قصة ميدان سباق الخيل - مرآة الواقع في بيروت الحزينة
هذا الميدان الّذي لم تنهه الحرب اللبنانية، لم يسلم راهناً من تبعات الأزمة الإقتصادية والنقدية التي يعيشها لبنان منذ نهاية عام 2019. فمن يزور الميدان يلحظ تهالك المباني واهتراء الأثاث وقدم المعدات المستخدمة في المكان، ناهيك عن السجلات الورقية لمالكي الخيول المؤسسين للميدان.
لكن هذا المشهد، لا يلغي جمالية المكان ورونقه. ففي ظل طغيان البلوكات الأسمنتية، يعتبر الميدان المساحة الخضراء والمتنفس الطبيعي لأهالي بيروت، حيث يعيش الزائر أجواء هادئة وصحية وكأنه في محمية طبيعية.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
مشهدية تشبه كهولة بيروت
جمالية المكان لا تنفي عنه صفة الكهولة، فميدان "بيروت العز" كما يصفه رواده القدامى، أصبح شبيهاً بصرح يعتاش على أمجاد الماضي. إذ يظهر جلياً العدد الخجول للخيول في سباق الأحد، ناهيك عن المراهنين الذين لم يعودوا يدركون أهمية لا بل تراثية المكان، مغلّبين جانب المراهنة وحسابات الربح والخسارة على أي شيء آخر.
واقع الميدان يشرحه مارون شمعون الذي يملك خيلاً منذ عام 1960، فيقول: "واقع السباق في الماضي كان شبيهاً بحالة لبنان المزدهرة، فكانت حفلات الخيل تقام على يومين ( سبت وأحد)، على أن تتضمن الحفلة الواحدة قرابة التسعة أشواط".
كثرة عدد الأشواط هذا بحسب شمعون، هو مؤشر على ارتفاع أعداد الخيول في حينها بعكس الحالة الراهنة التي قل فيها عدد الخيول نتيجة الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان، فمصاريف الخيل أصبحت تفوق مدخوله بأضعاف.
انحسار عدد الخيول في الشوط الواحد إلى خمسة خيول، بعدما فاق عددها في الماضي 15 خيلا، دلالة إضافية على كآبة الواقع الذي يحزن قلب الفارس "عصام"، الذي يعمل في ميدان سبق الخيل منذ العام 2004. يقول عصام إن كل شيء تغيّر بما في ذلك "عشق المالكين لخيلهم"، مضيفا أنه في السابق كانت المدرجات تعج بالمرتادين الذين كان صراخهم يصدح في المناطق المحيطة بالميدان من شدة حماسهم للسباقات، أما اليوم فيعدون على أصابع اليد.
خطر "الانهيار"
يؤكد رئيس جمعية حماية وتحسين نسل الجواد العربي، نبيل دوفريج، "أن الميدان يواجه خطر الإقفال"، فأموال الهبة الفرنسية التي مكنت الجمعية من استمرار تشغيل الميدان منذ سنتين شارفت على الانتهاء. وبحسب دوفريج ازداد الوضع تأزماً بعد انفجار مرفأ بيروت عام 2020، وبعدها الحرب الروسية الأوكرانية التي سلبت اهتمام الدول المانحة بعيداً عن تربية الخيول في لبنان.
وأكثر من ذلك، يتخوف دوفريج من صعوبة استمرارية هذه المؤسسة العريقة (الميدان) في حال استمر الوضع على حاله في ظل ارتفاع كلفة العناية بالخيل، مما سيؤدي إلى انخفاض عددها وهذا أمر سلبي، "إذ إنه مرتبط بتراثنا من جهة وهو مورد أساسي يعتاش منه المربون والمزارعون"، على حد تعبير دوفريج.
تكاليف إضافية، تحدث عنها دوفريج، لا تقتصر على إطعام الخيول والاهتمام بها، فخيول لبنان مزودة برقاقات إلكترونية تحدد نسلها وهويتها وفئة دمها وذلك لتحسين نسل الخيول وضمان أصالة كل جواد يشارك في السباقات.
ولا يخفي دوفريج أن ما قد يمنع الإقفال النهائي للميدان، هو تمويل جديد أو هبة جديدة أو تبقي أبواب هذا المكان التاريخي مفتوحة، وإلا فإن الإقفال سيكون حتمياً.
