قصة الجاسوس إيلي كوهين
انضمام كوهين إلى الموساد الإسرائيلي
معلومات قدمها كوهين للإسرائيليين
تعتبر الجاسوسية جزءاً لا يتجزأ من خطط الحرب، حيث لم يعرف التاريخ حرباً إلا ومعها جيشٌ من الجواسيس، يعمل في السر، وقد يتحكم بمصير الحرب، ربما أكثر من الجيوش الظاهرة، كما أُطلقت على الجواسيس تسميات عدة، أكثرها رواجاً الطابور الخامس، وللعرب في صراعهم مع الاحتلال الإسرائيلي قصص كثيرة عن الجاسوسية وعملائها، ربما أبرزها قصة الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، المعروف باسم كامل أمين ثابت، فما هي قصته؟، كيف تمكن من اختراق المجتمع والدولة في سوريا.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
يهودي عربي متحمس للمشروع الصهيوني
ولد الياهو بن شاؤول كوهين (Eliyahu Ben-Shawl Cohen) في الإسكندرية يوم السادس والعشرين من كانون الأول/ديسمبر عام1924، ضمن عائلة يهودية متدينة، من أصل سوري، حيث هاجر جده من حلب إلى الإسكندرية خلال العقد الثاني من القرن العشرين، كما كانت عائلته مؤمنة بالفكر الصهيوني الذي دعا لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
انضم ايلي كوهين إلى منظمة الشباب الصهيوني في الإسكندرية عام1944، حيث بدأ نشاطه بالدعوة للهجرة إلى فلسطين لتأسيس الدولة اليهودية الموعودة، لكن السلطات المصرية بدأت تضيّق على الشباب اليهودي إبان حرب عام1948، وإعلان قيام دولة إسرائيل، كما قام ايلي بمساعدة أبويه وأشقائه على الهجرة إلى الدولة الحديثة عام1949، حيث بقي هو في الإسكندرية لإتمام دراسته في الإلكترونيات، إلا أنه كان محل شك لدى السلطات المصرية، خاصة بعد وصول الضباط الأحرار إلى سدة الحكم وخلع الملك فاروق عن عرش مصر عام1952، حيث كانت من أولويات المخابرات المصرية في هذه الفترة ملاحقة الجواسيس الإسرائيليين وعملائهم.
ألقي القبض عليه كمشتبه به في أعمال تخريبية
ألقت السلطات المصرية القبض على شبكة جاسوسية كبيرة عام1954، كانت تعمل لصالح الكيان الصهيوني، وهي المسؤولة عن سلسلة تفجيرات استهدفت أهدافاً أمريكية وبريطانية في مصر، بهدف إفساد العلاقات المصرية مع بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية؛ فعُرفت هذه العملية لاحقاً بعملية "سوزانا"، ومن بين المشتبه بهم كان الياهو كوهين.
تم الإفراج عن إيلي كوهين عام1954، بعد أن تمكن من إثبات عدم تورطه بشبكة التجسس المسؤولة عن عملية سوزانا في الإسكندرية، لكن وجوده في مصر كان مستحيلاً، خاصة مع وصول الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى الحكم في نفس السنة؛ فكان لهذا الأخير اهتمام خاص بملاحقة النشطاء الصهاينة، مما جعل كوهين يغادر أرض مصر عام1955، متجهاً إلى فلسطين المحتلة.
تم رفض طلبه الانضمام إلى الموساد الإسرائيلي عدة مرات
التحق كوهين بوحدة (أمان) التابعة لمخابرات جيش الدفاع الإسرائيلي، فتم انتدابه للعودة إلى مصر، إلا أن المخابرات المصرية لم تتركه دون مراقبة، فتم إلقاء القبض عليه ثانية مع بداية العدوان الثلاثي على مصر عام1956، للتحقيق معه بتهمة التخابر لصالح العدو، ومجدداً تم الإفراج عنه عام1957، لعدم وجود ما يدينه، فعاد إلى فلسطين المحتلة ثانية في الثامن من شباط/فبراير من نفس العام.
