علي باشا إبراهيم من ابن لبائعة الجبن إلى وزير للصحة
حرصت والدته على تعليمه فهرّبته من والده الذي كان يسعى لضمه إلى حضانته
من ابن فلاحة تعيش على بيع الجبن في الشوارع لتُنفق على ابنها، إلى واحد من أبرز الجراحين المصريين، وأول نقيب للأطباء المصريين، إنه الدكتور علي باشا إبراهيم الطبيب العصامي الذي بدأ حياته من الفقر وانتهى به الأمر ليصبح من رواد الطب، وأهم الشخصيات المصرية.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
من هو علي باشا إبراهيم؟
تزوجت السيدة مبروكة خفاجي –فلاحة من قرية مطوبس بكفر الشيخ- بإبراهيم عطا –الفلاح الذي يعمل بالأجرة- وبسبب ضيق الحال طلقها زوجها وهي حامل في شهورها الأخيرة.
فاضطرت كريمة للسفر مع والدتها وشقيقها إلى الإسكندرية، وهناك أنجبت ابنها علي في العاشر من أكتوبر عام 1880، وكانت تُنفق عليه من بيع الجبن في شوارع الإسكندرية.
كان هدف الأم أن تُربي ابنها وتُعلَّمه فحرصت على إدخاله مدرسة رأس التين الابتدائية لكي يتلقى تعليمه، وكان وقتها طفلًا ذكيًا وموضع إعجاب مدرسيه.
وكان ترتيب علي الأول على مدرسته في الشهادة الابتدائية، والتي حصل عليها عام 1892، وحينها رغب الأب أن يضمه إلى حضانته، فحاولت الأم بشتى الطرق لتمنع ذلك خشية أن يتوقف تعليم ابنها عند هذا الحد.
فقررت أن تهرب ابنها عبر أسطح الجيران، ومنحته كل ما لديها من أموال، وأخبرته أن يقصد أسرة السمالوطي التي تعد واحدة من أكبر الأسر في القاهرة والإسكندرية.
وبالفعل في فجر اليوم التالي تحرك علي إلى محطة القطار قاصدًا القاهرة، وهناك تولته أسرة السمالوطي بالرعاية، والتحق بالقسم الداخلي في المدرسة الخديوية بدرب الجماميز.
ومنها حصل علي على دراسته الثانوية، وناش شهادة البكالوريا بتفوق وذلك في عام 1897، وبعدها التحق بمدرسة الطب بالقصر العيني عام 1901.
أظهر علي إبراهيم نبوغًا كبيرًا في أثناء الدراسة، وكان يتلقى آنذاك ثلاثة جنيهات منحةَ له لمواصلة الدراسة، وكان علي يرسل هذه الأموال إلى والدته، وينفق على نفسه من عمله قارئًا للقرآن في المقابر.
واجه علي إبراهيم العديد من الصعوبات في حياته، الأولى أن أمه هي من تحملت مسؤوليته وحيدة، وجاهدت لتعليمه وضمان مستقبله.
أما الثانية هو ما عايشه في صغره من صدمات، ولعل أهمها ضرب الأسطول الإنجليزي لشواطئ الإسكندرية في يوليو 1882، وهو ما تسبب في تشريده وهو أمه في المزارع لعدة أيام.
وكل هذه الصعوبات شكلت قصة علي باشا إبراهيم الذي بدأ يسطع اسمه عاليًا بعد دخوله مدرسة الطب وتفوقه فيها.
التحاق الدكتور علي باشا إبراهيم بمدرسة الطب
عندما التحق علي إبراهيم إلى مدرسة الطب كان طالبًا من الاثني عشر الذين ضمتهم دفعته، وكانت مدرسة الطب حينها تعاني الكثير من التدهور.
فكانت الإنجليزية هي لغة التدريس المعتمدة، ولكن يُلقي الأساتذة محاضراتهم باللغة العربية، ولكنه تمكن من تجاوز هذه الفجوة اللغوية.
أيضًا استغل علي باشا قلة عدد الطلاب واستطاع أن يحصل العلم خير تحصيل، وبجده واجتهاده أصبح شخصية مرموقة بين الطلاب بعلمه، وعمله وخلقه.
