان الرئة.
توفي دمتري في 9 أغسطس عام 1975 في مستشفى في موسكو بعمر 68 عامًا، ودفن في مقبرة نوفوديفيتشي في موسكو.
بعد وفاته ترك العديد من التسجيلات لأعماله الخاصة على البيانو، كما كان تأثيره على الملحنين من بعده كبيرًا، وقد تم تسمية جزيرة على اسمه في جنوب جزيرة ألكسندر.
تم اكتشاف عدد من مخطوطاته في عام 2004، وقد عرضت المخطوطات في متحف جلينكا المركزي الحكومي للثقافة الموسيقية في موسكو، وقد ضمت المخطوطات حوالي 300 صفحة من الرسومات والنوتات الموسيقية.
مذكرات ديمتري شوستاكوفيتش
في عام 1979 تم نشر مذكرات ديمتري شوستاكوفيتش على يد عالم الموسيقي الروسي سولمون فولكوف، وقد حمل الكتاب اسم "شهادة" ورغم شهرته، إلا أن صحته وصحة المعلومات التي به لا تزال محل نزاع حتى وقتنا هذا.
وقد ادعى فولكوف أن ديمتري قد قرأ ووافق على نصوص الكتاب قبل وفاته، وقد قدم الكتاب نظرة عميقة على حياة شوستاكوفيتش وآرائه حول العديد من القضايا، بما في ذلك آراؤه حول النظام السوفيتي، ومواقفه السياسية، وتجربته مع الرقابة والاضطهاد. يعرض الكتاب شوستاكوفيتش كناقد للنظام السوفيتي، ويقدم رؤى حول تجاربه الشخصية والمهنية.
واجه فولكوف انتقادات وتشكيكاً شديد من قبل العديد من الشخصيات الموسيقية في روسيا، كما أن بعض أفراد عائلة ديمتري ادعوا أن الكتاب لا يعكس آراء ديمتري الفعلية، إلا أن بعض النقاد اعتبروا أن الكتاب صحيح، وخاصة أن أعماله الموسيقية تعتبر وثيقة هامة تم منها الكشف عن آرائه السياسية المختلفة.