مهرجان وأفلام .. خطوتان إلى الأمام للمجتمع "الكويري"في تونس
قطعت "ميران" نحو 500 كيلومتر قادمة من جزيرة جربة جنوب تونس إلى العاصمة لحضور الدورة الثالثة لمهرجان "الأفلام الكويرية" ، بعد احتجاب دام سنتين بسبب جائحة كورونا.
بأحمر الشفاه وبتسريحة شعر متدلٍ، تقف "ميران" العابرة الجندرية وسط العشرات من النشطاء "الكويريين" في بهو قاعة سينما "ريو" قبل الدخول إلى صالة العرض.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
لطالما شكت "ميران"، التي تعرف نفسها في "المجتمع الكويري" كفتاة متحولة وعاملة جنس، من انتهاكات الشرطة وإرغامها على الخضوع المتكرر "للفحص الشرجي" خلال عدة إيقافات تعرضت لها في الشوارع بتهمة ممارسة المثلية الجنسية، وهو استخدام مثير للجدل تستخدمه الشرطة كعامل إثبات ضد المثليين.
لكن ميران تحضر اليوم في المهرجان كناشطة وعضوة في جمعية "موجودين" المدافعة عن حقوق الأقليات الجنسية، وكضيفة ذات حظوة في القاعة التي لا تبعد سوى بضعة أمتار عن مقر وزارة الداخلية وسط شارع مظلم، حيث يقف رجال الشرطة بزي مدني في محيط القاعة المتوارية عن الفضوليين من أجل تأمين الحراسة خلف أبوابها المغلقة.
مهرجان علني وطموحات أكبر
يعود المهرجان في نسخة 2022 بزخم أكبر وبمشاركة أوسع من دول الجنوب، حيث يشارك في الدورة 32 فيلما من بينها عدة أفلام من دول عربية مثل تونس ومصر والأردن وفلسطين، ترافقها أحلام وطموحات أكبر من قبل أفراد المجتمع الكويري.
وبالعودة إلى سنوات المراهقة لم تكن "ميران"، التي غادرت منزلها منذ سن 14 عاماً وانقطعت عن الدراسة مبكرا وعاشت لفترة في الشوارع، تحلم بحضور مهرجان لتتحدث عن الأقليات الجنسية على الملأ وأن تدلو بدلوها إلى الصحافة بأريحية.
وتقول بحماس في حديثها مع DW عربية: "منذ الصغر لم أشعر يوما بأنني طفلا أو رجلا، وقبل أن أنضم الى جمعية "موجودين" كنت أخشى الفضيحة لكن اليوم أعرف ما أنا تحديدا. وأنا هنا لأطالب بحقوقي كعابرة جندرية وبحقوق النساء. الجمعية وفرت لي الحماية القانونية ولم أعد أخاف".
بسبب الأوضاع الاجتماعية الصعبة التي حاصرتها بعد مغادرتها المنزل كانت لميران، كما تحدثت لمراسل DW عربية، تجارب جنسية عابرة في الشوارع وعند إيقافها من قبل الشرطة تبدأ المشاكل بكيفية تطويع قوانين العقوبات معها، مثل باقي الجندريين.
ومثل "ميران" حفلت الصحافة التونسية، مع توسع مناخ الحرية بعد ثورة 2011، التي أطاحت بالحكم الاستبدادي للرئيس الراحل زين العابدين بن علي، بالمئات من القضايا المشابهة للأقليات الجنسية بسبب الجدل الدائر بشأن العقوبات المجرمة للمثلية الجنسية.
ويجرم القانون الجزائي التونسي (الفصل 226) بشكل عام أي سلوك يصنف على أنه "اعتداء" على "الأخلاق" ويفرد لذلك عقوبة بالسجن "لمدة ستة أشهر وبخطية قدرها ألف دينار (حوالي 300 دولار أمريكي)".
وتستخدم هذه العقوبة على نطاق واسع ضد المخالفات الجنسية غير القانونية ولكنها تنسحب أيضا على الأقليات الجنسية. وتقول ميران "يتهمنا القانون بالمراودة ويضعنا على نفس المسافة مع النساء لكن في نفس الوقت لا يعترف بنا كنساء".
ويضع الفصل 230 أيضا عقوبات موجهة ضد "اللواط والمساحقة" تصل إلى السجن ثلاث سنوات. وكثيرا ما كان هذا الفصل مصدر انتقادات من منظمات دولية لأنه طالما مثّل مسوغا لفرض "الفحص الشرجي".
سوابق رافقت الخطوات الأولى
في 2018 أطلق نشطاء من "جمعية شمس" المدافعة عن الأقليات الجنسية إذاعة خاصة "شمس راد" لتكون أول منبر إعلامي للمثليين والمتحولين ومزدوجي الجنس في العالم العربي، وكانت بداية التحرك العلني للأقليات الجنسية في تونس وسط تحفظ مجتمعي.
ومع أن المحطة الإذاعية لم تعمر طويلا بعد اضطرار مؤسسها بوحديد بلهادي إلى طلب اللجوء في فرنسا بعد تلقيه لتهديدات من "جماعات تكفيرية" وفق تصريحاته، فإن راية الأقليات الجنسية "قوس قزح" بدأت تظهر في احتجاجات الشوارع في تونس لتكسر بذلك جدارا سميكا.
وكانت إحدى أشهر القضايا تلك التي ارتبطت بالمحامي ومؤسس "جمعية شمس" المدافعة عن المثليين، منير بعتور، الذي ترشح للانتخابات الرئاسية في 2019 ولكن ترشحه قوبل بالرفض من قبل هيئة الانتخابات على خلفية عقوبة سجنية سابقة بتهمة اللواط السلبي تعود إلى عام 2013، واضطر بعد ذلك بعتور إلى مغادرة البلاد وطلب اللجوء في فرنسا بسبب مزاعم بتلقيه تهديدات بالسحل والقتل، بحسب رواية جمعيته. ولحقه بعد ذلك عدد آخر من نشطاء الجمعية.
