كيف سيؤثر الاحتباس الحراري على أوروبا؟
من أين يأتي الخطر على القارة الأوروبية؟
حجم الخطر أكبر مما يمكن تخيله وسيطال الملايين
تأثير الاحتباس الحراري على السياسة والاقتصاد
على عكس المنطقة العربية، حيث الحرارة مرتفعة عموماً وربما لا يكون ارتفاع الحرارة بمقدار عدة درجات ملحوظاً تماماً؛ فالاختلاف بمقدار أجزاء من الدرجات ضمن المناخ المعتدل إلى البارد في أوروبا من شأنه أن يتسبب بآثار كبرى بعضها قد يبدو كأمر إيجابي.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
لكن التأثير العام سلبي دون شك وخصوصاً للجنوب الأوروبي المعتدل حالياً والذي سيعاني بشكل واضح لاحقاً في حال استمرار ارتفاع درجات الحرارة وتراكيز الغازات الدفيئة مع احتمال انتشار التصحر وتقلص المناطق الزراعية كذلك.
من أين يأتي الخطر على القارة الأوروبية؟
للوهلة الأولى يبدو الاحتباس الحراري وكأن تأثيره مستقر إلى حد بعيد ويؤثر على درجات الحرارة فقط دون أن يغير من أساسيات المناخ الأخرى، لكن مع كون المناخ نظاماً معقداً للغاية، والتغييرات الصغيرة حتى من شأنها أن تتسبب بتغييرات كبرى وكارثية تطال جميع عوامل المناخ الأخرى.
وفي حال استمرار الاحتباس الحراري على حالته الآن؛ يتوقع تقرير جديد ممول من المجلس الأوروبي (European Commission)؛ أن التغير المناخي سيتسبب بوفاة 150 ألف شخص سنوياً في أوروبا بحلول عام 2100 بسبب النتائج المباشرة للتغير المناخي.
بطبيعة الحال فعامل الخطورة الأساسي هو موجات الحر التي باتت ملحوظة بشكل كبير في السنوات الأخيرة، حيث أصبحت موجودة أكثر سواء من ناحية عددها كل صيف أو حتى طول مدتها وشدتها كذلك.
ومع إمكانية وصول درجات الحرارة حتى 45 درجة مئوية خلال هذه الموجات فالخطر يتزايد بشكل كبير وبالأخص في أوروبا حيث لم يعتد السكان درجات الحرارة المتطرفة هذه.
على أي حال فموجات الحر ليست العامل الوحيد للخطورة، إذ أن التغير المناخي يعني وجود المزيد من موجات الصقيع أيضاً وهي أمر سلبي للغاية بالأخص في الأجزاء الشمالية من أوروبا، حيث أن هذه الموجات تقضي على المحاصيل الزراعية ومن الممكن أن تتسبب بوفاة البشر كذلك.
بالإضافة لكل من موجات الحر والصقيع فاستمرار التغير المناخي سيزيد من احتمال حصول العواصف أو حتى الأعاصير في القارة العجوز، كما أن ارتفاع متوسط درجات الحرارة ولو بشكل طفيف سيزيد من احتمال الانهيارات الثلجية في الجبال الأوروبية المغطاة بالثلوج.
بالإضافة إلى التسبب بالفيضانات نتيجة ذوبان المزيد من الثلوج والجليد التي تشكل المغذي الأساسي للأنهار الأوروبية عموماً، على أي حال الانتقال نحو التمدن من شأنه أن يزيد من الوفيات في القارة الأوروبية بالتأكيد، لكن حسب التقرير آنف الذكر فتأثيره محدود للغاية بالمقارنة مع التأثير الكبير للاحتباس الحراري والتغير المناخي.
حجم الخطر أكبر مما يمكن تخيله وسيطال الملايين
في الوقت الحالي لاتزال آثار المناخ المتطرف قليلة نسبياً في القارة الأوروبية، فبين عامي 1981 وحتى عام 2010 تسبب المناخ المتطرف بحوالي 3000 حالة وفاة بشكل سنوي، لكن هذا الرقم المنطقي والمنخفض نسبياً حتى لن يستمر على حاله وفقاً للتوقعات.
بل سيواجه زيادة كبيرة للغاية متضاعفاً حوالي 50 مرة ليصل حتى 152 ألف وفاة سنوياً بين عامي 2071 و 2100، ومع كون الرقم لن يتضاعف بين ليلة وضحاها فالتزايد في الوفيات الناتجة عن المناخ القاسي والمتطرف تزداد منذ الآن وتنذر بالأسوأ.
عدد الوفيات الناتجة عن المناخ المتطرف قد يبدو صغيراً بالمقارنة مع عدد سكان أوروبا بالطبع، فالعدد صغير للغاية عند تمثيله كنسبة، لكن كون عدد الوفيات صغيراً نسبياً لا يعني أن البقية بأمان، فتبعاً للتقرير نفسه من المتوقع أن يتأثر اثنان من كل 3 أشخاص بالكوارث الطبيعية بحلول عام 2100.
