زرياب الموسيقا العربية
تخرّج من أراضي العرب موسيقياً بارعاً ومغنياً لامعاً، اهتم بعلوم الفلك و الجغرافيا، أدخل الموسيقا الدنيوية إلى الغرب الأوروبي، صاحب الفضل بإدخال الوتر الخامس على العود، ليس هذا فحسب.. بل علّم فنون السلوك وآداب الطعام والعادات الاجتماعية الراقية، فكان يستحق لقب "معلم المروءة"، لكن إعلامنا العربي نسيه في دفاتر التاريخ رغم آثاره المنتشرة في كل مكان، فاهتم به الغرب، وكان سباقاً في تخليد ذكراه، فإن موقع بابونج يخص هذا الموسيقي الكبير بمقالٍ تعريفي عنه، وعن حياته وأهم إنجازاته، إنه الموسيقيّ "زرياب".
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
تعود جذور الموسيقا العربية إلى آلاف السنين قبل الميلاد، فقد كان العرب القدماء هم أول من استنبط الأجناس القوية في ترتيب النغم الموسيقي، وتعتبر المقامات الموسيقية هي الأساس اللحني و النغمي للموسيقا العربية، حيث تطورت في الأندلس باعتبارها كانت بيئةً خصبة لظهور الشعر الموسيقي (الموشحات أو الشعر المغنى)، ولظهور موسيقيين متميزين أشهرهم "زرياب"، صاحب الفضل في إضافة الوتر الخامس إلى العود.
من هو زرياب؟
ولد أبو الحسن علي بن نافع الملقب ب(زرياب) في العراق سنة ( 173ه/789م)، ذكر بعض المؤرخين أنه ربما كان عبداً أو خادماً شخصياً للمهدي، وقد اختلفوا بكونه من أصل أفريقي أم فارسي أم كردي، فهو صاحب بشرة سمراء داكنة، كان بالإضافة لفصاحة لسانه وجمال صوته سبباً في اكتسابه لقب "زرياب".
تفتقر الكتب التاريخية وحتى المتخصصة منها بالأعلام الى مرحلة مهمة من حياة زرياب وهي فترة الطفولة، إذ لم يوجد أي مصدر يتحدث عن هذه الفترة، وإنما اقتصرت على وصفه أنه من موالي الخلفاء العباسيين، ربما يعود الغموض في سيرته الأولى إلى كونه مجهولاً في صباه، فلم يهتم به أحد من المؤرخين، تتلمذ في مدرسة اسحق الموصلي الفنية (يعتبر الموصلي من أمهر الموسيقيين في العصر العباسي، تفرّد بالغناء وضبط الأوزان التي تبنى عليها مقامات الموسيقا العربية)، عُنيت هذه المدرسة بتثقيف التلاميذ وليس تعليمهم فقط، حيث تعلّم الطلاب فيها الغناء، الموسيقى، الفنون، الجغرافيا، الفلك، وغيرها من العلوم.
تخرج زرياب منها موسيقياً بارعاً ومغنياً لامعاً، إضافةً لمعرفته بعلوم الفلك والجغرافيا حسب ما ذكره المقريّ في كتابه (نفح الطيب من الأندلس الرطيب): "كان زرياب عالماً بالنجوم، وقسمة الأقاليم السبعة واختلاف طبائعها وأهويتها، وتشعب بحارها وتصنيف بلادها وسكانها، مع حفظه لعشرة آلاف مقطوعة من الأغاني بألحانها"، ويضيف المقريّ إلى ذلك: "معرفته الواسعة بالتاريخ وأخبار الملوك، فلما رحل إلى الأندلس، وخلا به الأمير، راقه ما أورده"، كما أن زرياب كان شاعراً مجيداً، ومن شعره هذه الأبيات:
علقتها ريحانة هيفاء عاطرة نضيرة ... بين السمينة والهزيلة والطويلة والقصيرة
لله أيام لنا سلفت على دير المطيرة ... لا عيب فيها للمتيم غير أنها كانت قصيرة
كحال الكثير من الأعلام في التاريخ العربي الإسلامي تم إغفال جوانب من حياتهم الشخصية، كذلك زرياب لم تذكر كتب التاريخ من هي زوجته، وما كان دورها في حياته، فقط اكتفوا بذكر أولاده الأربعة، عبد الرحمن، عبدالله، حمدونة، علية، الذين كانوا أصحاب موهبة موسيقية حيث تتلمذوا على يد أبيهم، وكان لهم الفضل بإكمال مسيرته بعد وفاته.