قطعت المخابرات الإسرائيلية علاقتها مع كوهين؛ فبدأ العمل كمحاسب في عدة شركات، كما تزوج من مترجمة يهودية من أصل عراقي اسمها نادية عام1959، وأنجب منها ثلاثة أطفال، صوفي، وعيريت، وشاي، كما حاول أن يستأنف اتصاله بالمخابرات، حيث طلب الانضمام إلى الموساد مرتين، إلا أن طلبه قوبل بالرفض القاطع، على الرغم من التقييم المرتفع لذكائه وقدرته على الحفظ، إضافة إلى شجاعته، إلا أنه أيضاً كان يملك قدراً من الغرور، وقدرة ضعيفة في تحديد الخطر وتجنبه في الوقت المناسب، مما جعل المخابرات الإسرائيلية (الموساد) ترفض طلبه، ليتم قبوله لاحقاً في جيش الاحتياط.
أخيراً مع مطلع العام1960، أعاد جهاز المخابرات الإسرائيلي النظر في حاجته لكوهين، حيث تمتع الرجل بميزات عديدة تخدم عمله كجاسوس، أبرزها أنه مولود في دولة عربية، يتقن اللغة العربية والإنجليزية، إلى جانب الفرنسية، كذلك ملامحه الشرقية البارزة، كما أنه ذكي وشجاع، يحتاج فقط إلى بعض التدريب لكبح غروره وتسرعه، من جانب آخر كانت إسرائيل قد بدأت تخطط للتوسع باتجاه كل من سوريا ومصر، إضافة إلى الضفة الغربية لنهر الأردن، وهي لا شك تحتاج إلى جيشٍ من الجواسيس لتمهيد الطريق أمام الآلة العسكرية؛ فبدأت رحلة صناعة الجاسوس كامل أمين ثابت.
شكل كامل أمين ثابت مثالاً للشاب السوري الوطني!
لم يوافق كوهين على الانضمام إلى المخابرات الإسرائيلية التي رفضته مرتين، لكنه أخيراً بعد محاولات حثيثة، عاد للعمل مع واحد من أخطر أجهزة الاستخبارات في العالم، الموساد، حيث بدأت رحلة صناعة الجاسوس كامل أمين ثابت في العام 1960؛ فكانت المرحلة الأولى تدريبه على الفنون الجاسوسية، حيث تم تعليمه كتابة الشيفرات وفكها، إضافة إلى تدريبه على الحبر السري، واستخدام أجهزة الاتصال اللاسلكي، وطرق التخابر الآمنة، كما تابع أخبار سوريا بشكل دوري، ليتعرف على أهم المشكلات الراهنة، كذلك أسماء الشخصيات البارزة من سياسيين وعسكرين، في حين استحضر بعض المعلومات التي ورثها من آبائه السوريين، كما تعلم أهم تعاليم الإسلام، وحفظ بعض آيات القرآن الكريم، ولم يفته التعرف على أهم المطربين، حتى حفظ بعض الأغنيات لفيروز ووديع الصافي.
أما المرحلة الثانية، كانت صناعة تاريخ مزيف من خلال اختلاق قصة حياة كامل أمين ثابت؛ فهو شاب سوري مسلم، ولد في بيروت لأبوين سوريين، هما أمين ثابت وسعدية إبراهيم، ثم هاجر مع عائلته إلى الإسكندرية، ومنها إلى الأرجنتين، حيث أدارت العائلة تجارة ناجحة في مجال للأقمشة والمنسوجات، وهي المهنة التي اشتهر بها أهل حلب!، لكن كامل هذا لديه طموح وطني بالعودة إلى ربوع الوطن، لدعم اقتصاد بلاده، كما أنه من المتحمسين للفكر القومي العربي، الذي كان هو السائد في تلك الحقبة، ومن أكبر المعادين للفكر الصهيوني المتطرف.
