كتاب كليلة ودمنة
كُتب كليلة ودمنة أصلاً باللغة السنسكريتية في القرن الرابع الميلادي، وكان يطلق عليه باللغة السنسكريتية "الفصول الخمسة"، يعتبر واحداً من أكثر الكتب شعبية في أي وقت مضى، ومن أكثر الكتب مبيعاً لما يقرب مئتي سنة، وكان ولا يزال يُقرأ في جميع أنحاء العالم، حيث تُرجم لأكثر من 50 لغة مختلفة. كتاب كليلة ودمنة إنتاج أدبي يحتوي مجموعة من القصص الأكثر شهرة في العالم بالإضافة إلى الخرافات القديمة التي تدور على ألسنة الحيوانات شعراً ونثراً.
كتاب كليلة ودمنة للفيلسوف الهندي الحكيم بيدبا
يتناول الكتاب في مقدمته قصة الفيلسوف بيدبا مع ملكه الهندي دبشليم، وتُروى الحكاية على أن الإسكندر الأكبر ذو القرنين الرومي كان يحاول الوصول إلى الهند، حيث غزى بلاد الشرق ومن ضمنها الهند وانتصر فيها على ملكها سنة 326 ق.م، وبناءً على ذلك عّن أحد الملوك على بلاد الهند ليواصل اجتياحه للبلدان الأخرى، إلا أن أهلها رفضوا هذا الحاكم، وقاموا بخلعه واختاروا دبشليم وجعلوه ملكاً عليهم، ولكنه ما لبث حتى تبدّل من ملك عادل رحيم إلى شخص طاغية، فذهب الفيلسوف الحكيم بيدبا يقدم النصح له، فثار غضب الملك وأمر بسجنه وصلبه، لكن قبل تنفيذ الحكم طلب الملك من بيدبا أن يعيد كلامه، فدهش الملك بحكمته وتأثر بذلك ووعده بأن يعمل بنصحه، ومن ثم عينه وزيراً كي يرعى شؤون الرعية، وبعد ذلك بدأ بيدبا بتدوين حكمه ووعظه في هذا الكتاب، وبعد أن ألف بيدبا هذا الكتاب الذي تجتمع فيه الحكم والخرافات لتنتقل إلى الأجيال السابقة؛ وقام بتخزينه في قبو كبير باعتباره ثروة وطنية.
من الفلهوية إلى الفارسية إلى العالم قاطبة
تُرجم الكتاب أولاً للغة الفهلوية الفارسية في القرن السادس الميلادي، كما تُروى في الجزء الثاني من الكتاب قصة الترجمة والانتشار التي جاءت بعد مئتي سنة، يسمع الشاه الفارسي الملك (كسرى الأول أنوشيروان) عن هذا الكتاب وما يحتويه من حكم مدفونة مع كنوز أرض ملوك الهند، فيطلب من وزيره (بزرجمهر بن البختكان) أن يبحث عن أديب حكيم متقناً اللغة الفارسية والهندية، فوقع الاختيار على أحد مساعديه الموثوقين واختاروا الطبيب برزويه ليذهب إلى الهند، فأمره أن يتوجّه إلى مقصده لنسخ الكتاب إضافة إلى ما يجده من كتب غيرها، ووفروا له ما يحتاج إليه من مال.
وبعد أن وصل برزويه إلى الهند تعرف هناك على عدد من العلماء والفلاسفة، فأخبرهم بأنه أتى إلى بلادهم لطلب العلم والأدب وأنه بحاجة لمساعدتهم، في ذات الوقت كان برزويه مولعاً بالعلم والحكمة، وكان قد قرأ ذات يوم في أحد الكتب بأن لدى الهنود نباتاً يُنثر على الميت فيتكلم في الحال، فأراد في رحلته إحضار عشبة الحياة الأبدية والتي تضفي حكمة عظيمة على القارئ أيضاً، وحين وصوله واجهته العديد من المصاعب حتى تبيّن له بأن النبات المقصود هو ذاته الكتاب الذي ذهب لإحضاره، وهو موجود لدى ملك الهند ومتوارث لديه ولا يسمح لأحد بنسخه، إلا أن برزويه بحسن خلقه وحكمته استطاع الاطلاع على تلك النسخة.