الأندلس.. انطلاقة زرياب وشهرته
العصر الذهبي لبغداد -عاصمة الثقافة العربية- آنذاك تحت حكم هارون الرشيد، الذي كان محباً للموسيقا والغناء، كان المعلم اسحق المسؤول الموسيقيّ في البلاط، وقد درب عدداً من تلاميذه -من بينهم زرياب - لأداء الأغاني والموسيقى في بلاط الخليفة، إلا أن المفاجأة كانت لاسحق عندما طلب هارون الرشيد من زرياب سماع صوته في الغناء، فأدرك أن زرياب صاحب الأذن الموسيقية المميزة قد علّم نفسه أغاني معلّمه اسحق المعقدة والصعبة حتى تلك المختص بها، وكان إعجاب الخليفة بالتلميذ الذكي مبهراً.
تملك الخوف اسحق الموصلي بأن يحتل زرياب مكانه بعد أن نال عزفه و غناؤه إعجاب الخليفة، ويذكر المقريّ أن الخليفة هارون الرشيد طلب من الموصلي سماع صوت مغنٍ لم يسبق له سماعه فاقترح عليه اسحق أن يأتيه بزرياب الذي يعود له الفضل باكتشاف موهبته و تعليمه، وعندما دخل زرياب بدا واثقاً بنفسه معتداً بفنه، وقد رفض استخدام عود معلمه وطلب من الخليفة أن يأذن له باستخدام عوده الشخصي، لكن الخليفة لم يرَ فرقاً بين العودين فقال لزرياب: "ما أراهما إلا واحداً"، لكن زرياب بيّن للخليفة "أن التشابه خارجي فقط وأن هناك فروقا جوهرية".
عندما خلا اسحق بزرياب قام بتوبيخه على إخفائه قدراته عنه، وعبر له عن مخاوفه من إعجاب الرشيد به قائلاً: "قد مكرتَ بي فيما انطويتَ عليه من إجادتك وعلّو طبقتكَ، وقصدتُ منفعتكَ، فإذا أنا قد أتيتُ على نفسي من مأمنها بإدنائك، وعن قليلٍ تسقط منزلتي وترقى أنت فوقي، وهذا مالا أصاحبك عليه ولو كنت ولدي"، وخيّره بين أمرين: إما الرحيل عن بغداد إلى جهةٍ لا يَسمع فيها خبره أو البقاء رغماً عنه، وعندها لن يدّخر اسحق وسعاً للقضاء عليه، نتيجةً لذلك اختار زرياب الرحيل، إضافة لأسبابٍ أخرى منها: كساد سوق الغناء في بغداد أثناء الفتنة بين الأمين و المأمون، وتردي أوضاع المغنين الاقتصادية.
عند رحيله عن بغداد أعانه الموصلي بالمال، فاتجه إلى المغرب في عهد الأمير الأغلبي عبدالله الأول، لكنه لم يجد عنده الرعاية والمكانة التي توقعها، فأعرض بأميرها في غنائه فغضب الأمير عليه وجلده، وأمره بالخروج من القيروان في مدة أقصاها ثلاثة أيام، وقال له: "إن وجدتكَ في شيء من بلدي بعد ثلاثة أيام جزيتُ عنقك".