أتقنت المخابرات الإسرائيلية صناعة جاسوسها نسبياً، حيث انتقل ايلي كوهين إلى العاصمة السويسرية زيورخ (Zürich)، ليخرج منها باسمه الجديد، كامل أمين ثابت، متجهاً إلى العاصمة التشيلية سنتياجو (Santiago)، ومنها إلى بيونس آيرس (Buenos Aires) العاصمة الأرجنتينية، حيث تم استكمال تدريبه هناك، ليكون مقنعاً كرجل أعمال سوري مقيم في الأرجنتين، فتم تعليمه اللغة الإسبانية، كما تعرف على أسماء الشوارع والأنهار، إضافة إلى أبرز المعالم الأرجنتينية، ثم تم توظيفه بإحدى كبريات شركات النقل، وقد أسس علاقات قوية مع الجالية السورية في الأرجنتين، تمكن من خلالها تدعيم شخصيته النضالية الوطنية، حيث لم يترك فرصة للتعبير عن عشقه لبلاده، وتوقه للعودة إليها، وقد مكث في الأرجنتين قرابة السنة.
تمكنت المخابرات الإسرائيلية من خلال اختلاق هذه القصة، جعل جاسوسها رجلاً حقيقياً، يختلط بالجالية السورية في الأرجنتين كواحد من أفرادها، ويتصل ببعض رجال الأعمال والسياسيين السوريين المقيمين في سوريا وخارجها، حيث كانت شخصيته بعيدة عن كل الشكوك، مشهود له بالسخاء وحب السهر والاحتفالات، حتى أنه تلقى دعوات من بعض رجال الأعمال السوريين لزيارة دمشق، والاستثمار فيها، فانطلق إلى سوريا ليبدأ بمهمته الكبرى عام1962.
دخل إلى سوريا بمساعدة عميل سوري لدى المخابرات المركزية الأمريكية CIA
تعامل كامل ثابت مع شخصيات سورية بارزة في الأرجنتين، من أهمهم عبد اللطيف الخشن رئيس تحرير مجلة العالم العربي، والرئيس السوري الراحل أمين الحافظ، الذي كان ملحقاً عسكرياً في السفارة السورية في الأرجنتين آن ذاك، إلا أن أمين الحافظ نفى بشكلٍ قاطع معرفته بكوهين، حيث أكد أنه لم يكن قد أوفد إلى الأرجنتين عندما غادرها كوهين إلى دمشق.
عاد كامل ثابت إلى فلسطين المحتلة في كانون الأول/ديسمبر عام1961، ليتسلم من المخابرات الإسرائيلية خطة العمل، وأجهزة الاتصال، ثم غادر إلى جنوة الإيطالية (Genoa) بداية كانون الثاني/يناير عام 1962؛ فالتقى بعميل المخابرات المركزية الأمريكية CIA السوري ماجد شيخ الأرض، الذي رتب له انتقاله إلى بيروت على ظهر الباخرة (اسبيريا) مع سيارة نوع أوبل أخفى بداخلها معداته، ثم رتب شيخ الأرض الدخول إلى الأراضي السورية عن طريق أحد أصدقائه على الحدود السورية اللبنانية؛ فدخل كامل أمين ثابت وماجد شيخ الأرض بالسيارة المحملة بمعدات التخابر والتجسس إلى الأراضي السورية في العاشر من كانون الثاني/يناير عام1962.