وعلى الرغم من تفوقه ونبوغه إلا أنه كان يجتهد إلى الحد الذي جعله في مصاف الأستاذة وهو لا يزال طالبًا.
وفي مدرسة الطب تعرف علي إبراهيم على الدكتور عثمان غالب –مكتشف دورة حياة دودة القطن- وصار يلازمه بعد انتهاء وقت الدراسة، ويقضيان معًا ساعات للدراسة.
أيضًا تتلمذ علي إبراهيم على أيدي أهم الأطباء والجراحين حينها، ومنهم الدكتور محمد باشا الدري شيخ الجراحين، وهو أول الباحثين في أمراض العيون المتوطنة.
وبسبب تفوقه عُين علي إبراهيم مساعدًا للعالم الإنجليزي الدكتور "سيمرس" وهو أستاذ الأمراض والميكروبات، وكان يتلقى راتبًا شهريًا نظير عمله، كما أكسبه هذا العمل خبرة وتدريبًا جيدًا قلَّ ما توافر لطالب من زملائه.
وبهذا الشكل تكونت له في سن مبكرة وهو لا يزال طالبة شخصية الطبيب الباحث، التي كانت لها دورًا كبيرًا في حياته بعد التخرج.
تخرج علي باشا إبراهيم في مدرسة الطب بجامعة فؤاد عام 1901، وكان الأول على دفعته، وفي هذا العام قررت الحكومة أن تختصر سنوات دراسة مدرسة الطب إلى أربع فقط، بدلًا من ست سنوات.
أعمال إبراهيم باشا بعد التخرج
استمر علي باشا مساعدًا للدكتور "سيمرس" بعد تخرجه وذلك لمدة عام، أي سنة 1901، وبعدها عمل علي باشا بقسم الأوبئة بمصحلة الصحة –وزارة الصحة حاليًا.
ونبوغه وتفوقه أوصلاه ليتمكن من تشخيص الكثير من الأمراض التي تفشت في مصر، وخاصة في الريف المصر.
فكان من أوائل من نجحوا في تحديد المرض الغامض الذي تفشى في بلدة "موشا" بأسيوط في بدايات القرن العشرين، وعرَّفه بأنه الكوليراس الآسيوية، وكان لتشخيصه الفضل الكبير في محاصرة الوباء.
أيضًا تمكن علي باشا في تشخيص مرض خبيث انتشر بشكل كبير بني عدد من سيدات الأرياف وفي تلك الفترة، حيث شخصه بأنها "الجمرة الخبيثة".
حاول علي باشا حينها أن يفتتح عيادته الخاصة بمشاركة طبيب زميل له، حيث نجح في استغلال مدخرات سنته الأولى للعمل في زارة الصحة، وافتتح العيادة.
ولكن باءت تجربته بالفشل، فكان إقبال وثقة غالبية المصريين تتوجه نحو الطبيب الأجنبي، ولكن هذه العثرة لم توقفه ولم تمنعه من تحصيل العلم، وممارسة علوم الطب.
بعدها أجرى علي باشا العديد من العمليات الجراحية التي كانت سببًا في ذيوع صيته، وبهذا اكتسب ثقة المصريين.
ومن ضمن العمليات الناجحة التي قام بها، عملية استئصال كلية التي نجحت رغم الإمكانيات الجراحية المتواضعة.
أيضًا نجح علي باشا في إتمام عملية لتفتيت حصوات المثانة، وكانت هذه العملية حينها من العمليات الصعبة التي تستلزم البقاء في المستشفى لفترة طويلة.
كل هذه النجاحات أكسبته شهرة وثقة واسعتان، وهو ما جعله يتقلد المناصب الإدارية العليا، وعلى رأسها مسؤولية إدارة مستشفى بني سويف، وبعدها مديرًا للمستشفى الأميري في أسيوط.
وفي هذا الوقت سعى علي باشا أن يُغير نظرة العامة للطبيب المصري، فاستغل سفر الأطباء الأجانب إلى بلدانهم في فصل الصيف، فيتحول اهتمام العامة إلى الطبيب المصري.
كان لعلي باشا نظرة ثاقبة لحالة الطب في مصر، فكان يُدرك أن الاهتمام بعناصر الطاقم الطبي له الدور الكبير في النهضة بمستوى الرعاية الطبية المقدمة.
