مصطفى كمال أتاتورك
تأسست الإمبراطورية العثمانية في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي، ثم بدأت بالتوسع على مدى خمسمائة عام، لتضم تسعاَ وعشرين ولاية قبيل بدء انهيارها مطلع القرن التاسع عشر، حيث توزعت هذه الولايات بين أوروبا الشرقية وشمال أفريقيا، إضافة إلى أسيا الصغرى كلها، لكن هذه الإمبراطورية انهارت بعد الحرب العالمية الأولى، فتقلصت إلى ما يعرف اليوم بتركيا، ومؤسسها الفعلي كان قائداً عسكرياً وسياسياً فذاً، هو مصطفى كمال، الملقب بـ أتاتورك، (أبو الأتراك).
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
مصطفى كمال...نشأةٌ منفتحة على الحضارة الأوروبية
ولد مصطفى كمال (Mustafa Kemal) في التاسع عشر من مايو /أيار عام 1881، في سلانيك، وهي مدينة بحرية يونانية تطل على بحر ايجة، كانت خاضعة لسيطرة الدولة العثمانية، كما أنها مدينة متعددة الجنسيات والديانات، أما اسم أتاتورك (Atatürk) يعني (أبو الشعب التركي)، هذا اللقب منحه إياه البرلمان التركي، كما حُظر منحه لغيره عام 1934، كان والده علي رضا أفندي ينحدر من العشائر التركية المهاجرة إلى الأناضول، كما كان يعمل في الجمارك، وتجارة الأخشاب، من جانب آخر كان من ضباط حرب البلقان، مما جعل العائلة من العائلات المقربة من السلطنة.
أما والدة مصطفى؛ فكانت سيدة ريفية اسمها زبيدة هانم، كما كان أتاتورك هو الوحيد الذي نجى من الموت بين أخوته الذين ماتوا قبل ولادته، لذلك كان مميزاً لدى أبويه، زبيدة هانم كانت ترغب بأن يتلقى ابنها تعليماً دينياً، فيما كانت رغبة علي رضا أفندي أن يدخل ابنه المدرسة الغربية الحديثة، فيما بعد دخل مصطفى كمال إلى المدرسة الدينية المحلية يوماً واحداً، ثم انتقل إلى المدرسة الغربية.
الفكر العلماني في مشروع أبو الأتراك منذ الصغر
لاحظ الصبي الصغير الفرق بين الكتاتيب الدينية، والمدارس الحديثة، مما شكل جزءاً من مشروعه المستقبلي، من جانب آخر تنقل بين عدة مدارس بعد وفاة والده، ليدخل مدرسة تأهيل العسكريين عام 1895، وحصل على لقب كمال، الذي منحه إياه أستاذه مصطفى صبري بيه لنضوجه وتفوقه، حيث حصل على المرتبة الثانية على مستوى المدرسة، لينتقل إلى الكلية الحربية في استانبول عام 1899، كما كان راغباً بالمشاركة في الحرب اليونانية التركية عام 1897، لكنه لم يتمكن من ذلك لأنه كان ما يزال طالباً.
ثم تخرج مصطفى كمال برتبة رئيس أركان حرب عام 1905، ليتابع دراسته بمدرسة أركان الحرب، فكانت طفولة مصطفى كمال وشبابه مفتوحين على الحضارة الأوروبية التي بدأت تسبق السلطنة حضارياً بشكل سريع وملحوظ، إضافة إلى أن شعوره القومي ونزعته الوطنية تعززا خلال هذه الفترة من حياته، خاصة في ظل بداية ضعف الدولة العثمانية وسيطرة التجار الأجانب على مفاصل حياة الأتراك في استانبول، إضافة إلى انصراف الدولة عن ممارسات الأجانب بملاحقة الأتراك، والتضييق عليهم، بما أن ظروف الكلية الحربية لم تكن معزولة عن الفساد والقمع، فكان تفكيره منصباً على تخليص الشعب التركي من القيود التي تمنعه من التقدم.
النشاط السياسي السري والانتقال للنشاط العسكري
بدأ نشاط مصطفى كمال السياسي منذ كان في الكلية الحربية في اسطنبول، حيث قام مع صديقه بنشر أوراق سرية يشرحون من خلالها الأوضاع السيئة التي وصلت إليها السلطنة العثمانية، كما كان يجمع حوله الطلاب ليخبرهم بمستقبل البلاد، إضافة أنه بدأ يعلن عن طموحه بإنقاذ الأمة التركية من الانهيار والتفكك، إلا أنه سُجن بعد تخرجه لفترة قصيرة بسبب ما يروِّج له سراً، ثم تم نفيه إلى دمشق ليتابع خدمته فيها، حيث عاش فيها ثلاث سنوات، لمس من خلالها فساد جيش السلطنة، كما تعامل مع الحركات الثورية الرامية للانفصال عن السلطنة.
