نشأت في فترة كان العمل بالتمثيل عيبًا، فتمردت على عادات مجتمعها وقاطعت عائلتها 3 سنوات من أجل الفن، إنها الفنانة بهيجة حافظ التي سطرت اسمها كواحدة من أهم رائدات السينما في الإنتاج والتمثيل والإخراج وتأليف الموسيقى التصويرية، وتعد أكثر فنانة مصرية مظلومة، فعلى الرغم من ثرائها الفني ولكنها لم تلقَ الشهرة والتكريم المناسب وكانت نهايتها مأساوية.
حياة بهيجة حافظ ونشأتها
بهيجة إسماعيل محمد حافظ هي ممثلة ومؤلفة موسيقى، ومخرجة وكاتبة مصرية ولدت في 4 أغسطس عام 1908 في مدينة الإسكندرية وتعلمت هناك، ونشأت في أسرة أرستقراطية.
والدها هو إسماعيل محمد حافظ باشا ناظر الخاصة السلطانية في عهد السلطان حسين كامل، ووالدتها قريبة إسماعيل صدقي رئيس وزراء مصر في عهد الملك فؤاد الأول
نشأت بهيجة في أكثر تعشق الموسيقى، فقد كان والدها هاويًا للموسيقى وكان يؤلف الأغاني ويلحنها، وكان يعزف على عدة آلات منها العود، والقانون، والبيانو، والرق، أما والدتها فكانت تعزف على الكمان والفيولنسيل، وأخوتها كانو يعزفون على آلات مختلفة أيضًا.
تعلمت بهيجة الموسيقى على يد المايسترو الإيطالي جيوفاني بورجيزي الذي كان يقود فرقة موسيقية في الإسكندرية، وكان عمرها 9 سنوات تقريبًا، وكان يتردد على قصرهم في حي "محرم بك" بالإسكندرية، وكان صديقًا لوالدها.
درست بهيجة قواعد الموسيقى الغريبة وتعلمت العزف على البيانو في سن مبكرة، وتمكنت من تأليف أول مقطوعة موسيقية وهي بعمر التاسعة من عمرها فقط، وأعجب بها والدها كثيرًا وسمى المقطوعة باسم "بهيجة" ثم ألفت بعد ذلك مقطوعتين موسيقيتين الأولى اسمها "من وحي الشرق"، والثانية "معلهشي".
سافرت بهيجة بعد ذلك إلى فرنسا وحصلت على شهادة في التأليف الموسيقي من هناك، وكانت أول مصرية تُقبل عضوة في جمعية المؤلفين في باريس.
تزوجت بهيجة في سن صغير حينما كانت تبلغ من العمر 12 عامًا من رجل إيراني لا يحب الموسيقى ولم يهتم بهوايتها، ذا طلبت منه الطلاق، وبعد طلاقها ووفاة والدها انتقلت من منزل أسرتها في الإسكندرية واستقرت في القاهرة لتبدأ حقبة جديدة من حياتها.
تزوجت بهيجة بعد ذلك للمرة الثانية من محمود حمدي وأسست معه شركة للإنتاج ثم تزوجت للمرة الثالثة من رجل غير معروف.
مشوارها الفني
حصلت بهيجة حافظ على دبلوم الموسيقى من فرنسا، وبعدها سافرت إلى برلين ودرست الإخراج والمونتاج، وكانت أول مصرية تنضم إلى جمعية المؤلفين في باريس، وأصدرت أول أسطوانة موسيقية لها عام 1926.
حققت بهيجة شهرة كبيرة بفضل الموسيقى التي كانت تؤلفها، وتمكنت من خلال الموسيقى دخول عالم التمثيل، حيث أصبحت أول مؤلفة موسيقى تصويرية في مصر.
سعت بهيجة إلى إنشاء أول نقابة للمهن الموسيقية، وتمكن من القيام بذلك عام 1937، وفي الوقت نفسه كانت تنتج الأفلام السينمائية وتشارك في التأليف والإخراج من خلال شركتها "الفنار".
