صاحب صوت خاشع وباكٍ، يتذكره المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها، فهو من أبرز قراء القرآن الكريم وأكثرهم شهرة، إنه الشيخ محمد صديق المنشاوي صاحب الصوت الباكي المليء بالخشوع والشجن الذي تحسب أنه يخشى الله وهو يقرأ القرآن الكريم.
ولد الشيخ المنشاوي في 20 يناير عام 1920 وهو قارئ قرآن كريم مصري وأحد أعلام المجال البارزين، ولد في مدينة المنشأة التابعة لمحافظة سوهاج، وأتم حفظ القرآن الكريم وكان عمره حينها 8 سنوات.
نشأ الشيخ المنشاوي في أسرة قرآنية عريقة، فأبوه هو الشيخ صديق المنشاوي، وجده تايب المنشاوي، وأخوه محمود صديق المنشاوي وكلهم كانوا قراء للقرآن الكريم، ولكنه تأثر بوالده وتعلم منه فن قراءة القرآن الكريم، وأصبحت عائلة المنشاوي رائدة لمدرسة متفردة في في تلاوة القرآن ويُطلق عليها الكثيرون "المدرسة المنشاوية".
سافر الشيخ المنشاوي إلى القاهرة مع عمه الشيخ أحمد السيد، وهناك حفظ ربع القرآن، وكان عمره آنذاك 7 سنوات، أي في عام 1927، وبعدها عاد إلى بلدته المنشأة وأتم فيها حفظ القرآن الكريم على مشايخ كبار، منهم الشيخ محمد النمكي، ومحمد أبو العلا، ورشوان أبو مسلم.
زوجة الشيخ محمد صديق المنشاوي وأولاده
تزوج الشيخ المنشاوي مرتين وله من زوجته الأولى أربعة أولاد وبنتين، ومن زوجته الثانية خمسة أولاد وأربع بنات، وتوفيت زوجته الثانية وهي تؤدي مناسك الحج قبل وفاته بعام.
انتشرت شائعة حول محاولة قتل الشيخ المنشاوي بالسم، حيث دعاه أحد الأشخاص إلى العشاء بعد إحدى سهراته وأوصى الطباخ بأن يضع السم في الطعام، ولكن الطباخ أخبر الشيخ بذلك، ولكن تخلوا هذه الحادثة من أية تفاصيل أو شهود.
عانى الشيخ محمد صديق المنشاوي بمرض دوالي المريء فنصحه الأطباء أن يتوقف عن قراءة القرآن، ولكن رغم مرضه ظل يقرأ القرآن الكريم حتى توفي في يوم الجمعة 5 ربيع الثاني عام 1389 هـ الموافق 20 يونيو 1969، وسبب وفاة الشيخ محمد صديق المنشاوي هو المرض.
جنازة الشيخ محمد صديق المنشاوي
كانت جنازة الشيخ محمد صديق المنشاوي جنازة مهيبة حضرها الآلاف وصلى عليه الآلاف في قريته في سوهاج. دفن الشيخ المنشاوي في مسقط رأسه بمدينة المنشأة جنوب محافظة سوهاج.
للشيخ محمد صديق المنشاوي بصمة خاصة في التلاوة، فتميز بصوت خاشع فيه مسحة من الحزن، ولهذا لُقب بصاحب الصوت الباكي، كما كان صوته قوياً، فكان يمكن أن يؤدي جملة طولها دقيقة أو دقيقتين على أربع درجات صوتية، وهذا شيء غير تقليدي عند باقي القراءة، فتميز بالصعود والهبوط والانتقال السريع في تلاوته.
ابتدأت رحلة الشيخ المنشاوي مع التلاوة بصحبة أبيه وعمه، حيث كان يتجول معهم في السهرات المختلفة حتى سنحت له الفرصة أن يقرأ منفردًا في عام 1952 في محافظة سوهاج، وبعدها تردد اسمه في الأنحاء.
تمكن الشيخ المنشاوي من تسجيل ختمة مرتلة كاملة مجودة في الإذاعة المصرية، وله كذلك قراءة برواية الدوري مع القارئ كامل البهتيمي، والقارئ فؤاد العروسي.
أيضًا للشيخ تسجيلات في بلاد مختلفة مثل سوريا، وليبيا، والكويت، والعراق، وإندونيسيا، وفلسطين وتلى القرآن الكريم في مساجد رئيسية في العالم كالمسجد الأقصى، والمسجد الحرام، والمسجد النبوي، وفي مكة والمدينة المنورة.