- بما أن مصطفى كمال كان قد تلقى تعليماً غربياً، إضافة أنه عاش شباباً منفتحاً على الآخرين، فقد آمن أن التغيير لا يمكن إلا أن يتم وفق منهجية فكرية واضحة ومتسلسلة، لذلك أنشأ مع أصدقائه عندما كان في دمشق حركة سياسية سرية، اسمها الوطن والحرية، تهدف لمحاربة الاستبداد العثماني، إضافة لمواجهة الفساد الذي ينخر بدن الدولة.
- على الرغم من نشاط مصطفى كمال الواسع نسبياً، إلا أنه لم يكن وحده من يسعى للإطاحة بالسلطان، حيث قامت لجنة الاتحاد والترقي عام 1909 بالإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني، إضافة إلى إعادة العمل بالدستور، هذا الحدث عُرف لاحقاً باسم "ثورة تركيا الفتاة"، فقام مصطفى كمال بدمج حركته مع لجنة الاتحاد والترقي كي لا يكون بعيداً عن الحدث، إلا أن دوره كان ثانوياً جداً، بما لا يتناسب مع طموحه، فصب اهتمامه على الحياة العسكرية في المرحلة اللاحقة، من خلال ترجمة كتب العلوم العسكرية وتنظيم خطط الدفاع عن الإمبراطورية.
- من جانب آخر هناك تفصيل لا بد من المرور عليه، حيث يجد بعض المؤرخين أن لجنة الاتحاد والترقي لم تكن ترمي إلى نزع السلطان لأهداف نبيلة، إنما كانت على اتصالات وثيقة بالحركة الصهيونية العالمية، والمخابرات البريطانية، التي أرادت نزع السلطان لتقييده هجرة اليهود إلى فلسطين، ورفضه توطينهم فيها، إلا أن آخرين لا يرون في هذه النظرة ما يدعمها.
- بدأ أتاتورك يبرز كقائد عسكري مميز، ومخطط ذكي، حيث انتقل بالخدمة بين عدد من مناطق السلطنة، في مركزها، إضافة إلى الولايات، كطرابلس الغرب في حربه مع الإيطاليين عام 1911، أما بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، لم يكن مصطفى كمال من مؤيدي الحرب، لأنه اعتبر أن القوى الغربية تنتظر تدخل الإمبراطورية بفارغ الصبر، لتتمكن من تفكيكها وإنهاء وجودها الفعلي، لكن السلطة لم تستمع إلى رأيه، ودخلت الحرب إلى جانب ألمانيا والنمسا في أغسطس /آب من العام 1914، بمواجهة كل من بريطانيا، وفرنسا، وروسيا.
أتاتورك .. رمزٌ وطني
- على الرغم من رفض مصطفى كمال دخول تركيا الحرب، إلا أنه كان من أبرز القادة العسكريين الأتراك الذين شاركوا فيها، كما سُجل له أنه لم يُهزم في أية معركة من المعارك التي قادها أثناء الحرب، حيث أنه عُين قائداً للفرقة 19 عندما كان برتبة مقدم عام 1915، قبل أيام من قرار الحلفاء الهجوم على الدردنيل واقتحام استانبول، في مارس/ آذار 1915، إلا أن القوات البحرية البريطانية الفرنسية منيت بهزيمة تاريخية، حيث غرقت ثلاث سفن نتيجة انفجار الألغام البحرية التركية، إضافة لتعطل سفن أخرى، ما جعل الحلفاء يخططون لإنزال شبه جزيرة (جاليبولي)، التي كان يتمركز فيها مصطفى كمال مع قواته، حيث استطاع إعاقة تقدم القوات الاسترالية والنيوزلندية، على الرغم من شح الذخيرة والعدد القليل، كما أنه كان على رأس المقاتلين، فأصيب بشظية قريبة من القلب، إلا أنها اصطدمت بساعة الجيب؛ فنجا من الموت بأعجوبة، من جانب آخر استمر مصطفى ورجاله بالقتال حتى انسحب الحلفاء بشكل كامل بعد أن فشلت العملية، مما أدى لعزل وينستون تشرشل (Winston Churchill) من منصب الأمين الأول لوزارة البحرية، أما مصطفى كمال فقد ترقى أثناء المعارك إلى رتبة عقيد، ثم إلى رتبة عميد، كما أصبح رمزاً وطنياً مشهوراً.