المهمات الموكلة له في سورية
كان كوهين شخصية جذابة للكثيرين من المحطين به، فهو رمز وطني، شاب ثري عائد من المغترب ليتعرف على وطنه الأم، كما أنه ذكي ولطيف، ما جعله ينشئ شبكة علاقات واسعة ومهمة في المجتمع السوري من حوله، فيما يلي بعض من أهم أهداف إيلي كوهين ومهامه:
تعقب النازي الألماني ألويس برونر
الهدف الأول لكوهين كان تعقب أثر النازي الألماني ألويس برونر (Alois Brunner) أحد أبرز مساعدي أيخمان (1906-1962Adolf Eichmann) مهندس الهولوكوست (The Holocaust) أثناء الحرب العالمية الثانية، التي تم من خلالها إعدام أعداد كبيرة من الأسرى اليهود في المعسكرات النازية، لكن كوهين لم يتمكن من إيجاده، حيث قدم معلومات تفيد أنه غادر إلى مصر باسم مستعار، وبقي كوهين ستة أشهر يحاول الحصول على معلومات دقيقة عن برونر، إلا أنه فشل في مهمته الأساسية فشلاً ذريعاً، فتم استدعاؤه إلى إسرائيل.
بناء شبكة علاقات قوية
قدم كوهين لقادة الموساد أسماء الشخصيات التي تعرف عليها في سوريا، وطبيعة علاقته بكل منهم، فطلبوا منه تمتين علاقته بكل من:
- الملازم أول معذى زهر الدين، هو ابن أخ قائد الجيش السوري آن ذاك اللواء عبد الكريم زهر الدين.
- جورج سيف، وهو مذيع في الإذاعة كان يقدم برنامج موجه للمغتربين في أميركا اللاتينية باللغة الإسبانية، بعد عودته من الأرجنتين.
- كمال الخشن، ابن عبد اللطيف الخشن الذي تعرف إليه كوهين في الأرجنتين، فأرسل معه رسالة لابنه كمال في دمشق، ونشأت صداقة بين الاثنين.
- هيثم قطب، صاحب المنزل الذي استأجره كوهين في دمشق حي أبو رمانة، وموظف في البنك المركزي في سوريا.
- عمر الشيخ، طالب في كلية الطب في الأرجنتين، غادرها بسبب الظروف السياسية فيها، وعاد إلى سوريا.
من جهة ثانية تم تعديل الخطة، من ملاحقة النازيين، إلى الإبلاغ عن أية تحركات أو معلومات عسكرية مهما كنت بسيطة وسخيفة، إضافة إلى إرسال تقرير مفصل بشكل دوري بكل المعلومات المهمة المتعلقة بالشأن الاقتصادي والاجتماعي، ومحاولة اختراق مسؤولين سياسيين وعسكريين سوريين رفيعي المستوى.
عودته إلى دمشق
عاد كوهين إلى دمشق منتصف العام1962، وقد أعلن أنه قرر الاستقرار في سوريا نهائياً، كما حول منزله إلى قاعة احتفالات، حيث أقام سهرات دورية، وكان المدعون من الأسماء التي تقع في دائرة الاهتمام بالنسبة للموساد، إضافة إلى النساء اللواتي كن عاملاً مهماً لاستدراج السياسيين والعسكريين، كما صب اهتمامه على أعضاء مرموقين من حزب البعث العربي الاشتراكي في سورية بعد أن تمكن الأخير من الوصول إلى السلطة، فكان كوهين يستمع إلى المدعوين المخمورين، يحاول أن يستخلص منهم ما يريد من معلومات عسكرية وسياسية، من جانب آخر تم الترويج أن لكوهين علاقات غرامية متعددة في دمشق، حيث كان يعتقد أن عشيقاته سيساعدنه على الهروب في حال تعرض للخطر، لكن لا يوجد ما يثبت صحة ذلك.
من الحوادث التي تدل على مدى الثقة التي تمتع بها كوهين من قبل أصدقائه، أنه ذات مرة كان في مكتب جورج سيف، فانتبه لوجود ورقة مغلقة ومختومة بكلمة (سري للغاية)، فاستغل كوهين انشغال مضيفه بالتحدث على الهاتف ليطلع على الورقة السرية، لكن أثناء قراءتها دخل أحمد الموظفين المرموقين إلى المكتب، وتفاجئ من وجود الورقة بيد كوهين، فسأل جورج سيف "كيف تسمح لضيفك بقراءة ورقة سرية"، لكن سيف أجاب "إنه صديق موثوق"، كما أقام صداقة قوية مع سليم حاطوم أحد أبرز الضباط البعثيين آن ذاك.