يعود برزويه إلى بلاد فارس حاملاً معه الكتاب بعد مساعدة العلماء له، فيكافئه الإمبراطور الفارسي لذلك ويسمح له بترجمته إلى اللغة الفارسية ليتاح للجميع قراءته، لكن بعد عودته محققاً ما طُلب منه؛ يصاب بتعب وضعف، فيأمره الملك بأن يطلب ما يريد لقاء ذلك، فكان طلبه بأن يؤلف له باباً يحتوي على كلام متقن يصف فيه حاله، وأن يجعله أول أبواب الكتاب وتحديداً قبل (باب الأسد والثور)، فكان له ما أراد، كما يُعتقد أن برزويه أضاف بعض الحكايات الهندية إلى كليلة ودمنة من كتاب مهابهاراتا، بالإضافة إلى المقدمة التي تتضمن السيرة الخاصة به وبرحلته إلى بلاد الهند.
ابن المقفع وترجمته الكتاب للعربية
بعد ثلاثمئة سنة من الفتح الإسلامي لبلاد فارس والشرق؛ قام الفارسي معتنق الإسلام (ابن المقفع) بترجمة الكتاب إلى اللغة العربية في القرن الثامن الميلادي بعد أن اطلع عليه باللغة الفارسية، حيث كان للكتاب أثر بالغ ًفي نفسه، لتشابه العلاقة بينه وبين الخليفة المنصور بعلاقة الحكيم الهندي بيدبا مع الملك دبشليم، فكان بحاجة إلى النصح بشكل غير مباشر، فترجم الكتاب وفقاً للحياة السياسية والاجتماعية التي كان يعيشها.
وأضاف بعض القصص من تأليفه وعدّل في أخرى مضيفاً إليها أسلوبه الخاص، وأضاف باباً جديداً (الفحص عن أمر دمنة)مع أربعة فصول أخرى لم تكن موجودة في النسخة الفارسية، حيث يعتبر هذا الكتاب حتى الآن نموذجاً للغة العربية. أطلق على الكتاب اسم كليلة ودمنة، المشتق من كلمة (Panchatantra) باللغة السنسكريتية، وأصبح هذا الاسم اسماً عاماً للقصة ومتداولاً في كل العصور، كان الكتاب مسلٍ جداً وذي شعبية كبيرة بين جميع طبقات الناس، كما ودخل فلكلور العالم الإسلامي.
جال كتاب كليلة ودمنة أنحاء العالم وذاع صيته
هناك 25 شخصاً على الأقل قدموا هذا الكتاب بنسخ ولغات مختلفة، ففي عام 570 م ترجم برزويه الكتاب من اللغة الفهلوية المفقودة اليوم إلى اللغة الفارسية تحت اسم (Kalilag and Damnag)، وبعد قرنين من الزمن في عام 750م تُرجم إلى العربية من قبل ابن المقفع تحت عنوان كليلة ودمنة، وأصبحت نسخة (ابن المقفع) نموذجاً من أرقى أساليب النثر العربية وتحفة من النثر الأدبي العربي.
جميع الترجمات الأوروبية تقريباً أُخذت من النسخة العربية لابن المقفع، حيت أُعيد ترجمتها إلى اللغة السريانية في القرن العاشر والحادي عشر، وإلى اليونانية عام 1080م، أما إلى اللغة الفارسية فترجمها (نصرالله مونشي) عام 1121م، كما حمل العرب الكتاب معهم إلى إسبانيا، فُترجم إلى اللغة الإسبانية أيضاً في القرن الثالث عشر عام 1252م.