- عام 1918، استسلمت تركيا فعلياً، بتوقيع هدنة مودروس مع الحلفاء، فلم يكن مصطفى كمال راضياً عن هذا الاستسلام، كما شعر بالخزي والعار عندما رست سفن الحلفاء في استانبول؛ في الموانئ التي دافع عنها وأنقذها.
أتاتورك.. مؤسس الجيش النظامي والجمهورية التركية
لم تكن هزيمة الإمبراطورية العثمانية مجرد مرحلة تاريخية، إنما كانت انهياراَ كاملاً للدولة، تبعه احتلال أجزاء كبيرة من الأناضول، حيث قام اليونانيون عام 1919 باحتلال المضائق وأزمير، واحتل الفرنسيون جنوب الأناضول وسوريا، كما احتلت إيطاليا غرب الأناضول، إضافة إلى حصار الإنجليز من جهة العراق، كل هذه الظروف زادت من عزيمة مصطفى كمال على إنقاذ أمته من التفكك.
استقال أتاتورك من الجيش في الثامن من شهر يوليو /تموز عام 1919، فأصدر تعميماً أن استقلال الأمة في خطر، كما أعلن عن تأسيس حكومة انتقالية ومجلس شعب انتقالي في أنقرة، إضافة إلى تأسيس جيش نظامي، أما السلطنة فقد أصدرت أمراً بملاحقته وحكماً غيابياً بالإعدام، لكنها تراخت في ذلك بسبب شعبيته الكبيرة من جهة، ودعم الجيش له من جهة ثانية، كان كل ذلك في ظل تقدم اليونانيين في الأراضي التركية من أزمير باتجاه أنقرة، حيث وصلوا إلى مسافة 51كم من أنقرة، فاندلعت معركة كبيرة بين اليونانيين والجيش التركي الذي أسسه أتاتورك عند سقارية في العام نفسه، أدت إلى انسحاب اليونانيين بعيداً عن أنقرة، كما أنهم لم يحاولوا تكرار المحاولة، إلا أن أتاتورك كان مصراً على ملاحقتهم، حيث تابع التخطيط لمهاجمة اليونانيين على مدى عامين.
حربه ضد اليونانيين وإنجاز النصر.. تأسيس الجمهورية
أعلن أتاتورك بداية الحرب على اليونانيين في السادس والعشرين من أغسطس/آب 1922، كما قاد الحرب بنفسه، فشنت القوات التركية هجوماً مباغتاً، حيث لم تستغرق المعارك أكثر من خمسة عشرة يوماً حتى دخلت قوات أتاتورك إلى أزمير بعد تحريرها من اليونانيين وأسر قادتهم.
كان نصر أتاتورك على اليونانيين إنجازاً نوعياً على الصعيدين الوطني والشخصي، فعرض النواب على مصطفى كمال أن يأخذ مكان السلطان فهد الدين، لكن طموح أتاتورك كان أبعد من ذلك، حيث طلب الحلفاء من الأتراك إرسال وفد مشترك من حكومة أنقرة ممثلة بأتاتورك من جهة، وحكومة استانبول التي تمثل السلطنة من جهة ثانية إلى لوزان للتفاوض، فطالب أتاتورك من موقع قوة إلغاء السلطنة دون الخلافة وتأسيس الجمهورية، على اعتبار أن الممثل الشرعي والوحيد للشعب التركي يتمثل بحكومة أنقرة، حيث لم يكن من الممكن أن ترفض حكومة استانبول طلبات أتاتورك لما يتمتع به من قوة وشعبية.
بذلك توجه وزير خارجية أتاتورك إزمير للتفاوض مع الحلفاء في لوزان سويسرا، حيث تم توقيع اتفاقية لوزان الثانية في 24يوليو/ تموز عام 1923، التي اعترف العالم بموجبها بالجمهورية التركية التي قامت على أنقاض السلطنة العثمانية، كما تمت إعادة ترسيم الحدود التركية السورية وضم العديد من الأراضي السورية إلى الجمهورية التركية الحديثة، مثل كيليكية وديار بكر، إضافة إلى أضنة ومرعش وعينتاب والعديد من المناطق الأخرى.