وهذا الارتفاع يُعد مخيفاً للغاية مع كون نسبة 5% فقط من الأوروبيين كانوا قد تأثروا بالكوارث الطبيعية الناتجة عن المناخ المتطرف بين عامي 1981 و2010، أي أن النسبة ستتضاعف 13 مرة خلال العقود القادمة.
واحد من الأمثلة الحالية عما يمكن أن يؤول إليه مستقبل القارة الأوروبية هو موجة الحر الأخيرة والمدعوة "Lucifer"، التي أدت إلى ارتفاع الحرارة حتى 44 درجة مئوية في بعض مناطق جنوب أوروبا مع 5 وفيات حتى الآن ورفع معدل الإسعاف إلى المشافي بنسبة 15%.
ومع أن موجة الحر هذه ماتزال قليلة الحدوث حالياً فبالوصول إلى نهاية القرن الحادي والعشرين ستكون أمراً اعتيادياً في القارة الأوروبية، وستحدث بشكل متكرر عدة مرات في السنة كذلك وبشكل أشد حتى.
تأثير الاحتباس الحراري على السياسة والاقتصاد
عبر القرنين الأخيرين لاقت القارة الأوروبية انتقالاً تدريجياً لكن مستمراً للقوة الاقتصادية والسياسية من دول الجنوب الأوروبي المسيطرة سابقاً مثل إيطاليا وإسبانيا والبرتغال نحو البلدان الشمالية التي شكلت قوى اقتصادية وسياسية أكبر لاحقاً.
ولعبت دوراً أساسياً في تشكيل العالم كما نعرفه اليوم وبالأخص فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، ومع أن هذا الانتقال في السلطة والاقتصاد لم يكن لأسباب مناخية في الواقع فالانتقال القادم للسلطة سيكون كذلك على الأرجح.
يمكن النظر إلى الأمر من خلال النظر إلى تأثير ارتفاع درجات الحرارة على البلدان الأوروبية تبعاً لمناخها، فبلدان الجنوب الأوروبي تتمتع بمناخ متوسطي معتدل يسمح لها بزراعة مزدهرة واقتصاد جيد يبين قدرتها أصلاً على تحقيق الاكتفاء الذاتي وحتى الوفرة في مجال الغذاء.
لذا فارتفاع الحرارة ليس أمراً جيداً أبداً، فالحرارة الأعلى ستعني مياهاً أقل وصعوبة أكبر في الإنتاج الزراعي، كما أن الحرارة الأعلى ستتسبب بتقصير أيام العمل أو تغيير مواعيدها لتجنب فترات ذروة الحر مثلاً، مما يعني أن بلدان الجنوب الأوروبي ستجد نفسها في موقف ضعف اقتصادي متزايد يضاف إلى مشاكلها الحالية التي تتمحور غالباً حول الفساد الإداري والمؤسساتي.
بالمقابل، فالشمال الأوروبي ذو المناخ البارد والشتاء الطويل سيلاقي نتائج أفضل بسبب مستويات الحرارة الأعلى، فارتفاع درجة الحرارة يعني جعل العديد من الأراضي التي لم تكن مناسبة للزراعة سابقاً بسبب برودتها مكاناً مثالياً وخصباً لهذه الغاية.
كما أن وفر المياه أصلاً سيجعل المنطقة أكثر ازدهاراً وتتمتع بمناخ أكثر اعتدالاً لتصبح مرغوبة أكثر للمعيشة وذات مقومات أفضل للنمو الاقتصادي والعمراني، وكما هو معروف فالقوة الاقتصادية تنتج القوة السياسية والمزيد من الهيمنة، ويبدو أن تفوق الشمال الأوروبي على الجنوب الموجود حالياً سيتعمق بشكل أكبر مع مرور الزمن تحت تأثير التغير المناخي.
التغير الديموغرافي ومخاطر الهجرة واللجوء واسع النطاق
بالطبع فأزمات اللاجئين في أوروبا ليست بالأمر الجديد حقاً مع آلاف الأشخاص الهاربين من الحروب أو الهاربين من الفقر المدقع والباحثين عن فرص حياة أفضل، يأتي هؤلاء إلى القارة العجوز كل عام على أمل تحسن أوضاعهم هناك.
لكن ما يبدو الآن كمشكلة ثانوية نظراً للعدد الصغير للاجئين مقابل تعداد سكان أوروبا الكلي قد لا يبقى كذلك لاحقاً، فأوروبا ليست المتأثر الوحيد بالاحتباس الحراري بل من الممكن أن تكون الأقل تضرراً مقابل كارثية الأمر أكثر في مناطق أخرى من العالم بالأخص جنوب آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا.