وقالت رشا يونس، باحثة برنامج حقوق المثليين/ات، ومزدوجي/ات التوجه الجنسي، ومتغيري/ات النوع الاجتماعي (مجتمع الميم) في تقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" إن "سجل تونس في المقاضاة الفعلية للأشخاص بسبب سلوك جنسي مثلي بالتراضي مثير لقلق عميق، وهو تدخل صارخ في حياتهم الخاصة. رغم أن الهيئات الدولية أثنت على تقدم تونس في مجال حقوق الإنسان، يشير تجريم ومقاضاة السلوك الجنسي المثلي إلى عكس ذلك".
وبهدف الحد من الجدل الحقوقي المتصاعد في داخل تونس وخارجها؛ كانت هناك مبادرات اشتغلت عليها لجنة استشارية حقوقية بتكليف من الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي أثناء عهدته، من أجل مراجعة المدونة الحقوقية في تونس، حيث خلصت إلى حزمة من المقترحات من بينها منع الفحوص الشرجية وإلغاء عقوبة السجن للمثليين وتعويضها بخطية مالية. لكن لم يرتق هذا المقترح إلى قانون.
"موجودين" ضد الاقصاء
وأحد الأهداف الرئيسية التي تنشط من أجلها منظمة "موجودين" التي تأسست عام 2014، هو استعادة تلك المطالب والدفع نحو تعديل قانون العقوبات واعتبار الممارسة الجنسية حرية شخصية.
تنشط المنظمة ضد الانحياز الجنسي المغاير ورهاب المثلية، رهاب إزدواجية الميل الجنسي، رهاب التحول الجنسي والتمييز على أساس الجنس أو أي شكل آخر من أشكال التمييز على أساس التوجه الجنسي والهوية الجنسية والتعبير الجندري والخصائص الجنسية.
وتقول لينا العش (27 عاما)، وهي طالبة بكلية الحقوق ومنسقة مشروع بمنظمة "موجودين" لـDW عربية: "أن يتحول المجتمع الكويري إلى موضع نقاش في المجتمع ليس فقط في الفنون بل في السجال السياسي وعلى طاولة المناظرات بين مرشحي الانتخابات بشأن القوانين الزجرية، فهذا بحد ذاته خطوة مهمة".
وتتابع العش بتحد "نحن نريد أن نقول إننا "موجودين" ولا يمكن إقصاؤنا".
تدافع المنظمة عن الحقوق الجسدية والجنسية لمنخرطيها وكذلك الحقوق الكونية للإانسان، إلى جانب حقوق اللاجئين وحرية التنقل وغيرها من حقوق الإنسان التي تتقاطع مع حقوق الجندريين.
ومن بين البرامج التي تعمل عليها منظمة "موجودين" مثلا برنامج "الولوج للعدالة" الذي يسعى للدفاع عن حق المثليين في التوجه إلى المحاكم ونيل حقوقهم، إذ وفق تفسير لينا العش "يحجم الجندريون عندما يتعرضون للضرب عن الذهاب إلى المحاكم لأنهم بكل بساطة سيتحولون الى مجرد جناة بتهمة أنهم مثليون".
ويأتي المهرجان السينمائي كأحد التظاهرات النضالية، التي يسعى من خلاله المنظمون إلى تحقيق تغيير جذري ليس فقط في نظرة المجتمع التونسي إلى الأقليات الجنسية، ولكن أيضا تغيير سلوك الدولة والقوانين بشكل عام.
وتقول لينا: "تختلف أشكال النضال لكننا نرى ونحن في عصر الصورة أن الطريقة المثالية والأكثر فعالية في نقل المضامين والرسائل هي الصورة. والأمر الآخر أن المخرجين للأفلام المعالجة لقضايا الأقليات الجنسية لا تجد حظها في باقي الفضاءات الثقافية أو المهرجانات؛ لذا فإن هذا المهرجان يتيح لهم الفرصة لعرض أفلامهم".
ويوضح المخرج الشاب مهدي بن براهيم الذي يشارك بفيلمين في المهرجان لـDW عربية: "من الجيد أن نوظف السينما في النضال. ومن المهم أن نبادر نحن باستخدام السينما لنتحدث عن أنفسنا".
ويضيف المخرج في تعليقه "ميزة السينما أنها تقدم رؤية واضحة وتوثق واقع المجتمع الكويري في تونس في هذه المرحلة من التاريخ. نحن نتحرك اليوم وسط حصار من القوانين بعد سنوات أو عقود قد تظهر أفلام أخرى في واقع مختلف عنا اليوم".
في كل الأحوال ترى النشاطة أن ما تحقق حتى اليوم يعد خطوة مهمة للمجتمع الكويري في تونس مقارنة بما كان سائدا قبل الثورة وبما هو سائد في دول أخرى من الجنوب، على الرغم من استمرار بعض العراقيل والهاجس الأمني، مضيفة في شهادتها "مع مرور الوقت ومن دورة إلى أخرى بدأنا ننضج ونكبر ونحسن مجاراة العراقيل التي تعترضنا".
وتشير لينا بنبرة ساخرة قبل دخول صالة العرض في افتتاح المهرجان "لا يمكن أن تفهم كيف تفكر الدولة. هي من ناحية تعترف بنا ضمنا لكنها تريد أن تبقي الحقوق تحت سيطرتها. لا شيء عمليا يثبت أننا نملك حقوقنا".
تونس – طارق القيزاني