لقي الشيخ المنشاوي قبولًا حسنًا لعذوبة صوته، فضلًا عن إتقانه لمقامات القراءة، وفهمه لمعاني القرآن الكريم، فكان ينفعل حينما يتعمق في المعاني والألفاظ القرآنية.
حصل الشيخ المنشاوي على أوسمة من عدة دول، وكان على رأس قراء مصر في حقبة الخمسينات من القرن العشرين بجانب شيوخ كبار مثل عبد الباسط عبد الصمد.
كرمته مصر بعد وفاته وحصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، واختير "قارئ القرآن الأول" في القرن العشرين من عدد من الدول، كما منحته إندونيسيا أرفع أوسمتها، ومنحته سوريا وسام الاستحقاق.
أيضًا تحدثت الكثير من الكتب عن قصته وحياته، ومنها كتاب "أعلام الصعيد في القرن العشرين" لمحمد عبد الشافي القوصي، وكتاب "سفراء القرآن" لمحمد عبد العزيز.
لما زادت شهرة الشيخ محمد صديق المنشاوي ذهب إليه أحد وزراء حكومة عبد الناصر إلى المنشاوي، وقاله له الوزير "سيكون لك الشرف الكبير بحضورك حفلًا يحضره الرئيس عبد الناصر".
وحينها أجابه المنشاوي "ولمَ لا يكن هذا الشرف لجمال عبد الناصر نفسه أن يستمع إلى القرآن الكريم بصوت المنشاوي؟".
فكان المنشاوي صاحب عزة، وحينما سُئل عن سبب رفضه تلاوة القرآن أمام جمال عبد الناصر فقال: "أخطأ عبد الناصر حين أرسل أسوأ رسله إلي" حتى إنه امتنع عن ذكر اسم الوزير الذي تحدث معه.
ويُروى أن عبد الناصر كان يحب صوت المنشاوي، وطلبه لكي يقرأ القرآن الكريم في مأتم والده بالإسكندرية، ودعاه للمبيت في الغرفة المجاورة له، كما طلب من المسؤولين في الإذاعة بتسجيل القرآن الكريم كاملًا بصوته.
كان المنشاوي يسير على درب قدوته الشيخ محمد رفعت حيث عاش بشعار "قارئ القرآن لا يُهان"؛ ولهذا السبب رفض الذهاب لمبنى الإذاعة المصرية حينما طلبت منه حضور امتحان القبول بها، فلم يكن بحاجة إلى شهرتها، ورأى أنه تقليل منه أن يُعقد له هذا الامتحان.
ولما زادت شهرة المنشاوي وذاع صيته في عموم مصر كلها أرسل مدير الإذاعة مندوبًا إليه للحصول على تسجيل بصوته، حيث رفض أن يذهب ليسجل القرآن في الإذاعة وإنما ذهبت الإذاعة له، وسجل أجزاء من القرآن في قريته خلال شهر رمضان عام 1953، وبعدها أكمل تسجيله في الإذاعة لاحقًا.
قال الشيخ محمد متولي الشعراوي عن المنشاوي "من أراد أن يستمع إلى خشوع القرآن فليستمع لصوت المنشاوي. إنه ورفاقه الأربعة محمود خليل الحصري ومصطفى إسماعيل، وعبد الباسط عبد الصمد، ومحمود علي البنَّا يركبون مركبا، ويبحرون في بحار القرآن الزاخرة، ولن تتوقف هذه المركب عن الإبحار حتى يرث الله الأرض ومن عليها."
وقال الموسيقار محمد عبد الوهاب إن المنشاوي يمثل حالة استثنائية، فمن يتأمل مخارج حروفه يصعب عليه إيجاد وصف لعذوبتها، فقد منحه الله حنجرة رخيمة تلين لها القلوب، وحين يتلوا القرآن يجعلك تعيش معه أشد لحظات الخشوع، فتميز بالسرعة والتلقائية بجانب الهدوء وخفض الصوت.
ماذا قال الشيخ ابن عثيمين عن الشيخ المنشاوي؟
قال الشيخ ابن عثيمين أن قراءة الشيخ المنشاوي أقرب إلى السنة بخلاف قراءة البعض الذين يزيدون وينقصون في المدود. أما الشيخ بن باز فقال عن الشيخ المنشاوي "إنه الصوت الذي لا يمل سماعه".