عندها كاتب زرياب أمير الأندلس (الحكم بن هشام الأموي) يطلب إذنه بالدخول إلى الأندلس، فجاءه الرد بالترحيب ودعوته للقدوم هو وأولاده، حين وصوله إليها علمَ بخبر وفاة الحاكم و تولي ابنه عبد الرحمن الإمارة، فخاف ألا يكون محباً للغناء كأبيه، ما دعاه للتفكير في العودة، لكن رسول الحاكم المغني منصور اليهودي نصحه بمكاتبة الأمير عبد الرحمن، فجاءه الرد بالترحيب أيضاً.
دخل زرياب وعائلته قرطبة، فخصص له الأمير داراً لإقامته، بعد أن استضافه ثلاثة أيام استدعاه وسمع وصلةً من غنائه، فأعجب به الأمير، وخصص له و لأولاده الأربعة رواتباً شهرية، إضافة لمصروفات الأعياد والمناسبات وما يكفيهم من الغذاء وعلفاً لدوابه، إضافةً لما كان يكسبه زرياب من الحفلات الغنائية، فجمع بذلك ثروةً طائلة، كلُّ ذلك كان بداية انطلاق زرياب في رحلة الشهرة الواسعة فحظي باحترام ومدح الشعراء، ومنهم الفقيه ابن عبد ربه، وغبطه معاصريه من المغنيين على المكانة التي حصل عليها عند الأمويين في الأندلس.
زرياب معلمٌ لفن السلوك وارتداء الملابس والتجميل
ساعدت ثقافة زرياب الشاملة و تنقله من بغداد إلى المغرب فالأندلس على تفجير طاقاته الإبداعية، التي تجاوزت حدود المجال الفنيّ إلى المجال الاجتماعيّ، "معلم الناس المروءة" هكذا لقب زرياب في الأندلس، فقد وضع للطبقات الراقية قواعد للسلوك وآداب الجلوس والمحادثة والطعام، كما دربهم على إعداد مائدة راقية تُقدم فيها الأطباق حسب نظامٍ وترتيبٍ خاص، أخذوا عنه استخدام الأواني الزجاجية بدلاً من الفضة والذهب، علّمهم فن التجميل والعناية بالبشرة، أدخل إليهم طرقاً لقص الشعر وتسريحه، وضع لهم نظاماً لارتداء الملابس وفقاً لفصول السنة وتقلبات الجو، والانتقال من ارتداء الملابس القطنية الخفيفة في الصيف إلى ارتداء الملابس المصنوعة من الفراء شتاءاً، علّمهم تنظيف الملابس البيضاء مما يعلق عليها من ضررٍ بسبب استخدام بعض أنواع الطيب أو غيره، بوساطة الملح حتى يبيض لونها.
لديه قواعد في تعليم أصول الغناء.. الثناء على موسيقاه أغضب حساده
افتتح زرياب مدرسة فنية في قرطبة، خرّجت العديد من فناني الأندلس، واستقبلت في صفوفها بالإضافة إلى الطلاب العرب طلاباً من دول أوروبية عديدة مثل فرنسا و ألمانيا، جاءوا إلى قرطبة لطلب العلم، وعادوا منها وقد حملوا معهم من علوم الموسيقا العربية وفنونها ما أسهم في النهضة الفنية في أوروبا فيما بعد، إذ يعد زرياب أول من أدخل الموسيقا الدنيوية (التي تعنى بالمدائح ولا تتقيّد بالأوزان والقوافي) إلى الغرب الأوروبي، علّمهم العزف والغناء فكان لا يقبل فيها إلا الطلاب الموهوبين الذين تتوافر لديهم متطلبات هذا الفن، بعد امتحان كان يجريه لمن يريد الالتحاق بها، فكان يعرف صاحب الصوت المطبوع (الصوت النديّ القويّ الذي لا يعتريه غنّة ولا حبسة ولا ضيق نفس) من غيره.