تاريخ الميدان من تاريخ لبنان
يسرد دوفريج تاريخ قصة سباق الخيل، التي بدأت في عام 1916، عندما أراد والي بيروت عزمي بيك أن ينشئ كازينو وميداناً لسباق الخيل في حرش بيروت، وقد أوكلت الأعمال حينها الى شركة بارك بيروت بعقد مدته 50 سنة (حتى 1966). وجد رئيس الشركة آنذاك، ألفريد سرسق أن الكازينو مربح أكثر من السباق فبدأ بناءه أولاً ومعه بنى المدرجات من الحجر ذاته المستخدم في بناء الكازينو أو ما بات يسمى لاحقا "قصر الصنوبر" (مقر السفير الفرنسي اليوم).
ومع سقوط الامبراطورية العثمانية ووصول الحلفاء الى بيروت تم إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 من على درج قصر الصنوبر الذي اتخذه الجنرال غورو مقراً للمفوض السامي.
وفي ذلك الوقت، كان الميدان ملتقى اللبنانيين بكل طوائفهم وانتماءاتهم وطبقاتهم الاجتماعية، كما كان معلماً أساسياً يقصده الملوك ورؤساء الدول وكبار الشخصيات أثناء زياراتهم للبنان.
وفي عام 1966 انتهى العقد، وانتقلت إدارة الميدان لبلدية بيروت. وبحسب رئيس جمعية حماية وتحسين نسل الجواد العربي، نبيل دوفريج، لم تكن التجربة ناجحة وقتها، ما حدا بالبلدية للاتصال بمربيي الخيول المعروفين مثل هنري فرعون وموسى دوفريج لطلب المساعدة. فتم إنشاء جمعية ذات منفعة عامة لا تتوخى الربح لإدارة المؤسسة وولدت جمعية حماية وتحسين نسل الجواد العربي في لبنان وهي لا تزال مستمرة حتى اليوم في إدارة المكان.
الحرب والميدان.. قصة حياة
لقد ألقت الحرب الأهلية بتبعاتها الثقيلة على ميدان سباق الخيل. ويوم انطلقت شرارتها في 13 نيسان/أبريل 1975 في عين الرمانة، كانت السباقات قائمة في الميدان القريب من مكان الحادثة، ولكنها توقفت، وكان الميدان يعيد فتح أبوابه بشكل متقطع خلال فترات الهدوء.
ومع تولي الرئيس الياس سركيس سدة رئاسة الجمهورية، عام 1976، لعب دوراً أساسياً في إعادة فتح ميدان سباق الخيل الذي كان حينها المكان الوحيد لالتقاء أبناء العاصمة بيروت بعد أن هدمت الحرب أسواقها.
ومع تفاقم جولات القتال بين الفرقاء المتواجهين كان القاسم المشترك الوحيد بينهم هو ميدان الخيل. وبمعنى آخر فإن البذات العسكرية للمتخاصمين كانت تُخلع خارج ميدان الخيل، الذي أبى تفريق أبناء بيروت خلال الحرب الأهلية الدامية.
ومع الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982، تبدل وجه الميدان مع إحكام الجيش الإسرائيلي حصاره على منطقة بيروت الغربية مانعاً أياً كان من دخول الميدان، حينها كان حوالي 350 من الخيول في الحظائر معرضة للموت جوعاً أو عطشاً.
في ذلك الوقت، يروي دو فريج وقائع لقائه مع الرئيس سركيس بهدف إنقاذ الخيول: "أخبرته بالأمر فسارع بالاتصال بالمبعوث الأميركي فيليب حبيب وطلب منه التفاوض مع الإسرائيليين للسماح بإخراج الخيول لا سيما بعد أن مات منها 11 حصاناً، نتيجة القصف.
سمحت وساطة حبيب حينها بإخراج 350 جواداً وإنقاذ حياتها، لكن مدرجات سباق الخيل الشهيرة ومباني الإدارة دُمرت حينها، لتنتهي بذلك الحقبة الذهبية من تاريخ ميدان سباق الخيل الذي دخل بعدها في مرحلة جديدة.
الميدان انعكاس لصورة بيروت اليوم
ميدان سيق الخيل الذي شهد منذ عام 1990 حتى منتصف الألفية على مرحلة نهضة نتيجة عدّة عوامل، أهمها ما قام به الرئيس الراحل رينيه معوض من إعفاءات ضريبية للميدان، ناهيك عن استقرار اقتصادي نعِم به لبنان حتى عام 2005، تاريخ اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري. حاله اليوم كحال بلاد تعتاش على التنفس الاصطناعي. فميدان بيروت الآن ليس سوى انعكاس لمدينة تحاول نفض غبار الانهيار عنها.
بيروت محمد شريتح