أتاتورك رئيساً للجمهورية.. إنجازاتٍ سياسية واجتماعية كبرى
أعلن أتاتورك قيام الجمهورية التركية في التاسع والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول 1923، وكان الرئيس الأول للجمهورية التركية، فبدأ أتاتورك حركة تقدمية واسعة، لتأسيس تركيا الحديثة كما تخيلها منذ كان طالباَ في الكلية الحربية.
كان الأتراك المهتمين بالثقافة والمعرفة، يعلمون تماماً أن العائق الكبير أمام التطور المعرفي في تركيا هو حظر مكاتب الخلافة، التي تمنع دخول الكتب العلمية والمعرفية إلى تركيا، كذلك كان أتاتورك يعرف هذه الحقيقة، لذلك أعلن عن إلغاء الخلافة العثمانية الإسلامية في الثالث من مارس/ آذار من العام 1924، بذلك فصل تماماً بين سلطة الدولة من جهة، وسلطة الدين من جهة ثانية.
إضافة إلى ذلك بدأ أتاتورك بوضع سياسات تهدف إلى تحرير المرأة التركية، وضرورة مشاركتها في الحياة الاجتماعية في تركيا، بعد أن كانت مهمشة تماماً أثناء فترة السلطنة العثمانية، حيث:
- أتيحت للمرأة التركية حرية التحرك والتعلم.
- إضافة إلى تبني القانون المدني السويسري عام 1926 الذي منع بموجبه تعدد الزوجات.
- كما منح المرأة المساواة في الحقوق مع الرجل.
- إضافة إلى حقها في التصويت والترشح للبرلمان عام 1934، قبل أكثر الدول تحضراً في العالم، حيث ضم البرلمان التركي 17 امرأة منتخبة عام 1935.
لم يكتفِ أتاتورك بالإصلاح الاجتماعي، بل اتجه إلى تغيير الأبجدية، حيث كان الأتراك يكتبون بالحرف العربي، فأمر أتاتورك بالتحول إلى الحرف اللاتيني، ذلك من وجهة نظره يسهل إدخال المعرفة إلى تركيا، فاستطاع الأتراك فك ارتباطهم باللغة العربية بشكل كامل خلال فترة قياسية.
أعاد رسم سياسة تركيا الخارجية فتعرض للاغتيال
حيث أنشأ أتاتورك علاقات طيبة مع العديد من قادة العالم، في إعادة رسم علاقات تركيا الخارجية، حيث كان من بين القادة الذين استقبلهم الملك الأردني حسين بن طلال، إضافة إلى الملك إدوارد الثامن ملك بريطانيا العظمى، حيث تركزت سياسة أتاتورك الخارجية على حل المشكلات العالقة مع الجوار، من خلال المبدأ الذي طرحه على الملأ "إن تركيا لا ترغب بأي قطعة من أراضي الغير، لكنها لن تتنازل عن أي قطعة من أراضيها".
لم تكن هذه الإصلاحات مناسبة للجميع، فهناك من لم يكن راضياً عن سياسة أتاتورك الداخلية والخارجية، حيث تعرض لمحاولة اغتيال أثناء زيارته إلى إزمير عام 1926؛ فكان عقابه قاسياً، حيث تم إعدام 13شخصاً في ساحة عامة لتورطهم في عملية الاغتيال.
الاختيار الصعب بين رفيقة الدرب التي تصلح أن تكون زوجة الرئيس
تعرف مصطفى كمال إلى شابة تدعى فكرية عندما كان طالباً في استانبول، هي ابنة أخت زوج أمه، لحقته فيما بعد إلى أنقرة، كما رافقته كزوجة على الرغم من أنهما لم يتزوجا، وعندما طلبت منه الزواج، قال أنه تزوج الأمة التركية، فبقيت معه تدعمه وتعطيه حياة أسرية مستقرة، لكن بعد أن أصبح أتاتورك قائداً للأمة التركية، تعرف في سويسرا إلى سيدة تدعى لطيفة، فكان عليه الاختيار بين الاثنتين لتكون إحداهما زوجة رئيس الجمهورية، على الرغم من أن فكرية منحته الأمان العاطفي والحياة الأسرية المثالية طيلة فترة ما قبل الجمهورية، إلا أنه اختار لطيفة لأنها أنسب لمنصب السيدة الأولى، حيث كانت متعلمة وتتكلم عدة لغات.