معلومات قدمها للإسرائيليين
لا يمكن تحديد المعلومات التي نقلها كوهين إلى مخابرات العدو بدقة، فقد اختلف المسؤولون السوريون آن ذاك حول قدر ونوعية المعلومات، كما قدم الاحتلال الإسرائيلي قصصاً مبالغاً فيها حول بطولات كوهين ودهائه، على غرار أن كوهين كان مرشحاً لمنصب الأمين القطري لحزب البعث، وهذا ضرب من المستحيل بوجود مؤسسي الحزب وأعضائه القدامى على رأسه، لكن سنحاول ذكر أبرز الملفات التي عمل كوهين على تغطيتها.
التقارير الدورية
أرسل كوهين تقاريراً دورية إلى مخابرات العدو الإسرائيلي، عبر أجهزة البث المخبأة في منزله، بمعدل تقرير في الأسبوع، إضافة إلى التقارير الاستثنائية، حيث تضمنت تلك التقارير كل القصص والمعلومات التي يحصل عليها من محيطه، مهما تفاوتت أهميتها.
السلاح السوري والخطط العسكرية
نقل كوهين معلومات عن نوعيات السلاح السوري المستورد من الاتحاد السوفييتي، وعن الفروق بين الدبابات طراز T52 وT54، إضافة للمعلومات المتعلقة بالمفاوضات السوفيتية السورية، حول صفقات أسلحة جديدة، تتضمن غواصات حربية، من جهة ثانية قدم بعض المعلومات التي سمعها من أصدقائه الضباط، التي تتعلق بخطط الدفاع السوري في حال وجود هجوم من جهة العدو الإسرائيلي، وخطط عن اجتياح شمال فلسطين المحتلة، وضعها الجيش السوري بالاشتراك مع السوفييت، لكن كل تلك المعلومات لم تكن مؤكدة بالنسبة لكوهين، حيث حصل عليها بالاستماع إلى من حوله.
زيارة المواقع العسكرية
من بين القصص الأكثر إثارة للجدل، زيارة كوهين لتحصينات الجيش السوري في مرتفعات الجولان، حيث تم الحديث بعد إعدامه عن زيارته للمواقع المتقدمة على خط الجبهة في الجولان والقنيطرة، وتصوير تلك المواقع بواسطة كاميرا مثبتة في ساعة اليد، لكن هذه القصة مشكوك بها، حيث أن المخابرات الإسرائيلية والأمريكية كانت تمتلك صوراً جوية لتلك المواقع أصلاً، كما أن الرئيس السوري الراحل أمين الحافظ المتهم بتسهيل تلك الزيارة، ربما مرافقته أيضاً، نفى نفياً قاطعاً حدوث هذه الحادثة، كما أكد من خلال شهادته على العصر على قناة الجزيرة أن هناك من لفق هذه القصة، كما أنه نفى معرفته بكوهين قبل القبض عليه.
في حين أقر المذيع عبد الهادي البكار في كتابه (أسرار سياسية عربية رقم 14)، أنه قام بتلفيق زيارة كوهين إلى الجبهة السورية لحرمان نظام البعث الحاكم من شرف اكتشافه، من جهة أخرى، وعلى الحدود الشمالية، تمكن كوهين من زيارة مواقع متقدمة للجيش السوري على الحدود التركية، من خلال الملازم أول معذى زهر الدين، الذي كان ضابط تجنيد في إدلب، والذي تعرض للمحاكمة مع كوهين لاحقاً.