عملها في مجال السينما
بدأت علاقة بهيجة حافظ بالسينما عام 1930 من خلال الموسيقى، حيث ذاعت شهرتها في عالم الموسيقى بفضل تأليفها موسيقى تصويرية، ونشرت مجلة "المستقبل" صورتها على غلاف المجلة باعتبارها "أول مؤلفة موسيقية مصرية".
كانت المجلة وقتها يصدرها إسماعيل وهبي المحامي شقيق الفنان يوسف وهبي، وظهرت في هذه المجلة وهي ترتدي البرقع والطرحة، وبسبب هذه الصورة اكتشفها المخرج محمد كريم الذي كان يبحث عن بطلة لفيلمه الصامت "زينب".
بالفعل قامت بهيجة ببطولة الفيلم الصامت "زينب" وهو فيلم مقتبس من رواية الكاتب محمد حسين هيكل، ووضعت بهيجة الموسيقى التصويرية للفيلم، لتصبح أول امرأة تقوم بهذا الدور، وتكونت الموسيقى التصويرية من 12 مقطوعة موسيقية.
بسبب مشاركتها في السينما كممثلة اشتغلت أزمة كبيرة بينها وبين أسرتها، وتبرأت منها أسرتها لمدة 3 سنوات على الرغم من أسرتها تحب الموسيقى والفن، ولكن كان التمثيل في هذه الحقبة شيئًا معيبًا.
في هذا الفيلم مثلت أمام سراج منير، وزكي رستم، ودولت أبيض، وعلوية جميل، وعبد القادر المسيري، وبسبب عدم خبرتها في مجال التمثيل اعتمد المخرج على عازف كمان ليلحن لها أثناء التمثيل لتتمكن من إعطاء تعبير حزين، وخاصة بأنه تمثيل صامت يعتمد على إعطاء انفعالات مطلوبة حاول تعليمها التمثيل.
بسبب هذا الفيلم لم تقاطعها أسرتها فقط، بل كل إسكندرية اضطهدوها، ولكن عندما عُرض الفيلم في الإسكندرية لأول مرة قررت والدتها مشاهدة الفيلم، وعندما شاهدت مشهد وفاة ابنتها في الفيلم أغشي عليها ظنًا منها بأن ابنتها ماتت بالفعل، ولكن بهيجة طمأنت والدتها.
بعد نجاح تجربتها في فيلم "زينب" قررت إنشاء شركة إنتاج سينمائي حملت اسم "فنار فيلم" وأنتجت عدة أفلام منها "الضحايا"، و"ليلى بنت الصحراء" وأخرجت الفيلمين بنفسها، وكان فيلم "ليلى بنت الصحراء" أول فيلم مصري ناطق يعرض في مهرجان برلين السينمائي ويحصل على جائزة ذهبية في المهرجان.
شاركت كذلك في أفلام "الضحايا" و"الاتهام"، وألفت الموسيقى التصويرية ل5 أفلام من أصل 7 أفلام مثلت فيها، ومنها أفلام "السلوى"، و"السيد أحمد البدوي".
أزمة فيلم "ليلى بنت الصحراء"
يعد فيلم "ليلى بنت الصحراء" الذي أنتج عام 1937 علامة فارقة في مسيرة بهيجة حافظ الفنية، حيث أنتجت الفيلم وقامت ببطولته، وألقت الموسيقى التصويرية الخاصة به، كما صممت الأزياء في الفيلم بعد اختلافها مع المخرج ماريو فولبي.
كان الفيلم يمثل حدثًا تاريخيًا فهو أول فيلم ناطق باللغة العربية الفصحى، وشارك فيه حسين رياض، وزكي رستم، وعبد المجيد شكري، وراقية إبراهيم.
تكلف إنتاج الفيلم 18 ألف جنيه مصري، وهو رقم ضخم في هذه الحقبة، وعُرض الفيلم في مهرجان برلين وحصل على الجائزة الذهبية، وعندما كان على وشك أن يُعرض في مهرجان البندقية صدر قرار حكومي بمنع عرض الفيلم في الداخل والخارج لأسباب سياسية.