عندما علمت فكرية بزواج أتاتورك، أقدمت على الانتحار بمسدس كانت قد اشترته هدية لأتاتورك، أما زواجه من لطيفة لم يستمر إلا عامين ونصف العام، حيث انفصلا نتيجة انهماك أتاتورك بالعمل السياسي، وبُعده عن الحياة الأسرية الهادئة التي كانت تطمح إليها لطيفة، كما أن مصطفى كمال لم يتزوج بعدها ثانيةً، إلا أنه تبنى ثماني بنات، وصبي، لأنه رغب بإنشاء عائلة تؤنسه، في حين لم يرغب بتكرار تجربة الزواج، إحدى بناته بالتبني (صبيحة جوتشن) كانت أول طيار تركي من الإناث، كما كانت أول قائد لسلاح الجو من النساء حول العالم.
رحيل مصطفى كمال أتاتورك
أُصيب أتاتورك بتشمع الكبد عام 1937، ثم توفي بعد صراعه مع المرض في العاشر من نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1938، فكانت وفاته محزنة للأمة التركية، كما أقيمت له جنازة عظيمة.
مصطفى كمال أتاتورك الذي قُدر له أن يكون قائد الأمة التركية في أكثر مراحل التاريخ تعقيداً، هو بطبيعة الحال شخصية جدلية، حيث أن هناك من يرى فيه مصلحاً متنوراً، إضافة إلى أنه قائد عسكري ناجح لم يُهزم في حياته، كما مهد للمجتمع التركي أسباب التقدم، وعبَّد أمامه الطريق ليلحق بالأمم المتقدمة، إلا أن هناك من يرى فيه شخصية مخربة للتراث الإسلامي التركي، كما يرى البعض أنه المسؤول المباشر عن انهيار الخلافة الإسلامية في الشرق، بين هذا وذاك، يبقى أتاتورك رجلاً واحداً غيرّ مصير أمة بأكملها.
الدولة العثمانية.. نشأتها، توسعها، انهيارها
عرفت الدولة العثمانية مراحل تطورية عدة، مثلها مثل كل الإمبراطوريات التي قامت عبر تاريخ البشرية، حيث ولدت السلطنة كإمارة صغيرة مع نهاية القرن الثالث عشر، لتصل إلى أوج قوتها في القرن السادس عشر، ثم انهارت وتفككت ولاياتها مع بداية القرن العشرين، الذي شهد ولادة العالم الحديث.
تأسيس الدولة العثمانية
مؤسسو الدولة العثمانية، هم عشيرة تركية هاجرت من أواسط آسيا إلى حوض دجلة، قاتلت إلى جانب السلاجقة في معاركهم مع الخوارزميين بداية القرن الثالث عشر الميلادي، كان أرطغول بن كندر ألب قائد العشيرة، حيث حصل من سلطان السلاجقة الملقب علاء الدين على العديد من الإقطاعات شمال سورية في الأناضول على حدود الدولة البيزنطية، بعد موت أرطغول خلفه ابنه عثمان الأول عام 1281، وورث عنه إمارته الصغيرة، إضافة إلى طموحه بتأسيس دولة كبيرة و توطين الأتراك في مكانهم بدلاً من هجراتهم المتتالية، حيث بدأ بتوسيع إمارته على حساب البيزنطيين.
كما أخلص عثمان الأول للسلاجقة، مما أهله ليحصل على مساعدتهم وتقديرهم، إلا أنه أعلن استقلاله عن السلاجقة عام 1291، بعد أن توسع باتجاه البحر الأسود والدردنيل، كما سيطر على العديد من أراضي البيزنطيين، فلقب نفسه عاهل آل عثمان، وبذلك كان المؤسس الأول للإمبراطورية العثمانية (Ottoman Empire).
توفي عثمان الأول عام 1329، فخلفه ابنه أورخان، الذي تابع ما بدأ به عثمان الأول، حيث أسس جيش الانكشارية، كما صك العملة، وجعل بورصة عاصمة الدولة، كما اتجه لاحتلال القسطنطينية، لكنه توفي قبل تحقيق ذلك عام 1360، ليخلفه مراد الأول الذي سيطر على أنقرة، ثم على أدرنه التي أصبحت العاصمة، ثم خلفه ابنه بيازيد، الذي استمر بالتوسع باتجاه أوروبا وآسيا الصغرى، كما انتصر في معركة كبرى مع الأوروبيين عام 1396 كانت تهدف لكبح تمدد الإمبراطورية الحديثة، إلا أن تيمور لانك هاجم أنقرة عام 1402، فاستطاع هزم بيازيد، فأخذه أسيراً إلى سمر قند عاصمة التيمورية، حيث قضى هناك أيامه الأخيرة قبل أن يموت عام 1403، فبدأت الدولة الوليدة بالتفكك والانهيار بعد هذه الهزيمة.