كون أوروبا ستتضرر أقل من غيرها بالاحتباس الحراري من ناحية، وتقدمها التقني والاجتماعي الكبير أصلاً؛ سيجعلانها وجهةً لأعداد كبيرة من المهاجرين واللاجئين في العقود القادمة، لكن ليس بسبب الحروب والأوضاع الاقتصادية فقط بل أملاً في مناخ قابل لدعم متطلبات الحياة.
حيث تشير العديد من التقارير إلى أن أجزاء واسعة من الهند مثلاً والشرق الأوسط وأفريقيا ستكون غير مناسبة لحياة البشر مع بداية القرن الثاني والعشرين، مما يعني أن تعداد الآلاف من المهاجرين واللاجئين اليوم ربما سيغدو ملاييناً خلال السنوات القادمة.
بالطبع فالعدد الهائل من اللاجئين والمهاجرين لن يكون قابلاً للاستيعاب ضمن أوروبا التي ستكون ضمن معركتها الخاصة ضد التغير المناخي، فالأمر هنا قد يقود إلى سيناريوهات متعددة تتراوح بين إقفال أوروبا لحدودها بشكل كامل وعزل نفسها للحفاظ على سوية معينة من الحياة لمواطنيها.
أو ربما فتح الأبواب أمام اللاجئين مما سيغير التركيبة الثقافية والفكرية واللغوية بالطبع للقارة العجوز، كما أنه سيخفض بشكل كبير من مستوى المعيشة فيها نظراً لتضررها بفعل الاحتباس الحراري من ناحية، وازدياد عدد السكان دون ازدياد مرافق في الموارد.
كيف يمكن لأوروبا الوقوف بوجه هذه التغيرات؟
من المعروف أن الدول الأوروبية وبالأخص دول غرب وشمال أوروبا هي الأكثر اهتماماً بتأثير صناعاتها على الطبيعة، فهي تمتلك قوانين صارمة بشأن غازات العادم الخاصة بالسيارات وجودة الوقود ومدى الملوثات المنطلقة من المصانع.
بالإضافة لذلك فالكثير من البلدان الأوروبية اليوم تمتلك برامجاً قويةً ومتقدمةً للانتقال نحو الطاقات النظيفة وبالأخص طاقة الرياح وطاقة الأمواج، حيث أن الطاقة الشمسية لا تحقق نتائج بنفس الجودة بسبب المناخ الغائم والماطر غالباً.
على أي حال فالمساعي الأوروبية الحالية ليست كافية، ولا يمكن أن تكون كافية حقاً لسوء الحظ، إذ أن مشكلة الاحتباس الحراري عالمية وتطال الجميع ويتسبب بها الجميع، أي أن مصير أوروبا كما مصير الدول والبلدان الأخرى مرهون بالتعاون العالمي وتوحيد المساعي لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة.
كذلك إجراء الأبحاث والدراسات حول الأساليب الممكنة لخفض تراكيز غازات ثنائي أوكسيد الكربون والميتان في الغلاف الجوي، هذا التعاون العالمي كان قد حقق خطوة كبيرة قبل سنوات مع توقيع معاهدة باريس، والتي كانت المعاهدة الأشمل في تاريخ الحفاظ على البيئة.
لسوء الحظ فالنتائج الإيجابية لمعاهدة باريس لم تستمر بشكل جيد في الواقع، حيث تلقت المعاهدة ضربة قوية مع قرار الرئيس الأمريكي ترامب بالانسحاب منها علماً أن بلاده تعد المنتج الأول للغازات الملوثة والمؤدية للاحتباس الحراري.
حالياً لاتزال الجهود الساعية لإيقاف ارتفاع متوسط درجات الحرارة العالمي والتغير المناخي متواضعة جداً وغير كافية، ومع اقترابنا أكثر وأكثر من نقطة اللاعودة (وهي مرحلة يصفها العلماء بكون التغييرات التي تمت قبلها لا يمكن عكسها بعد ذلك)؛ فإن إيجاد البدائل صديقة البيئة للملوثات من ناحية، واكتشاف طرق لتخفيض تراكيز الغازات الضارة بات أمراً ضرورياً لاستمرارية الجنس البشري.
في النهاية، مع أن الجهود الأوروبية الحالية لاتزال غير كافية، فربما هي الأقرب من ناحية الفعالية لإبطاء وإيقاف التغير المناخي، ومع كون أوروبا ستتضرر بشكل أقل من سواها فالمسؤولية اليوم كبيرة للغاية على البلدان الأخرى للقيام بجهود فعالة تتمثل بالتخلي عن الوقود الأحفوري والاعتماد على الطاقات النظيفة.
ذلك للحفاظ على الكوكب قابلاً للحياة البشرية عليه، فمع أن معظم البشر الأحياء اليوم ربما لن يشهدوا السيناريوهات المخيفة المرسومة لعالم المستقبل فالأجيال القادمة ستشهد ذلك دون شك.