ريادة الأعمال لا تقتصر على الشركات الناشئة فحسب، لماذا؟
عندما نَشرَت مجلّة "الإيكونوميست" تقريراً خاصّاً عن الشركات الناشئة التقنية، شعر دانيال أيزنبرج أنّه بحاجةٍ للتدخّل وإبداء رأيه فيما يتعلّق بحالة الشركات الناشئة التقنية اليوم. إليكم ما كتب.
إنّ التمييز بين ريادة الأعمال التقنية وغير التقنية أمرٌ خاطئ. فكلّ مشروعٍ تجاريٍّ اليوم، سواء كان رياديّاً أم لا، يحتاج إلى التكنولوجيا ليتنافس مع سواه، سواء كان ذلك في تجارة الماس أو المواصلات أو البناء أو الطاقة. ما من شيءٍ أكثر تقنيةً في "تويتر" أو "فيس بوك" أكثر من "هارلي دايفدسون" Harley-Davidson مثلاً أو "أميركان إكسبرس" American Express. في الواقع، يمكن القول إنّ الأجهزة الطبّية والطاقة البديلة تضمّ شقّاً تقنيّاً أكبر بشكلٍ عام من أيّ أمثلةٍ مذكورةٍ في التقرير.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
كما وأنّ تجاهل الفرص والضرورات التي تفرضها التكنولوجيا في أيّ عملٍ تجاريٍّ أينما كان، يُعتَبَر إغفالاً كبيراً لا يختلف عن تجاهل وجود الكهرباء أو السيارات. وتبيّن البحوث أنّ الكثير من المنافع الاجتماعية والاقتصادية للريادة تتأتّى عن ريادة الأعمال غير التقنية، وأنّ التركيز الجديد للسياسات العامّة على الشركات الناشئة قد لا يكون في محلّه.
ريادة الأعمال والشركات الناشئة، ليسا الأمر عينه. فالكثير من الشركات الناشئة ليست رياديّةً، وشقٌّ كبيرٌ من ريادة الأعمال لا يتعلّق بالشركات الناشئة.
عام 1999، عاد الأيسلندي روبرت وسمان إلى وطنه من ألمانيا وتولّى شركة أدويةٍ مترنّحةٍ بشدّة، ليس لديها سوى منتج واحد في السوق، فوضع كلّ مدّخراته الشخصية والمال الذي حصل عليه جرّاء بيع منزله فيها (بالإضافة إلى الكثير من الأموال الخارجية).
وفي غضون ثماني سنوات، عمل على تنميتها لتصبح شركةً رائدةً عالمياً، فبات حجمها أكبر بمئة مرّةٍ وبات لديها 11 ألف موظّفٍ و650 منتجاً وعملياتٍ في 40 بلداً، وأصبحّت قيمة مبيعاتها تبلغ أكثر من مليارَي دولارٍ، وباتت الشركة تحتلّ المرتبة الخامسة في العالم (تبلغ قيمة "أكتافيس" Actavis السوقية التي أصبحت الآن في المرتبة الثالثة، 30 مليار دولار، وذلك ليس بعيداً جدّاً عمّا كانت "فايسبوك" عليه منذ عام).
وفي عام 2001، أسَّس رون زوانزيجر "إنفرنس مديكال" Inverness Medical (التي أصبحت الآن "ألير" Alere)، وذلك بفضل الأصول المتبقّية عن بيعه لابتكاره الذي يتتبّع نسبة السكّر في الدم ("وان تاتش" One Touch) لقاء مبلغ 1.3 مليار دولار إلى شركة "جونسون أند جونسون" Johnson & Johnson: وقد باتت تبلغ قيمة "ألير" اليوم 3 مليارات دولار.
في هذه الأيّام، نشهد زحمةً في الشركات الناشئة. وما يبدو واضحاً من هذا الأمر، هو أنّ زيادةً حادةً حصلَت في صفوف الشركات الناشئة التقنية، وهي نزعةٌ قد تستمرّ لفترةٍ طويلة. ولكنّ الأمر الأقلّ وضوحاً، هو ما إذا كان ذلك مفيداً بشكلٍ عامٍّ لروّاد الأعمال أو المجتمع، على عكس ما يشير إليه التقرير.
بغضّ النظر عمّا إذا كانت عملية ضبط الإيقاعات التي يحاول "آي فون" iPhone القيام بها عنصراً مقرّراً في السوق (سندع السوق يحدّد ذلك)، فمن المحتمل جدّاً أن يكون الطريق الجانبيّ لأسواق الشركات الناشئة مكتظاً بها، في حين أنّ السرعة الفعلية على الطريق السريع لم تتأثّر على الإطلاق. وربما يكون السير ببطءٍ على الطريق السريع نتيجةً للاكتظاظ الناجم عن الشركات الناشئة؛ أي أنّ الشركات التي تمتلك ما يكفي من المال للتوسّع ولتصبح مشاريع قيّمةً اجتماعياً واقتصادياً، قد تكون تباطأَت بفعل الاكتظاظ والضجيج الحاصلَين على الطريق الجانبيّ إضافةً إلى الموارد القيّمة التي تحتجزها.
