غسان كنفاني إرثٌ ثوريٌ وأدبيٌّ لم يمحوه الاغتيال
قرأ عيون الأطفال في المنفى تاريخاً من المعاناة ومستقبلاً للثورة والعودة، وتجلت في قلمه كل اللحظات القاسية التي عاشها الفلسطينيون بعد النكبة، الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني الذي صنع بالحروف وطناً للثائرين والمستضعفين، كما المخدوعين والمبعدين. تقرأ في كفي "أم سعد" الصلبتين كقطعة حطب وعميقتي الأخاديد كتاريخ فلسطين، معايشة غسان كنفاني لكل تفاصيل الحياة الفلسطينية.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
كما تقرأ ثورته في جبين "منصور" المراهق الذي كان جل أحلامه أن يقتني بندقية يقاوم بها المحتل، وتلامس حلم العودة في روايته "عائدٌ إلى حيفا" وفي رواية "رجال تحت الشمس" تعيش صراع مروان وأسعد وأبي قيس بين المنفى والأحلام والمجازفة. شكل غسان أيقونةً في أدب المقاومة لم يطفأ وهجها مع قنبلة الموساد في بيروت عام 1972. فكيف عاش غسان كنفاني في المنفى وما هي أهم أعماله هذا ما سنتعرف عليه في المقال.
غسان كنفاني بين الوطن والمنفى
ولد غسان كنفاني في مدينة عكا عام 1936 لعائلة من الطبقة المتوسطة وكان والده فايز محامياً وناشطاً في الحركة الوطنية التي عارضت الاحتلال البريطاني وتشجيع الهجرة الصهيونية، تلقى غسان تعليمه في مدرسةٍ تبشيريةٍ كاثوليكية فرنسيةٍ في يافا، وبعد النكبة عام 1948 نزح غسان مع عائلته واستقروا في دمشق وهناك أكمل غسان تعليمه الثانوي وفي عام 1952 التحق بقسم الأدب العربي في دمشق، حيث التقى الدكتور جورج حبش (مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) الذي ضمه فيما بعد إلى حركة القوميين العرب (وهي حركة تأسست في أعقاب النكبة عام 1948) وكان ذلك سبباً لطرده من الجامعة عام 1955، فذهب إلى الكويت وعمل كمدرسٍ هناك، ثم عاد إلى الأردن وعمل في مجلة الرأي الأردنية التابعة لحركة القوميين العرب كما عمل لاحقاً في مجلة الحرية اللبنانية التابعة لحركة القوميين العرب.
أدب غسان كنفاني
بدأ غسان كنفاني كتابة القصص القصيرة أثناء عمله بتدريس الأطفال في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، حيث شكل ما يقرأه في عيون الأطفال وحياً لقصصه، تميز أسلوبه بالوضوح والصراحة واستخدم تكنيكيات جديدة في كتابة القصة تمثلت باستخدام الفلاش باك في قصصه (أي الخطف خلفاً) واستخدم السرد وحمل هم الفلسطينيين وتجلى ذلك في جميع أعماله الأدبية (سنتحدث عنها في وقتٍ لاحقٍ من هذا المقال).
كان أول من نشر مفهوم "أدب المقاومة" وفي أدبه يشير كنفاني إلى أن المقاومة وحمل السلاح في وجه المحتل هما الحل لأزمة الفلسطينيين (تجلى ذلك في عدة أعمال أدبية مثل، قصة منصور يحمل بندقية خاله ويشرِّق إلى صفد، وأم سعد).
أهم أعمال غسان كنفاني
رجال في الشمس
كتبها غسان كنفاني عام 1962، يروي فيها قصة ثلاثة لاجئين فلسطينيين هم (مروان وأبو قيس وأسعد) يريدون الهرب من مخيمات اللجوء إلى الكويت للبحث عن فرصة عملٍ بعد أن ضاقت فيهم السبل، يستخدم في القصة أسلوب الفلاش باك ليصور الصراع الذي يعيشه هؤلاء الثلاثة بين ضنك العيش والمواقف القاسية التي يتعرضون لها وبين فكرة المخاطرة والذهاب عن طريق التهريب إلى الكويت أملاً بحياة أفضل، ويمرر من خلال الشخصيات والأحداث التي يقدمها معاناة الفلسطينيين وقيمة الأرض.
تتسنى لهم الفرصة بالهروب إلى الكويت على متن صهريج يقوده شخصٌ يدعى أبو الخيزران وهو شخصٌ له باعٌ طويل بالتهريب كما أن غايته هي جمع المال، وخلال طريقهم إلى الكويت يضطر كل من اللاجئين الثلاثة أن يختبئوا داخل الصهريج على نقاط التفتيش، وعلى نقطة التفتيش الأخيرة يتأخر أبو الخيزران ليفتح عليهم باب الخزان؛ فيموتون مختنقين وتموت معهم أحلامهم ويكمل أبو الخيزران طريقه غير مكترثٍ لما حصل.