اتبّع طريقة غريبة في مساعدة طلابه على التغلب على العيوب الخلقية في أصواتهم إن وجدت؛ بأن يأمر التلميذ بالجلوس على وسادة مدورة تسمى المسّورة، وأن يشدّ صوته إن كان قوياً، وإن كان ليناً أمره يشدّ على بطنه عمامة، فإن ذلك يقوّي الصوت، وإن كان لا يقدر أن يفتح فاه، أو كان يزم شفتاه عند النطق، أدخل في فيّه قطعة خشب عرضها ثلاثة أصابع يبيّتها في فمه ثلاث ليالٍ حتى ينفرج فكاه، من أشهر تلاميذه: ابنه عبد الرحمن الذي أدار المدرسة بعد وفاة والده، كان ابنه عبد الله أفضل إخوته صوتاً وأعلاهم مهارة في الغناء، وابنته حمدونة كانت مغنية أيضاً، وقد تزوجت من الوزير هشام بن عبد العزيز الذي قام أخوه بجمع أغاني زرياب في مجلدٍ عنوانه (كتابٌ معروف في أغاني زرياب)، و ابنته عليّة كانت مغنية وقد أخذ الناس منها صناعة الغناء بعد وفاة أخوتها.
علّم زرياب عدداً من جواريه العزف والغناء، منهن غزلان و هنيدة و متعة التي حظيت بإعجاب الأمير عبد الرحمن بن الحكم، فلما علمَ زرياب بأمرها أهداها للأمير وحظيت عنده، كما كانت "مصابيح" جارية الكاتب أبي حفص عمر بن قلهيل من تلاميذ زرياب، وقد جذب غناؤها الأديب الكبير أحمد ابن عبد ربه صاحب كتاب "العقد الفريد".
اعتمدت طريقة تعليم زرياب على مبادئ فلسفية يسهل على التلاميذ اقتباسها، وتساعدهم في تليين أصواتهم وضبط حركة أفواههم، وعلمهم طريقته في الغناء، وهي أن يفتتحه بالنشيد في أول شدّوه، ويأتي في أثره البسيط (البسيط: هو تحديد طريقة التقطيع الزمني لقطعة موسيقية بكيفية منتظمة)، ويختتمه بالمحركات (وهي الإيقاعات الموسيقية المتنوعة بين الانخفاض والعلّو التي تثير تفاعل الجمهور مع المغني)، تتبعها الأهازيج (الأهزوجة: نوع من الأناشيد الشعبية الغنائية، لا يصاحبها أي نوع من الآلات الموسيقية، وتشتهر في منطقة الشرق الأوسط).
لقد غلبت ألحان زرياب وأغانيه من سبقه من المغنيين مثل علون و زرقون و هما أول من دخل الأندلس، وحدث المثل لمنصور اليهودي الذي كان مبعوث الحكم بن هشام لاستدعاء زرياب إلى قرطبة، و يعود ذلك لتفوق زرياب الفني وتشجيع الأمير عبد الرحمن له، و تفضيله عن سواه من جميع المغنيين؛ مما أثار حسد أقرانه ومنافسيه من شعراء وفقهاء وأدباء الأندلس، لدرجة دفعت بعضهم لهجائه كالشاعر يحيى بن الحكم الغزال، وقد ورد في ديوان له قصيدتين يعرض فيهما بزرياب ويهجوه، فاتهمه في الأولى بالرياء والخداع دون أن يذكر اسم زرياب صراحةً، لكنه هجاه علانية في القصيدة الثانية، عندما أنزل الأمير عبد الرحمن زرياب في دار نصر الخصيّ، والذي قتل بالسّم، ومفادها أن زرياب لم يهتم بما جرى لصاحبها، بل استرسل في الحياة اليومية، مغتّراً بما يصله من الأمير من ذهبٍ وفضة، فيقول:
ذكرَ النّاس دار نصرٍ لزريابَ وأهلٌ لنيلها زرياب ... هكذا قدّر الإله وقد تجري بما لا تظنه الأسباب
