طقوس اللاجئين لاستذكار أجواء الوطن؟
"بعد طول عناء وجدت (إن هاوسي) في برلين".. بهذه الجملة ومع ابتسامةٍ عريضة تصف رولا، الصبية السورية العشرينية، جلساتها اليومية في مقهى (هوبلتز) في برلين في ساحة الروزنتالر في مركز المدينة.
تقول رولا لـ مهاجر نيوز: "لقد اعتدت أن أجلس يومياً في مقهى (إن هاوس) في دمشق قبل أن يختفي المكان كله آخذاً معه ذكرياتي إثر تفجير سيارة مفخخة أمامه في العام 2012، لم يكن المقهى مجرد مكانٍ أقضي فيه بعض الوقت، إذ كان مكتبي ومكان لقائي مع أصدقائي، وبحكم عملي كصحفية متعاقدة كنت اضطر لعقد الكثير من اللقاءات، والبقاء خارج المنزل، فكان المقهى كغرفتي في الهواء الطلق. تعذبت كثيراً في دمشق حتى تمكنت من إيجاد مكانٍ آخر ارتاح فيه خلال سنوات الحرب هناك، لأسبابٍ أمنية واقتصادية، وبعد أن وصلت إلى برلين حاولت خلق الجو نفسه لأستحضر جزءاً من الوطن، لأقنع نفسي أني بدأت ببناء حياةٍ تشبه تلك التي كنت أعيشها هناك، وكانت إحدى الطرق هي استعادة طقسي مع مقهاي المفضل الذي وجدته في هذا المكان".
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
استعادة طقوس الماضي
عامان مرا على مرحلة التدفق الكبير للاجئين إلى ألمانيا التي بدأت في منتصف عام 2015، وبعد حوالي سنتين بدأ العديد من اللاجئين العمل على بناء حياةٍ جديدة في وطن اللجوء، حيث اتخذ كلٌّ منه طريقته لفعل ذلك، لكن الأمر الأهم الذي رافق العديد من اللاجئين هو استحضار بعض التفاصيل من الحياة في الوطن إلى حياتهم الجديدة، كنوعٍ من الحنين، أو التمسك بالماضي، عدا عن أن معظم اللاجئين لم يختاروا غربتهم القسرية نظراً للظروف السيئة التي تعيشها بلدانهم.
"يعيش الكثير من اللاجئين وسط ذكرياتهم، وضمن ماضيهم، لكن ببساطة لا يمكن تجاوز حياة بأكملها" تتابع رولا وتضيف "عشت لأكثر من 25 سنة في دمشق لا يمكنني أن أمحي كل شيء لأبدأ كتابة حياتي على ورقٍ أبيض، يخنقني الحنين وأحاول تسلية نفسي ببعض هذه التفاصيل، كالمقهى، أو طبخة تشبه طعام أمي، أو لقاء أصدقاءٍ قدامى جمعتنا برلين مجدداً، ولولا ذلك كان الحنين قد قضى علي".
على مقربةٍ من مقهى رولا يقف محمد الشاب العشريني أيضاً على أحد ضفتي نهر "شبري" في برلين، محمد الذي قطع طريق البلقان مشياً حتى يصل إلى ألمانيا، لم يكن فراقه لدمشق سهلاً عليه ، لذا بدأ ومنذ مدة استعادة طقسٍ كان يمارسه مع بقايا نهر بردى في دمشق، ولكن هذه المرة من أحد أرقي مناطق العاصمة الألمانية إذ يقف بشكلٍ يومي تقريباً أمام "الشبري"، ليحدثه ويشكي له همومه، بحسب تعبيره.
يقول محمد لـ مهاجر نيوز "قد يعتقد البعض أن هذا نوعاً من الرومانسية غير المعقولة، ومبالغة في المشاعر، لكن هذا الطقس يريحني، يشعرني ولو للحظات أنني لا زلت هناك، لا أقول أن حياتي سيئة هنا على العكس، بدأت أحقق أحلامي، والتحقت بالجامعة، وأحب حياتي هنا، لكن الوحدة، والحنين أمران لن يفهمها سوى بردى والشبري" يختم ضاحكاً.
البحث عما يشبه "هناك"
قد يجد البعض من اللاجئين القليل مما يذكرهم بالوطن من خلال التردد على أماكن تذكرهم بتلك التي تركوها هناك، لكن بعض اللاجئين يصرون على خلق مكانٍ كاملٍ يشبه الوطن، إذ يقوم الكثير من اللاجئين السوريين مثلاً بتسمية بعض المناطق في برلين بأسماء شوارع تشبهها في دمشق أو حلب، فساحة "كوتبوساتور" في منطقة كرويتزبرغ يطلق عليها الكثيرون "سوق الحرمية" نظراُ للتشابه الكبير بين المنطقتين، في حين يطلق البعض على حي "الأوسلور" في منطقة فيدينغ اسم حي الزاهرة الدمشقي، ليكون سوق شارع"فيلميرسدورف" في شارلتنبورغ توأم سوق الصالحية في دمشق.