ففي هذه الفترة اعتبرت الحكومة الإيرانية أن الفيلم يُسيء إلى تاريخ كسرى أنوشروان ملك الفرس القديم، وكان منع الفيلم سببًا في إفلاس شركة الإنتاج، واضطرت بهيجة إلى الانقطاع عن الإنتاج لمدة تصل إلى 10 سنوات وتكبدت خسائر مالية كبيرة بسبب مصادرة الفيلم.
إفلاس شركة الإنتاج
بعد انقطاع دام 10 سنوات عن الإنتاج عادت بهيجة مجددًا إلى الإنتاج عام 1947 من خلال فيلم "زهرة السوق" من إخراج حسين فوزي والمونتير كمال أبو العلا، والفيلم من تأليف بهيجة، وسيناريو وحوار إبراهيم حسين العقاد.
لعبت بهيجة في هذا الفيلم دور البطولة وقدمت شخصتين وهما "بهيجة"، و"زهرة" وشارك في الفيلم علوية جميل، وعبد الفتاح القصري، وكمال حسين، وأحمد منصور، واشترك في الغناء المطرب اللبناني وديع الصافي الذي كان وقتها مطربًا مغمورًا.
ضم الفيلم عدة أغنيات ألفت بهيجة الموسيقى الخاصة بها ولحنتها، كما وضعت الموسيقى التصويرية للفيلم، وعلى الرغم من كل هذه الجهود لم يحقق الفيلم نجاحًا كبيرًا وأفلست مرة أخرى لتصبح نهاية مؤسفة لرائدة من رائدات السينما.
ابتعدت بهيجة بعد ذلك عن السينما لسنوات ولم تعد إلى في عام 1968 في دور قصير في فيلم "القاهرة 30" من إخراج صلاح أبو سيف، وقدمت في الفيلم دورة الأميرة السابقة شويكار.
صالونها الثقافي
في الفترة التي توقفت فيها بهيجة عن إنتاج الأفلام وابتعادها عن التمثيل وإفلاس شركتها عاودت نشاطها الموسيقى مرة أخرى، فأنشأت أول نقابة عمالية للموسيقيين عام 1937 وظلت هذه النقابة قائمة حتى عام 1954.
بالإضافة إلى ذلك أنشأت صالونًا ثقافيًا خاصًا في قصرها المجاور لقصر هدى شعراوي في شارع قصر النيل عام 1959، وكانت لها نشاط ثقافي وفني بارز، ويحضر في هذه الصالونات أسماء كبيرة منها الفنان محمد القصبجي.
كانت بهيجة أيضًا تنظم الندوات وفقرات غنائية تعزف فيها على البيانو، وحضر هذه الندوات عدد من الشعراء، منهم علي الجنبلاطي وروحية القليني، كما كانت تملك مكتبة ممتلئة بشتى الكتب عن الفن والأدب باللغتين العربية والفرنسية.
استضافت بهيجة كذلك الوفود الأجنبية من الفنانين والكتاب في بيتها، وحولت منزلها إلى جمعية ثقافية استمر نشاطها عام 1968.
نهايتها المأساوية
ابتعدت بهيجة حافظ تمامًا عن الوسط الفني وظلت طريحة الفراش لسنوات لم يسأل عنها أحد إلا القليل من معارفها، وتوفيت وحيدة في بيتها في 13 ديسمبر عام 1983 عن عمر 75 عامًا، واكتشف الجيران موتها بعد يومين من الوفاة.
حضرت شقيقتها سومة وابن شقيقها من الإسكندرية وشُيعت جنازتها دون أن يمشي فيها أحدًا من الفنانين، ودفنت في مدافن الأسرة في القاهرة، وكانت وفاتها هادئة، إذ لم يكتب النعي في الصحف ولم يتم إقامة العزاء لها.
في ذكرى مولدها احتفت بها شركة قوقل، وقالت الشركة في بيان إن أعمالها مهدت الطرق لبدأ العصر الذهبي للسينما المصرية في أربعينيات القرن الماضي، ونشرت صورة لها وهي ترتدي زيًا من تصميمها الخاص خلال هذه الحقبة الزمنية.