وأخرجوه منها إلى مسكنٍ ليس عليه إلا التراب حجاب ... وتغانت تلك المراكب عنه وأميلت إلى سواه الركاب
وكذاك الزّمان يُحدث في تصريفه الذّل والبلا والخراب ... لتعجبتَ والذي منه أعجبت إذا ما نظرت شيء عجاب
لكأن الذي تولى كان عليه مخلّد لا يُرابُ ... فعلهُ بعده كفعل امرئٍ ليس عليه بعد الممات حسابُ
والعقل الفتى صحيح، ولكن حيَرته الأوراق والأذهاب
استمر تأثير زرياب على الحياة الفنية في المغرب والأندلس بعد وفاته، حيث قال ابن خلدون في مقدمته: "فأورث في الأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه الى زمن الطوائف، وطما منها بإشبيلية بحرٌ زاخرٌ ، وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العدوة بإفريقية والمغرب". و قد أسهمت الموسيقا الأندلسية في ظهور فني الزجل (فنٌ ارتجاليّ مصحوبٌ بإيقاع لحني بمساعدة الآلات الموسيقية )، والموشّح (فنٌ شعريٌّ مستحدث يلتزم بقواعد معينة في التقنية الغنائية) اللذان يعدّان من مكوناتها، وقد تأسست هذه الفنون في العراق ونمت تحت تأثيراتٍ مختلفة فارسية ورومية، وقد نقلها زرياب الى الأندلس، وابتكر الأسس الفنية التي بنيت عليها الموشّحات، وبفضله أصبحت الموسيقى الأندلسية أرقى أنواع الموسيقى شرقاً وغرباً، إضافة أنه قام بإدخال نظام المجموعات المنشدة في الغناء (الكورس).
كما استمر تأثيره في الموسيقا والغناء الأندلسي والمغربي والأوروبي بعد وفاته وبعد سقوط الأندلس، من خلال تلاميذه وألحانه و أغانيه التي تناقلتها الأجيال.
كيف حسن زرياب من العود وما قصته مع الوتر الخامس
فيما يخص اختراعات زرياب الفنية فقد أدخل تحسينات على آلة العود شملت الشكل والوزن، كما أدخل مواد جديدة في صناعة الأوتار أقوى وأمتن وأفضل أداءً للنغم من تلك التي كانت مستعملة من قبل، قام بالتخلص من المضراب الخشبي الخشن الذي يؤذي الأوتار ويتلفها، واستبدله بمضراب من قوادم النسر الأكثر خفة وملاسة وليونة، أهم إنجازاته كانت إضافته الوتر الخامس للعود لتأدية النغمة الحادة، التي لا يؤديها العود ذو الأوتار الأربعة، كما صنع الأوتار من الحرير أو من الأمعاء الدقيقة للحيوان، ثم لوّن كل منها بلونٍ خاص حسب طبائع الجسد، وذلك على النحو التالي:
- الوتر الأول: البمّ.. و هو أغلظ الأوتار، صنعهُ من الخيوط الحريرية الرفيعة، وصبغهُ باللون الأسود.
- الوتر الثاني: المثلّث.. صنعهُ من الخيوط الحريرية الرفيعة، وصبغهُ باللون الأبيض.
- الوتر الثالث: المثنّى.. صنعهُ من الخيوط الحريرية الرفيعة، وصبغهُ باللون الأحمر.
- الوتر الرابع: الذي أطلق عليه بعد اختراع الوتر الخامس اسم الوزير الأول.. وصنعهُ من الخيوط الحريرية الرفيعة وصبغهُ باللون الأصفر.
- الوتر الخامس: الذي أضافه زرياب صبغهُ باللون الأحمر الدمويّ؛ هو مصنوعٌ من الأمعاء الدقيقة لتأدية النغمة الحادة.