إعادة التأسيس ومرحلة القوة
اختلف أبناء بيازيد فيما بينهم، حتى وصل محمد الأول إلى الحكم، ثم مراد الثاني، حيث حاولا استعادة ما خسرته الدولة العثمانية بسبب غزوات تيمور لانك، فواجها معاركاً قاسية، خاصة أن أوروبا أعلنت الحرب الدينية بمواجهة الخطر العثماني، بعد وفاة مراد الثاني خلفه ابنه محمد، الذي حاصر القسطنطينية عاصمة البيزنطيين لمدة 53 يوماً، فدخلها في التاسع والعشرين من مايو/ أيار عام 1453، ليحقق إحدى أكبر الفتوحات في تاريخ الإسلام فأصبح لقبه محمد الفاتح، ، من جهة أخرى نقل محمد الفاتح مركز الدولة العثمانية إلى القسطنطينية وسماها اسلامبول أي تخت الإسلام، إضافة إلى أن بعض المؤرخين يعتبرون فتح القسطنطينية هو بداية التاريخ الحديث، في حين يرى البعض الآخر أن اكتشاف أمريكا في العام 1492 هو بداية التاريخ الحديث.
توالى العديد من السلاطين على قيادة الدولة العثمانية بعد محمد الفاتح، واستطاعوا جميعاً التوسع بالاتجاهات الأربعة، بنسبِ متفاوتة، حتى وصل إلى الحكم سليم الأول الذي واجهه الصفويين وانتصر عليهم، كما بدأت معارك العثمانيين مع المماليك في عهده، ثم خلفه سليمان القانوني عام 1520، الذي استطاع أن يخضع منطقة الشرق الأوسط كاملة لنفوذه، وهزم المماليك كما تصدى للصفويين بشكل نهائي، حيث أُعتبر من أهم قادة العثمانيين.
بين الاستقرار والسقوط
سيطرت الدولة العثمانية باسم الخلافة الإسلامية على أراضِ واسعة من العالم، من شرق أوروبا إلى أسيا الوسطى والصغرى، حتى شمال أفريقيا، وعرفت الدولة عهداً من الاستقرار والازدهار، استمر حتى منتصف القرن الثامن عشر، حيث بدأت الأعباء الاقتصادية تثقل كاهل السلطنة، إضافة إلى الثورات التي بدأت تنتشر في أنحاء السلطنة، فشهد القرن الثامن عشر ظهور النزعات القومية، التي حفزت الشعوب على الاستقلال عن السلطنة، إضافة إلى نشوء حركة تحررية داخل السلطنة من الأتراك عُرفت باسم "الاتحاد والترقي"، دعت للديمقراطية، ففرضت الدستور، وحصلت على أغلب مقاعد البرلمان، بدعمٍ من أبرز جنرالات الجيش، كما استطاعت أن تحكم البلاد بطريقة غير مباشرة، حتى عزلت السلطان عبد الحميد الثاني عام1909، وعينت أخاه محمد الخامس مكانه، إلا أن الحكم الفعلي كان للاتحاد والترقي.
أخيراً.. دخلت تركيا الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا والنمسا في أغسطس /آب 1914، حيث لم تستطع التقرب من بريطانيا وفرنسا، كما أنها لم تستطع الاستدانة منهم وسط الظروف الاقتصادية الصعبة التي عصفت بالسلطنة، فكانت هزيمة الأتراك بالحرب آخر إسفين في نعش السلطنة، حيث تقاسم المنتصرون تركة الرجل المريض كما كانوا يسمونها، وفرضت دول التحالف شروطها على السلطنة من خلال معاهدة مرودوس عام1918، إلا أن السلطان بقي على عرشه، وبقيت الخلافة حتى وصول أتاتورك إلى السلطة عام 1923.
في الختام.. تناولنا في مقالنا قبل هذه النبذة التاريخية، مسيرة حياة أبو الأتراك نشأته نشاطه السياسي فكره العلماني الذي حقق للشعب التركي؛ حلماً رافقه منذ الصغر بتأسيس حمهورية تركيا الحديثة.