كذلك تُرجمت إلى العبرية من قبل (الحاخام يوئيل) في القرن 12م، ومن النسخة العربية تُرجمت إلى اللاتينية من قبل (جون كابوا) وطُبع عام 1480م، من بعدها إلى اللغة الألمانية من قبل (داس بوخ دير) عام 1483م واعتبرت هذه النسخة آنذاك واحدة من أقدم الكتب التي طبعت من قبل الصحافة في غوتبورغ بعد الكتاب المقدس.
في عام 1552م تمت ترجمة النسخة اللاتينية إلى الإيطالية من قبل (انتوفرانسيسكو دوني)، وأصبحت هذه الترجمة الأساس للنسخة الإنكليزية التي تُرجمت من قبل توماس نورث عام 1570م.
وفي وقت لاحق تُرجم إلى اللغات السلافية، الأثيوبية، التركية، الماليزية والهندوسية قبل نهاية القرن التاسع عشر، لكن لم تكن كافة إصدارات الترجمة بذات السوية، فبعضها كان مختصراً وبعضها مشوهاً، والبعض منها لم يتضمن القصة الأصلية، كما تُرجمت إلى اللهجات العامة في العصور الوسطى والحديثة، فيمكن القول أن هناك أكثر من مئتي إصدار من كتاب دليلة ودمنة بأكثر من 50 لغة ثلاثة أرباعها خارج اللغات الهندية.
مضمون الكتاب أسلوب نثري سردي
يحتوي الكتاب على 15 باباً رئيسياً تضم العديد من القصص، أبطالها مجموعة من الحيوانات، استخدم المؤلف الثدييات والطيور كشخصيات رئيسية في القصة، إلا أنها تعبر عن شخصيات بشرية للتعبير عن عدة مواضيع أبرزها العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بالإضافة إلى عدد من الحِكم والمواعظ.
أبرز الشخصيات التي يتضمنها الكتاب الأسد الذي يلعب دور الملك، خادمه الثور الذي يدعى (شتربه)، بالإضافة إلى اثنين من حيوان ابن آوى (كليلة ودمنة)، ويضم الكتاب أربعة أبواب رئيسية أضافها ابن المقفع إلى النسخة العربية: مقدمة الكتاب، باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند، باب عرض الكتاب ترجمة عبد الله بن المقفع، باب بروزيه ترجمة بزرجمهر بن البختكان. بالإضافة إلى 15 باباً رئيسياً:
- باب الأسد والثور (يتحدث عن الوشاية التي تعمل على إفساد العلاقة بين الأصدقاء).
- باب الفحص عن أمر دمنة (يتحدث عن المصير السيء للواشي).
- باب الحمامة المطوقة (يتحدث عن بداية تواصل إخوان الصفا واستمرار المودة بينهم).
- باب البوم والغربان (يتحدث عن عدم الاغترار بالعدو مهما أبداه من نوايا وإن كان ظاهرها جميلاً).
- باب القرد والغيلم (يتحدث عن إضاعة سعي الشخص بعد بذل مجهود فيه).
- الناسك وابن عرس (يتحدث عن ما تؤدي إليه العجلة في الأمور).
- باب الجرذ والسنور (يتحدث عن موالاة الأعداء عند كثرتهم حول الشخص).
- باب ابن الملك والطائر فنزة (يتحدث عن ضرورة اتقاء أصحاب الثأر بعضهم لبعض).
- باب الأسد والشغبر الناسك وهو ابن آوى (يتحدث عن مراجعة الملك لمن أخطأ بحقهم أو عاقبهم بدون ذنب).
- باب إيلاذ وبلاذ وايراخت (يتحدث عن الأمور التي يثبت بها المُلك من خصال).
- باب اللبوة والإسوار والشغبر (يتحدث عن العفو عند المقدرة وكذلك الاعتبار بما يحصل للشخص من مصائب).
- باب الناسك والضيف (يتحدث عن ترك الشخص لما يجيده إلى غيره).
- باب السائح والصائغ (يتحدث عن عمل المعروف في غير موضعه مع ابتغاء الشكر عليه).
- باب ابن الملك وأصحابه (يتحدث عن رفعة مكانة الجاهل في الدنيا وابتلاء الحكيم).