رواية أم سعد
كتب غسان كنفاني رواية أم سعد 1969 وفيها يصور مثالاً للأم الفلسطينية التي تقوى على كل مشاعرها وعواطفها في سبيل حماية الأرض، حيث تتحلى أم سعد بالصبر والقوة ولا تظهر انكسارها أمام أحد، وتفرح بالتحاق ابنها سعد بالفدائيين، وتشكل رمزاً للثورة. أم سعد كانت مدرسةٌ للصبر والقوة والتضحية وهي شبيهة بالنسوة اللواتي قرأ غسان كنفاني سماتهم في مخيمات اللجوء، ويصف غسان أم سعد قائلاً: "ورأيتها هناك، يداها كانتا جافتين كقطعة حطب، مشققتين كجذعٍ هرمٍ وعبر الأخاديد التي حفرتها سنون لا تحصى رأيت رحلتها الشقية مع سعد منذ كان طفلاً وتعهدته تلك الكفان الصلبتان كما تتعهد الأرض ساق العشبة الطرية، والآن انفتحا فطار العصفور الذي بقي هناك لعشرين سنة".
رواية عائدٌ إلى حيفا
كتبت هذه الرواية عام 1970 ويروي فيها غسان قصة زوجين هما سعيد وصفية ينزحان عام 1948 بعد النكبة، فيفقدان ابنهما ولا يستطيعان أخذ ولدهم خلدون معهم بسبب الفوضى التي سببتها قوات الاحتلال في حيفا، وبعد مضي عدة أعوام يتمكن الزوجان من العودة إلى حيفا في عام 1967، فيجدان ابنهما خلدون قد أصبح شاباً وانظم إلى الجيش الإسرائيلي، حيث استقرت في بيت الزوجين أسرةٌ يهودية فتبنت الولد وسمته "دوف"، وعندما يعرف الولد الحقيقة يختار الانتماء إلى إسرائيل.
أعيد إنتاج رواية عائد إلى حيفا في عدة أعمال فنية، حيث مثلت كفيلمٍ باسم (عائد إلى حيفا) وأخرجه العراقي قاسم الحول، كما مثل فيلمٌ آخر عن رواية عائد إلى حيفا عام 1994 واسمه فيلم (المتبقي) وهو من إنتاج إيراني وإخراج سوري، بالإضافة إلى مسلسل (عائد إلى حيفا) الذي أخرجه السوري باسل الخطيب، كما مثلت الرواية كمسرحية أدتها فرقة الطقوس المسرحية الأردنية على شكل عرض ميلو دراما.
بالإضافة إلى العديد من الأعمال الأدبية الأخرى التي كتبها غسان كنفاني وحملت أفكار المقاومة والمعاناة الفلسطينية وأهم هذه الأعمال:
- موت سرير رقم 12عام 1961.
- أرض البرتقال الحزين عام1963.
- ما تبقى لكم عام 1963.
- الباب 1964.
- عالمٌ ليس لنا 1965.
- عن الرجال والبنادق عام 1968.
- الأعمى والأطرش عام 1972.
اغتيال كنفاني محاولةٌ لخنق روح المقاومة
كان لبلاغة التصوير التي جسدها كنفاني في أعماله القصصية وللشخصيات التي بعثها في أعماله صدىً تجاوز السطور، ووصل برموزه وشخصياته إلى قرائه مستنهضاً ومحفزاً على الثورة وعاذلاً ومنتقداً في بعض الأحيان، فاستشعر الإسرائيليون خطر أفكاره الثورية، ليهيئ جهاز الاستخبارات الإسرائيلي "الموساد" عملية اغتياله، حيث فخخ سيارته بقنبلة تزن 3 كغ.
نفذت عملية الاغتيال في بيروت عام 1972، إذ فجرت سيارة غسان كنفاني وكانت بجانبه ابنة أخته لميس التي كانت تبلغ من العمر 17 عاماً، وأقصي قلمٌ رافضٌ في اغتيالٍ كان بدايةً لسلسلةٍ من الاغتيالات التي نفذت بحق العديد من الشخصيات الثورية فيما بعد كشخصية رسام الكاريكاتير ناجي العلي.
غسان كنفاني الأيقونة التي رصفت طريق المقاومة في الأدب، بعث في شخوصه المتخيلة أنفاس المنفى والٌقهر ثم الثورة. كتب غسان كنفاني العديد من الأعمال التي يظهر فيها رفضه وثورته كما يستنهض الهمم، وينتقد الفاسدين والساكتين، فكان صوتاً اغتيل من قبل الموساد لإسقاط الحقيقة.
رحل غسان عام 1972 تاركاً وورائه تاريخاً عمره 36 عاماً ومجموعةً من القصص والروايات التي لم تمت بموته، فبقيت شخصياته التي صورها في أعماله تنبض بالثورة والحياة، إذ لم تكن قنبلةٌ بوزن 3كغ كافيةً لمحو إرثٍ أدبي بأكمله.