مشروع تحويل مياه نهر الأردن
نقل كوهين معلومات مفصلة عن مشروع تحويل منابع نهر الأردن لحرمان العدو الإسرائيلي منها، وكان المشروع إقامة سد على نهر اليرموك، إضافة إلى حفر قناة في مرتفعات الجولان تحول مياه روافد الأردن الأساسية لتصب في لبنان والأردن بدلاً من فلسطين المحتلة، وبناء على تلك المعلومات، قام طيران الاحتلال الإسرائيلي باستهداف مواقع الحفر والمعدات عام1964، فتوقف المشروع، علماً أن المشروع لم يكن سرياً، لكن المخططات كانت كذلك.
الحرب النفسية
استفادت مخابرات الاحتلال الإسرائيلي من كوهين حتى بعد وفاته، من خلال توظيف قصته في إطار الحرب النفسية على العرب، حيث ضخمت دور كوهين في انتصار إسرائيل في حرب عام1967، كما روجت مخابرات العدو لقصص عن ترشيح كوهين إلى العديد من المناصب الحساسة في سوريا أثناء تواجده فيها، من أهمها نائب رئيس وزراء، وأمين عام القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي.
حتى أن بعض المصادر تدعي ترشيحه لشغل منصب رئيس الجمهورية، لكن المطلع على تاريخ سوريا عن قرب، يدرك صعوبة وصول أي كان إلى هذه المرتبة بفترة لا تتجاوز الثلاثة أعوام، حيث أن جميع المسؤولين في سوريا آن ذاك، كانوا من قدامى الحزبيين، وقدامى السياسيين، ولم يكن بينهم شخصية واحدة، لم يشهد كل الحوادث الحساسة منذ الاستقلال عام1946.
"هناك عدة روايات لكيفية القبض على كامل ثابت"
تم إلقاء القبض على كامل أمين ثابت في منزله في دمشق، يوم السابع والعشرين من كانون الثاني/يناير عام 1965، متلبساً أثناء إرساله إحدى رسائله بواسطة الإشارات اللاسلكية، كما أن هناك روايتين أساسيتين للقبض على كوهين، رواية المخابرات السورية، ورواية المخابرات المصرية.
الرواية السورية
تقول الرواية السورية، أن إحدى سيارات المراقبة الخارجية، أثناء تجولها في منطقة أبو رمانة في دمشق، تمكنت من التقاط إشارات لاسلكية غريبة، لا تتطابق مع أي من إشارات السفارات في المنطقة، فتم إبلاغ أحد ضباط الإشارة هو الرائد محمد وداد بشير، الذي أبلغ قائد الجيش ورئيس الجمهورية آن ذاك اللواء أمين الحافظ، فطلب الرئيس من الخبراء الروس المتواجدين في دمشق تزويد المخابرات السورية بجهاز تحديد موقع الإشارات اللاسلكية، الذي لم يكن متوفراً، فقامت الجهات المختصة بتحديد مكان الإشارة بدقة بعد تزويدها بالجهاز، ثم اقتحموا المنزل وألقوا القبض على كامل أمين ثابت، متلبساً أثناء إرساله الرسالة، كما ورد أيضاً أن السفارة الهندية أول من قام بتبليغ وزارة الخارجية السورية عن وجود إشارات غريبة تشوش على إشارات السفارة (من باب الاحتجاج)، وكان ذلك أثناء تتبع تلك الإشارات بالأجهزة البسيطة.