فكانت كل أوتار الأصوات الحادة تُصنع من الأمعاء الدقيقة، وأوتار الأصوات الغليظة تُصنع من الحرير، جعل زرياب لكل وترٍ طاقة، فطاقة البّم 64، والمثلّث 48، والمثنّى 36، والوزير الأول 27، والوزير الثاني 25.
شاع استعمال العود في أوروبا منذ القرن الثالث عشر الميلادي حتى القرن الثامن عشر، حيث أخذت آلة البيانو مكان الصدارة منه لمناسبتها الموسيقا الغربية، وقد أدخل الأوروبيون تحسينات عديدة على العود، منها زيادة عدد أوتاره حتى صارت أحد عشر وترا.
وفاة زرياب
توفي أبو الحسن علي بن نافع (زرياب) في قرطبة سنة 243 ه / 857م، بعد أن قدم ثروةً فنيّة وعلميّة أغنت العرب والأوروبيين، ذكره ابن حيان (كان عالما في علوم اللغة، نقل التاريخ مشافهة واعتمد على غيره من معاصريه من المؤرخين)، في كتابه (المقتبس في تاريخ الأندلس) قائلاً: "إن زرياب كان أحد أفضل الموسيقيين في عصره، وقد حفظ آلاف الأغاني، وأدخل تحسينات على الآلات الموسيقية كالعود، وأوجد أنماطاً موسيقية جديدة انتشرت في الشرق والغرب".
كان لزرياب أثرٌ كبير في تطور الموسيقى الأندلسية التي انتقلت إلى المغرب العربي، حيث تم الحفاظ عليها إلى يومنا هذا في إطار ما يسمى بالموسيقى الأندلسيّة، التي تشتهر بها بعض المدن المغربية مثل: تطوان والرباط وفاس والنوبة، وحدث بعد سقوط الأندلس أن انتقل قسم من تراث الموسيقى الأندلسيّة إلى المجتمع الإسباني، إذ حافظ عليه الموريسكيّون (المسلمون الذين أجبروا على اعتناق المسيحية في بداية القرن السادس عشر الميلادي) والمستعربون، وتناقلوه الى يومنا هذا.
ذكر الباحث ستاركي (w. starkie): "يمكن اعتبار زرياب أحد واضعي أسس التقنيات الصوتية لغناء الفلامينكو (نوع من الموسيقى الإسبانية بطابع شرقيّ، يقوم على أساس الموسيقى والرقص)، وأن منهجه مهم في دراسة غناء الكانتي خوندو (Cante Jondo)، (نوع من الغناء العميق للتعبير الغامض عن الألم الشخصي)"، وقد وافقه الشاعر الإسباني غارسيا لوركا بقوله: "إنه امتداد لتراث الغناء والموسيقى الأندلسية الذي أوجده زرياب".
أخيراً.. فإن زرياب قدم لنا فن الموسيقا بطريقة لم تعرف من قبل، وأدخل تحسيناتٍ عليها، نستمتع بآثارها اليوم بأجمل الألحان والأنغام، لكن ما يثير الحزن في أنفسنا.. وجود الكثير من أدباءنا و علماءنا والموسيقيين العرب العظماء الذين كانوا سبباً في وجود هذه الفنون وتطويرها، ونقلها إلى الغرب الذي يعرف عنه أكثر مما يعرفه العرب، إلا أن إعلامنا العربي وتاريخنا الذي يتم تدريسه لأجيالنا الحالية لم يعط هؤلاء حقهم، حتى نجد قلّة من المثقفين أو المختصين يعرفون مثلاً من هو "زرياب" رغم إنجازاته الكبيرة على مختلف الصعد، فهل يأتي اليوم الذي ندرك خطورة هذا النسيان لمفكرينا، وهل نحيي مجدداً علومهم وآثارهم بإعادة ذكرهم، وتوعية أجيالنا بهم ليكونوا قدوة التطوير المنشود في بلادنا؟.