لذا أول ما قام به هو أنه منح اهتمامًا كبيرًا لقطاع التمريض، واتفق مع إحدى الأديرة لدعم جهود التمريض بالمستشفى، ولكنه واجه معارضات كثيرة من مصلحة الصحة.
حيث عرض على مصلحة الصحة تقديم مكافآت للممرضات الجدد، وبسبب اعتراض مصلحة الصحة قرر أن يمنحهن مكافأة من ماله الخاص، حتى رضخت الوزارة لطلباته.
إنجازات دكتور علي باشا إبراهيم في القاهرة
عام علي باشا إبراهيم إلى القاهرة عام 1909، وهناك شغل مناصب عدة، وأولها منصب مساعد الطبيب الشرعي وظل يشغل هذه الوظيفة حتى عام 1924.
وخلال فترة عمله تلك افتتح عيادته الخاصة بشارع الصنافيري، والتي كانت مركزًا لتجمع الأطباء المصريين خلال ثورة 1919، حيث تزعم علي باشا توحيد الجبهة الطبية.
أيضًا خلال تلك الفترة نال لقب جراح استشاري للحضرة العليا السلطانية، وذلك بعد نجاحه إجرائه جراحة دقيقة للسلطان حسين كامل.
وجهوده الكبيرة لتدعيم المهارات المصرية في الطب جعلته مؤهلصا ليشغل منصل أستاذ جراحة ليكون أول مصري ينال هذا اللقب، وذلك في عام 1924.
وبعدها أصبح عملية كلية الطب عام 1929، وكانت هذه بداية عهد جديد للطالب المصري ولمستشفى القصر العيني.
حيث عمد علي باشا على تطوير أقسامها، وتوسيع رقعتها وفتح المجال للطلاب المصريين للتفوق، فأرسلهم إلى البعثات العلمية لاستجلاب أحدث العلوم الطبية من الخارج.
أيضًا عمد علي باشا تمصير مجال الطب بالمواهب المصرية النابغة، وكان أول من سمح للفتيات للدراسة في كلي الطب، ففهي عهده التحقت أول أربع فتيات بكلية الطب وذلك عام 1929.
كما كان للدكتور علي باشا إبراهيم دورًا بارزًا في إنشاء كيانات طبية بارزة، ولعل أ÷مها الجمعية الطبية المصرية.
أما النقلة النوعية الكبرى في حياة علي باشا توليه منصب وزير الصحة عام 1940، وحينها كان له دورًا في إصدار الدستور المصري للأدوية.
كما أنشأ أول نقابة للأطباء وذلك عام 1940، وكان أول نقيب لها، وفي عام 1941 تولى عمادة جامعة فؤاد الأول لمدة خمس سنوات.
وخلال تلك الفترة أصدر علي باشا العديد من المؤلفات، ومنها كتاب علي باشا إبراهيم "الثقافة العلمية وأثرها في الصحة العامة" وكتاب "التعليم الطبي في مصر في العهد الحديث".
التكريمات التي حصل عليها
حصل علي باشا إبراهيم على العديد من الجوائز والتكريمات نظير جهوده المكثفة للنهضة بالطب في مصر.
ففي عام 1931 مُنح رتبة الباشوية، وفي هذه المناسبة ألقى الشاعر أحمد شوقي، والدكتور نجيب محفوظ خطبًا في حقه.
كما كتب الشاعر حافظ إبراهيم شعرًا له، وقال فيه:
هل رأيتم موفقًا كعليِّ في الأطباء يستحق الثناء
أودع الله صدره حكمة العلمِ وأجرى على يديه الشفاء
كم نفوساً قد سلها يد الموت بلطف منه وكم سل داء
فأرانا لقمان في مصر حيًا وحبانا لكل داء دواء
حفظ الله مبضعًا في يديه قد أمات الأسى وأحيا الرجاء
من طفل فقير تحاول أمه جاهده لتعليمه وضمان مستقبله لأول نقيب أطباء ووزير الصحة، وأحد أهم وأبرز الجراحين المصريين، علي باشا إبراهيم قصة عصامي أبى الفقر والجهل وشق طريقه بين العلماء.