- باب الحمامة والثعلب ومالك الحزين (يتحدث عن عاقبة تقديم المشورة للغير مع عدم تطبيقها لذات الشخص).
يُعرض الكتاب بطريقة أشبه بطريقة عرض الموضوعات في كتاب (ألف ليلة وليلة) معتمداً على أسلوب السرد، فلكل حكاية شكلاً منفصلاً، ولكل منها طول معين، إلا أنها مربوطة فيما بينها من خلال خطة سردية، فهناك قصة كبيرة تتضمن حكاية الملك دبشليم ووزيره بيدبا، ويتفرع عنها حكايات أخرى لإغناء واستكمال القصة.
مناقشات وآراء حول كتاب كليلة ودمنة
لاحظ بعض الباحثين أن هناك تشابهاً قوياً بين كليلة ودمنة وبين أساطير إيسوب الخرافية اليونانية التي شاعت بكثرة لمضمونها الأخلاقي المفيد في تربية الطفل، مثال على ذلك قصة "الحمار في جلد النمر" ما يشبه رواية إيسوب "الحمار بدون القلب والأذنين"، "الوعاء المكسور" ما يشبه "الحلابة وصاحبة السطل"، "الأفعى الذهبي" وما يشبه "الرجل والثعبان" وغيرها من الروايات.
في التقاليد الهندية كليلة ودمنة تسمى (nītiśāstra) أي سلوك الحكمة من الحياة، أو (śāstra) التي تعني أطروحة في العلم والتقنيات، لذلك القصة عبارة عن مقال في العلوم السياسية والسلوك البشري، كما أن قصص كليلة ودمنة أخذت الكثير من قصصها من حكايات جاكرتا البوذية المقدمة من بوذا قبل وفاته أي قبل 400 سنة ق.م، كما أن الباحث الكندي (باتريك اوليفيل) يقول: "من الواضح أن البوذيين لم يخترعوا القصص، ومن غير المؤكد تماماً إن كان مؤلف كليلة ودمنة قد اقترض بعض قصصه من جاكرتا أو غيرها، أو تمت الاستفادة من خزانة الحكايات المشتركة، سواء من القصص الهندية الشفوية أو المكتوبة"، كما أن كثيراً من العلماء يعتقدون هذا الأمر على الرغم من عدم وجود دليل قاطع لذلك، وفي أوائل القرن العشرين وجد المفكر الأمريكي (جورج نورمان براون) أن العديد من الحكايات الشعبية في الهند أخذت من المصادر الأدبية وليس العكس.
من أوائل المفكرين الغربيين الذين درسوا كليلة ودمنة الألماني (جوهان هيرتل) الذي اعتقد أن الكتاب يحمل طابع الميكافيلية (سياسة من سياسات الفيلسوف والمفكر نيكولو مكيافيلي وتنص على أن "الغاية تبرر الوسيلة") وبالمثل أشار (اجيرتون) أن "ما يسمى بالأخلاق في القصص لا علاقة لها بالأخلاق، فهي غالباً غير أخلاقية تمجد الدهاء والحكمة العقلية في شؤون الحياة، وخاصة السياسية والحكومية، كذلك في القصة يفوز داماناكا الشرير وليس أخيه كارتاكا الجيد، هذا يبين استمرارية انتصار الشر في كليلة ودمنة"، مما سبب هذا الأمر غضباً لدى القراء ومن بينهم الزعماء الدينيين اليهود والمسيحيين والمسلمين، كما يعتقد بعض العلماء أن ابن المقفع عند ترجمته للكتاب وضع دمنة في السجن في محاولة تهدئة المعارضة الدينية للعمل.
في النهاية.. هناك من يشكك في صحة ما تم الحديث عنه، ويقول بأن الكتاب عربي الأصل بما أن النسخة العربية من الكتاب هي الوحيدة التي لا تزال موجودة مع ضياع النسخة الهندية والفارسية، وأن المقدمة التي ذكرت هذه القصة من تأليف ابن المقفع وليست واقعية.