مترو طهران - سوق متنقل في عربات النساء
يقطّع بائع الخضار قشور ثمار الهندباء بسكين، وبعد أن ينتهي من ذلك يرتّب الخضروات بعناية بين الفلفل الأحمر والليمون الأخضر الفاتح. تمتد بسطة البائع في سوق تجريش لعدة أمتار. تمثل هذه البقعة منطقة جذب للإيرانيين والسياح على حد سواء، وسوقها الغارق ببحر ملون من البضائع بات موقعاََ لالتقاط الصور.
سرت بضع خطوات عن بسطة البقال لأصل إلى الشارع الذي تطل عليه قمم جبال البرز المكللة بالثلوج. من هنا يبدأ قطار الأنفاق (مترو) رقم 1 رحلته عبر العاصمة، وقررت أن أسافر عبره من هذا الجزء الثري من العاصمة إلى جنوبها.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
الرجال غير مرغوب فيهم
في البداية عليك أن تهبط بستة سلالم كهربائية متعاقبة لتصل إلى جوف الأنفاق التي يسير فيها المترو، ومن مكتب بيع البطاقات ابتعت بطاقة هي عبارة عن ورقة صغيرة رقيقة عليها رمز وقيمتها تعادل 7 سنتات، أضعها على الجهاز فتفتح لي عارضة الدخولِ الطريقَ إلى الرصيف الذي أروم.
في البداية كما النهاية هناك جداريات عملاقة تزين جدران المحطة بصور نساء يرتدين الحجاب. على الأرض لافتة كتب عليها "للنساء فقط"، الرجال غير مرغوب في وجودهم في عربات النساء التي تقف في هذه النقطة.
حال وصول القطار، لاحظت أن عربات النساء أقل زحاماً من عربات الرجال. اخترت مقعداً بلاستيكياً أزرق، فيما تبتسم لي بود امرأتان تجلسان قبالي. أعربتُ لهنّ عن رغبتي في معرفة سبب تفضيل النساء هذه العربات بدلاً من العربات المختلطة مع الرجال، فقالت إحداهن وهي في عشرينياتها: "المكان هنا أجمل، وحين يكون كل المسافرين نساء فلا يلزمنا أن نبدي تحفظاً"، فيما قالت المرأة الجالسة إلى جنبها واسمها سهيلة: "إنها مسألة تعوّد، فحين آخذ المترو لوحدي استخدم عربات النساء، أما حين أسافر مع زوجي فنأخذ إحدى العربات المختلطة". عربات النساء في العادة أقل اكتظاظاً، وهناك مساحة أوسع للحركة. كتبت السيدة على بطاقتها شيئاً ثم أضافت "كما أن رائحتها أفضل".
"جوارب وأقداح للشرب في العربات"
تحرك فضولي لأسألها إن كانت تخشى الغثيان في العربات المختلطة، فبدت على سِماها الدهشة وهي تجيب: "لا، بالتأكيد لا!". لم أضف شيئاً للحديث، وفجأة لفت انتباهي رجل يسير بشكل طبيعي في عربات النساء وفي يده ما يشبه رف ملابس صُفّت عليه بضعة أزواج من جوارب ملونة.
يعرض البائع مدى مرونة الجوارب، ومدى تنوع ألوانها ونقشاتها، لكنّ اليوم لم يكن يوم سعده مع الزبائن، لذا سارع بالترجل في المحطة التالية، ليصعد شاب قوي البدن يبيع حافظات للهواتف الذكية، يكسو هاتفه المحمول بإحدى الحافظات ويعلقه على باب المترو الداخلي. تُظهر المرأة الجالسة بجانبي اهتماماً ببضاعته، وتعطيه هاتفها دون تردد، ليجرب إن كانت الحافظة تناسبه. وفجأة ينتاب البائع الهلع، فيقرفص على أرضية المترو عند قدمي وتظهر عليه علامات الاضطراب.
عبر النافذة أشاهد شرطياً يمشي على رصيف المحطة حيث توقف القطار، وحال أن يعاود المترو انطلاقه، يستأنف الرجل صفقته مع المشترية الجالسة بجانبي ويبيعها إحدى الحافظات، ويغادر إلى العربة التالية. وجود رجل في عربات النساء لا يزعج أي أحد كما يبدو.
أغطية رؤوس النساء محكمة الربط في جنوب العاصمة
يواصل المترو رحلته باتجاه جنوب طهران، ورغم أننا نسير تحت الأرض لكن بوسعي أن أدرك تبدل مناظر المدينة. تصبح العربة أكثر زحاماً بمسافرات يغلب على لباسهن السواد وتصبح ملابسهن فضفاضة أكثر، فيما تغطين رؤوسهن بحجاب وتخفين شعرهن بشدة، أما المنديل الذهبي البراق الذي يغطي شعري، فيتراجع إلى الخلف كاشفاً عن مساحة أكبر من شعري على طريقة النساء في شمال طهران.
هذه المرة يُباع في عربتنا الشاي وأجهزة شحن الهواتف النقالة ومحافظ يدوية صغيرة ومسكرات تجميل الاهداب. البائعة اسمها سارة وقد وضعت على وجهها مكياجاً ثقيلاً، وعلى شفتيها حُمرة صارخة، فيما زيّنت أهداب عينها اليسرى بمسكرة زرقاء اللون، أما العين اليمنى فزينتها بمسكرة داكنة السواد. تعرض البائعة مرآة جيب للزبونات المحتملات، وبوسع أيّ منهن أن تجرب المسكرة على أهداب عينيها قبل أن تشتريها.
تقول بحماس: "بعت كثيراً اليوم، عملي يسير على مايرام"، موضحة أنها تعرض هذه البضائع كل يوم في عربات المترو النسائية، من الضحى حتى منتصف الليل. وتعلّق بالقول: "إنها مهنة صعبة، لكن لا خيار لدي"، ثم تبيّن أنها ترغب أن يكون لها بسطة ثابتة في السوق، لكن إيجارات البسطات ارتفعت بشكل كبير. سألتُها إن كانت تبيع في العربات المختلطة أيضاً، فنفت بشدة قائلة: "لا أحصل على عشرة زبائن هناك".
في هذا الوقت، ازدحمت عربة النساء بالمسافرات، وبعد 16 محطة وقوف وصلت إلى وجهتي، محطة "الخامس عشر من خرداد" . أحشر نفسي بين جمع المسافرات المغادرات للعربة، وأترجل فيما يواصل المترو سفره إلى جنوب العاصمة. خارج محطة المترو تسير السيارات ببطء بسبب ازدحام الشوارع، وهكذا هو حال شوارع طهران دائماً. رائحة الكازولين النفاثة تعم المدينة، ويتحرك حولي مئات الناس.
على بعد بضع خطوات يقع السوق الكبير "بازار بزرك" والذي يعد أكبر سوق في العالم. لدي شعور أنّ كل أهل طهران يرومون الذهاب إلى هذا السوق اليوم، ويتردد في داخلي السؤال: لماذا يذهب الناس أصلاً إلى السوق ما دام بوسعهم أن يبتاعوا كل شيء تقريبا في عربات المترو؟!
آنيا كوخ/ م.م - DW