الرواية المصرية
تقول الرواية المصرية، أن الجاسوس المصري في فلسطين المحتلة رفعت الجمال، المعروف باسم رأفت الهجان، التقى ايلي كوهين في إسرائيل على أنه رجل أعمال يهودي مقيم في أمريكا، ثم رأى صورته في بيت صديقته أخت ناديا زوجة كوهين، ولما استفسر منها عرف أنه يعمل مع وزارة الدفاع بمهمات خارجية، إلى أن تعرف على صورته مع سياسيين السوريين في إحدى المجلات، فأبلغ قيادته في المخابرات المصرية عن هذه الحادثة، وأن هذا الرجل المقرب من حزب البعث والضباط السوريين، إنما هو عميل إسرائيلي في سوريا، فقامت المخابرات المصرية بإبلاغ الجانب السوري، الذي تتبع كامل أمين ثابت، وألقى القبض عليه متلبساً، لكن أغلب المصادر تؤيد الرواية الأولى، وتعتبر الرواية الثانية مجرد تضخيم لبطولة رأفت الهجان، وتبخيس للمخابرات السورية بعد الانفصال عن الوحدة مع مصر، الذي وقع عام1961، كما أن حيثيات التحقيق تثبت عدم معرفة السوريين بهوية كوهين الحقيقية.
التحقيق مع كوهين
حاول كوهين الانتحار بالسم الموجود معه عند اقتحام شقته، لكن المقتحمين تمكنوا من منعه، كما تم ضبط أجهزة الاتصال التي كانت في مواقع ظاهرة للعيان، ثم تولت المخابرات السورية التحقيق مع ايلي كوهين بشكل سري دون الإعلان عن اعتقاله، حيث اعترف بالتخابر مع إسرائيل، لكنه لم يصرح بهويته الحقيقة في البداية، بل احتفظ بقصته أنه مهاجر سوري عائد من الأرجنتين، تم تدريبه في إسرائيل، لكن الرئيس أمين الحافظ زار موقع التحقيق بعد أيام من الاعتقال، ووجه له بعض الأسئلة عن الجالية السورية في الأرجنتين، وعن حياته في العاصمة بيونس آيرس، فكان الفخ الذي وقع فيه الجاسوس، ليكشف لاحقاً عن هويته الحقيقية.
حيث سأله الرئيس عن العائلات السورية في الأرجنتين، كما سأله عن حياته اليومية هناك، ومن بين الأخطاء التي ارتكبها كوهين، عندما قال إنه "كان يصلي في جامع الإسلام"، فلفت ذلك نظر الرئيس، حيث أن مصطلح "جامع الإسلام" لا يستخدمه المسلمون، بل يكتفون بمصطلح الجامع، كما أن الحافظ الذي كان ملحقاً بالسفارة السورية في الأرجنتين قبل توليه الرئاسة، يعرف تماماً ألا وجود لأي جامع في بيونس آيرس حتى ذلك التاريخ، فطلب منه قراءة سورة الفاتحة، لكنه لم يتمكن من تذكر السورة.
كما سأله عن نشاطه أثناء فترة التدريب في إسرائيل، فأجاب كامل "كنت أنهي تدريباتي وأذهب أين ما أريد"، في حين أن المعروف عن تدريب العملاء العرب في إسرائيل احتجازهم في مكان محدد حتى انتهاء التدريب، دون أن يسمح لهم بالتنقل بحرية خوفاً من عملهم كعملاء مزدوجين، ومن هنا توجه التحقيق للكشف عن الهوية الحقيقية لكامل أمين ثابت، حيث اعترف بكل التفاصيل المتعلقة بتجنيده وعمله لمدة ثلاثة سنوات تقريباً جاسوساً في سوريا لصالح الاحتلال الإسرائيلي.
بقي معلقاً بحبل المشنقة ست ساعات
بدأت محاكمة الجاسوس الإسرائيلي ايلي كوهين في الثالث والعشرين من شباط/فبراير عام1965، أمام المحكمة العسكرية الاستثنائية التي شُكلت لهذا الغرض، برئاسة القاضي العسكري صلاح الضلي، حيث حاكمت عشرات المتهمين في قضية كوهين، أبرزهم صديقات ايلي كوهين النساء اللواتي تمت تبرئتهن جميعاً، وماجد شيخ الأرض الذي سهل دخوله إلى سورية، وحكم عليه بالسجن عشرة سنوات، إضافة إلى الإعلامي جورج سيف والملازم أول معذى زهر الدين، حيث حكم عليهم بالسجن لمدة خمسة أعوام، وآخرون.