علي من العراق ترك عائلته وحياته في بغداد، والذي قابلناه في مطعم عراقي بشارع العرب" أي شارع "زونن آليه" في منطقة نويكولن في برلين، لا زال يبحث عن ماضيه في طبق من "التمن" العراقي. يقول علي لـ مهاجر نيوز "لا شيء يشبه طعام أمي، لكنها محاولةٌ يائسة لتخطي حنيني، أحياناً وأنا آكل تختلط دموعي مع الطعام في حلقي، لا يمكن أن أنسى هناك، رائحة ما يمكن أن تعيدني إلى هناك بلحظات، منتج قادمٌ من العراق أجده في السوبر ماركت العربي يبكيني بحرقةٍ لساعاتٍ احياناً، لا يمكن لأحد أن يفهم معنى استحضار وطن بقطعةِ لحمٍ مطبوخة، سوى من فقده صدقوني.
تمتلئ محلات البقالة العربية والتركية بالعديد من المنتجات المستوردة من الدول العربية كافة، بعضها فقد في بلده الأم، كبعض المنتجات السورية، التي انتقلت مصانعها خارج سوريا فأصبحت معدة للتصدير فقط، وعادةً ما تحمل رفوف هذه المحلات، الكثير من الذكريات للاجئين الجدد، إذ أن إعادة شم أو تذوق طعماتٍ مرتبطة بذكرياتهم تجعل للتسوق من هذه المحلات معنىً آخر. و"ربما يشتري اللاجئون ماضيهم مع المنتجات" بحسب تعبير خالد الذي يعمل في أحد هذه المحلات بالعاصمة برلين ويقول "لا نستغل حاجة الناس، لكن الحياة ستستمر، ونحن العرب لنا طعامنا الخاص، وتوابلنا الخاصة، ونحن نقدم هذه الخدمات، نحاول جلب أوطانهم إلى هنا لتسهيل حياتهم، أما القيمة المعنوية لهذه الأشياء فتختلف من شخصٍ إلى آخر".
غوغل والدراما وسيلتان للعودة
يتعرض الكثير من اللاجئين إلى اللوم من قبل من بقي في وطنه، بسبب ما يصفونه بـ"النعي" عبر مواقع التواصل الاجتماعي لابتعادهم عن الوطن، في حين لا يزال العديدون ممن لم تتح لهم فرصة الخروج يعانون في الداخل، لكن الحنين "شيءٌ لا يشعر به من هم في الداخل" تقول دانة القادمة من حلب في سوريا، تصف دانة الحنين بـ "الباب الذي يغلق على الروح ليقطع التنفس"، وتقول لـ مهاجر نيوز "أحياناً أستيقظ فزعة وأنا أشعر بالاختناق، أشعر بأني أريد العودة إلى هناك ولو للحظات، لأتمتع بيد أمي تمسح شعري، أو جلسةٍ عائلية سخيفة لطالما تذمرت منها في السابق، لا أحد سيفهم هذا الشعور إلا من عانى منه، أحياناً يكون أصعب من الموت نفسه".
وتتابع دانة "حياتي جيدة هنا بدأت العمل منذ فترة قريبة، وانا أتحدث الألمانية بشكل جيد، لا شيء يستدعي الحزن، وأنا لست حزينة، لكني أشعر بالحنين وهما شيئان مختلفان، أحياناً عندما أختنق من شوقي، أذهب إلى كومبيوتري وأفتح (غوغل) وأبدأ بالمشي في شوارع مدينتي، أبحث عن منزلي ومدرستي، أزور صديقاتي في منازلهن، أغلق كومبيوتري وأعود للواقع لاستكمل حياتي".
أما خالد الشاب الثلاثيني يحاول تذكر دمشق من خلال الدراما إذ يخبرنا إنه "يشاهد حلقات من مسلسلات قديمة صورت في دمشق، يفعل ذلك كي لا ينسى المكان، يمشي في هذه الشوارع من خلال التلفزيون، وأحياناً يطلب من أهله أن يقوموا بتصوير بعض الشوارع ليرى كيف تغيرت بغيابه.
في حين لا زالت نور، القادمة من حمص، والتي قابلناها بالقرب من نهر شبري في برلين أيضاً، تبحث عن الرائحة إذ تقول لـ مهاجر نيوز "ألمانيا بلدٌ جميل، أجمل من سوريا بكثير ربما، لكني أفتقد للرائحة هنا، لا رائحةً ترافق ذكرياتي الجديدة لاستحضرها عند التذكر، أحاول البحث عن هذه الرائحة لتكون كهوية تربطني بالمكان، خاصةً أني لا أملك ترف العودة عند كل اشتياق، فلعل الرائحة تساعدني على بناء حياتي الجديدة هنا
راما جرمقاني
عن مهاجرنيوز