غوته بين فايمار والشرق... عبقرية الشاعر وغواية الأماكن
كلما تذكرت غوته، أو وقعت عيناي على كتاب من كتبه أو كتاب حول شعره أو مسرحه أو فكره، كلما تذكرت تلك الرحلة الجامعية التي تنظمها جامعة ماربورغ كل سنة للطلبة الجدد إلى مدينة فايمار، وكيف كان الأستاذ المرافق يكرر دائماً: "لكي نفهم تاريخ ألمانيا يجب أن نلقي نظرة على تاريخ فايمار". لم نفهم في البدء سر هذا الكلام، ولم ندرك كيف يمكن لمدينة أن تختزل تاريخ شعب بأكمله أو على الأقل أبرز مراحل هذا التاريخ. لكن الرحلة الجامعية إلى فايمار كانت كفيلة بتوضيح تلك الصورة، وسبر معالم ذلك السر.
اقرأ أيضاً: ريلكه.. شاعر الوجودية والظمأ إلى الكمال
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
بين فايمار وأفران الغاز
استمرت الرحلة لأكثر من ست ساعات، قطعت فيها الحافلة بنا مئات الكيلومترات، وسرقت الطبيعة الألمانية المتنوعة والساحرة أنظارنا لوقت طويل. وعند الساعة الحادية عشرة صباحاً، حططنا الرحال أمام بوخنفالد، أحد أكبر المعتقلات النازية إلى جانب أوشفيتس، ورمز لا يضاهى لذئبيه الإنسان لأخيه الإنسان.
للحظات عادت صور أفلام كان المرء شاهدها يوماً حول النازية ومعسكرات الاعتقال. لم تكذب الأفلام إذن، لكنها لم تستطع تصوير هول اللحظة التاريخية، كانت أصغر من أن تستطيع عكس كل الواقع، وعاجزة على أن تحيط بهول الجريمة وبكل وجوهها، شأنها في ذلك شأن الأدب أو التاريخ، فشجرة الحياة خضراء، يقول غوته، أما النظرية فرمادية.
كانت بوخنفالد، حتى بعد مرور عقود على الجريمة، تعبق بعد برائحة ذلك الماضي المهول. تقدمنا إلى قاعة كبيرة، تضم شهادات من قضوا هنا، قصائد شعرية، رسائل الى أحبة غادروا، مروا من هنا، أو ضاعوا هناك، إلى من نسى، إلى الإنسان. كل واحد منا يدقق بعينيه في جملة، أو في ورقة، قصاصة ورقة، يحاول فك شفرة هذا الألم وهذا الرعب. نفاجأ ونحن ندلف إلى قاعة أخرى بأفران حديدية غريبة، ذات لون أحمر غامق، تشبه إلى حد ما أفران الخبز القديمة في البلد. الأستاذ المرافق يقول: هنا كانوا يحرقون اليهود. ألقي نظرة على الفرن من الداخل. كل منا يلقي نظرة. لماذا لا يحضر كل العالم إلى هنا، ليلقي نظرة؟ وعلى الأرض كانت جنسيات الضحايا مكتوبة على نصب حديدي. مغاربة أيضا قضوا هنا، جزائريون وإيرانيون وأفارقة سود ويهود وروس وهلم جراً. دقيقة صمت. طالبة مرافقة لنا تبكي. يمتد الصمت لأكثر من دقيقة. يستمر البكاء. أعرف بعدها أنها طالبة كردية، هربت من العراق، أيام هجوم الجيش العراقي على السليمانية، لعلها تفهم ما حدث هنا أكثر منا.
اقرأ أيضاً: غونتر غراس.. الأديب السياسي وضمير الشعب النابض
تعود بنا الحافلة إلى المدينة، وتتوقف أمام بيت غوته، نقصد في البداية مطعما، قبل أن نتوجه إلى بيت هذا الشاعر العظيم. يفرح مدير البيت أشد الفرح بمقدمنا، ويطلعنا على المكتبة وعلى الصور والمخطوطات والرسائل. نفتح أفواهنا دهشة. غوته يقرأ بأكثر من تسع لغات، ومن بينها الفارسية أيضاً. يتحدث المدير بإسهاب عن علاقة شاعر فايمار بالشاعر الإيراني حافظ. أتذكر ما قالته كاتارينا مومزن يوماً، من أن غوته لم يكن ليكون غوته دون الشرق.
فايمار تبتعد الآن، صورتين وتاريخين، وطن للعالم ولفكره ومقبرة للبشرية. دموع سروى، الطالبة الكردية، سترافقنا طيلة رحلة العودة، وصور الضحايا ستظل عالقة بالذاكرة، شاهدة على زمن انقضى هنا، ليبدأ هناك.
سحر الشرق
حين يتحدث تاريخ الأدب العالمي عن أعمدة الشعر الإنساني، يذكر هوميروس ودانتي وشكسبير وغوته. لكن ميزة غوته من بين كل هؤلاء وغيرهم، انفتاحه على الثقافات الأخرى وإقباله على التعلم منها والإفادة منها، حتى بدا ذلك واضحاً في أعماله، ودليلاً على عبقريته التي استطاعت أن تشد إليها كل المتناقضات وأن تتكلم كل الأصوات. ونكتفي هنا بتسليط الضوء على علاقة غوته بالدين الإسلامي. فرغم كتاباته الايجابية وأقواله المتعددة بحق الإسلام التي تشهد على احترام وإعجاب كبيرين، إلا أن النقد الأدبي بألمانيا، ومنذ المستشار الحديدي أوتو فون بسمارك، حاول ربط غوته وأدبه بالقومية الألمانية وأخرس كل محاولة للحديث عن عمق تأثره بالشرق وبالإسلام خاصة.
اقرأ أيضاً: هاينرش بول: الأديب الملتزم بقضايا الإنسانية
وكان على الثقافة الألمانية أن تنتظر عقوداً كثيرة حتى ظهور كتاب كاترينا مومزن حول غوته والعالم العربي سنة 1988. يمثل الكتاب المحاولة الأولى لتحرير غوته وأدبه من المركزية القومية الألمانية، والتأكيد على أن غوته ابن ثقافات متعددة وغير مرتبط أو مدين لثقافة واحدة أو قومية محددة. كانت نظرة غوته إلى الشرق، وبخلاف مثقفي عصره، حرة من كل نزعة استعلائية واستعمارية، نظرة نافذة إلى روح هذا الشرق وثقافته وروح كتابه المؤسس: القرآن. وبدأ اهتمام غوته بالقرآن في عامي 1771 و1772، وذلك في الوقت الذي بدأ فيه يشك بالعديد من المعتقدات الكاثوليكية. لقد وجد غوته، كما كتبت كاتارينا مومزن، في النبي العربي محمد رفيقاً في الاعتقاد بوحدانية الإله، واكتشف في الثقافة الإسلامية، جذور الأنوار الأوروبية.
رشيد بوطيب