أما إيلي كوهين فصدر عليه حكم الإعدام شنقاً في ساحة عامة، على الرغم من الوساطات الأوروبية والأمريكية الرامية لإيقاف تنفيذ حكم الإعدام، إلا أن الإعدام تم صبيحة الثامن عشر من أيار/مايو عام1965 في ساحة المرجة وسط العاصمة دمشق، وتم لفه بورقة كبيرة كتب عليها منطوق الحكم، والتهم الموجهة إليه، كما بث التلفزيون السوري الرسمي تنفيذ الحكم، وبقي كوهين معلقاً على المشنقة أكثر من ست ساعات، ليتم دفنه لاحقاً، ثم تغيير موقع دفنه ثلاث مرات، حيث ما تزال الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وعائلة كوهين، تطالب باستعادة رفاته حتى اليوم، وآخر هذه المحاولات كانت عام 2013 حيث طلب الإسرائيليون من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المساعدة على استعادة رفاة كوهين، لكن الجواب السوري كان (لا نعلم مكان دفنه).
لاحقاً تم إنتاج فيلم سينمائي عن قصة حياة كوهين وأعماله الجاسوسية في سورية، تحت عنوان (الجاسوس المستحيل The Impossible Spy) عام1987، كما يعتبر الكثير من النقاد أن هذا الفيلم لا يتعدى كونه جزءاً من تضخيم بطولات كوهين، حيث أن أغلب المعلومات الواردة فيه صادرة عن إعلام العدو الإسرائيلي، وتصب في تعظيم قدرات المخابرات الإسرائيلية، وتبخيس قدرات المخابرات العربية.
ربما يعتبر كوهين من أوقح الجواسيس حول العالم
يحاول الجواسيس حول العالم الابتعاد عن الظهور في الإعلام، أو التقاط الصور، لكن كوهين كان لا يفوت فرصة ليلتقط صورة، مع أي كان، كما أنه ظهر في العديد من الصور مع مسؤولين سوريين، حيث يعتبر ذلك تصرفاً أحمقاً بالنسبة لرجل لديه تاريخ سابق في العمل الجاسوسي في مصر، وهذه الثغرة التي بُنيت عليها الرواية المصرية، كما أن كوهين ظهر في لقاء إذاعي مسجل يتحدث عن حنينه إلى الوطن، وعن تصوره لتطوير سوريا، وفي هذا أيضاً وقاحة فريدة من نوعها، تدل في رأي الكثيرين على رغبة في إنشاء أمجاد شخصية على حساب أي شيء آخر، ربما لهذا السبب رفضه جهاز الموساد في البداية.
أخيراً... لا بد أن اختراق كوهين للدولة والمجتمع في سوريا، يعد ضربة إسرائيلية موجعة لأجهزة الأمن السورية آن ذاك، لكن في نفس الوقت، هناك من يرى أن القبض على كوهين في حالة الفوضى التي شهدتها سورية في تلك المرحلة يعتبر إنجازاً استخباراتياً متميزاً، خاصة وأن المدة التي قضاها كوهين في سورية قبل القبض عليه لا يعتد بها في عالم الجاسوسية، حيث بالكاد أنشأ شبكته.
ويبقى الخلاف قائماً بين المؤرخين والشهود والباحثين حول نوعية وكمية المعلومات التي قدمها كوهين للعدو، كما هو محتدم حول مساهمته بوقوع الجولان السوري تحت الاحتلال عام1967، خاصة وأن الفترة التي تفصل بين اكتشاف أمره وبين حرب العام1976، أكثر من سنتين ونصف، ومن المعلوم ألا قيمة لمعلومات عسكرية بعد مرور هذه الفترة الطويلة من الزمن.