إنّ التوسّع أصعب بكثير من الانطلاق. فالأمر المؤكّد الذي يستطيع أن يقوله لكم أيّ شخص قد حاول الانطلاق بمشروعٍ، مثلي، هو أنّ هذا الإطلاق ليس إلّا خطوةً أولى في مسارٍ صعبٍ وطويلٍ نحو التوسّع. ولكن إذا لم تملك القدرة على التوسّع إلى ما هو أبعد بكثير من نقطة الانطلاق، سيذهب كلّ التعب والأرق والأسى (والمال) سدىً.
وإذا حذّرَتنا "الإيكونوميست" في مقالٍ نشرَته أنّ إطلاق مشروعٍ هو عملٌ مضنٍ، فإنّ تلك الانطلاقة لا تشكّل سوى جزءاً صغيراً جدّاً من المسيرة الطويلة: التعب الذي تعاني منه خلال الأشهر الأولى لا يُعدّ شيئاً مقارنةً بالإرهاق الشديد الذي عليك أن تختبره خلال مواصلة رحلتك مع شركتم الناشئة.
في العادة، يستغرق بناء شركةٍ ذات قيمةٍ وتتمتّع ببعض مظاهر القوّة وتجني الأرباح، حوالي عقدٍ من الزمن أو أكثر، وليس بضعة أشهرٍ أو سنوات. والشركات القليلة التي تظهر بقوّةٍ خلال عدّة سنواتٍ وحسب، ليست إلّا استثناءً. وفي هذه الحالة، قد يكون وادي السليكون هو الاستثناء.
قليلةٌ هي التطوّرات التي تحصل في مجال ريادة الأعمال، مقارنةً ببعضها التي يحدث بشكلٍ أسرع. فكلّ شيءٍ يحدث بشكلٍ أسرع طيلة الوقت، ولطالما حصل ذلك. منذ بزوغ المجتمع البشريّ، تسابق روّاد الأعمال للاستفادة من النقص الحاصل ولاستغلال الفرص التي تمّ التغاضي عنها، لفعل شيءٍ قد يبدو رائعاً ومذهلاً ويظهر جليّاً وواضحاً عند التفكير فيه لاحقاً. فمنذ ثلاثة آلاف سنة، أبحر روّاد الأعمال الفينيقيون لإنشاء أعمالٍ عالميةٍ لهم، بالاستناد إلى ابتكاراتهم في الملاحة واستخراج الفضّة الخام والصباغ الأرجوانيّ المستخرَج من صفراء المحار. تثير ريادة الأعمال الدهشة دائماً: فإذا أمكن التنبّؤ بها، فهي على الأرجح ليسَت بريادة أعمال.
لا جديد في قولنا إنّه ينبغي البدء ببساطة، فهكذا أطلق جدّي وأجيالٌ كثيرةٌ من قبله وبعده شركاتِهم: اعرفْ عميلك وجازف قليلاً واضبطْ منتجاتِك فيما تتقدّم، واستخدِم الأموال بكفاءة. هذا ما تعلّمتُه في بداية ثمانينات القرن الماضي من ستيف ويرثهايمر الذي باع شركة "إسكار" Iscar التي كان يمتلكها بالكامل لوارن بافيت عام 2006 بستّة مليارات دولار نقداً: اعملْ بجدٍّ للحصول على عميلٍ رائعٍ واحدٍ تبهره بمنتَجك، ولا تستخدِمْ أموالك كيفما رغبتَ حتّى تحصلَ على هذا العميل. فلا مبرّر "لاكتشاف" شكلٍ "جديد" من ريادة الأعمال، لمجرّد أنّه كان يوجد فائضٌ في رؤوس الأموال الاستثمارية في نهاية التسعينيات (الأمر الذي لم يتمّ اكتشافه سوى بعد فوات الأوان). كما أنّ معظم المشاريع التي تتوسّع بسرعة، تحتاج إلى رأس مالٍ كبيرٍ على أيّ حال (سواء على شكل ديونٍ مصرفيةٍ أو رأسمال مخاطر). ربّما في غضون سنواتٍ قليلة، سيقوم أحدٌ بتأليف كتابٍ عن التوسّع الكبير للشركات.
تحيط بنا المنصّات من كل مكان، ويعرف كلّ مخطّطٍ مدنيٍّ أنّ إحدى أكبر منصّات التنمية الاقتصادية هي نظام قطار المترو الذي تزدهر حوله نظم ضخمةٌ من العمل والحياة واللعب. بدورها، تشكّل "وول مارت" Walmart منصّةً لآلاف المورِّدين، وكذلك تفعل صناعةُ السينما في هوليوود، والمياه العذبة في ولاية ويسكونسن. مراكز التسوّق هي منصّاتٌ أيضاً، ومجرّد أنّ المنصّات باتَت رقميةً اليوم، فهذا لا يجعل هذه الظاهرة جديدةً بالكامل.
وأخيراً، إنّ ريادة الأعمال عبارةٌ عن إحداث قيمةٍ استثنائية، وهذا ما يستلزم في معظم الحالات أن يجازف بعض الناس بأمورٍ شخصيةٍ (مثل الأفكار أو السمعة أو الأموال أو أيّ شيءٍ آخر)، لا يقدّر السوق قيمتها الفعلية. أمّا رائد الأعمال فهو تقريباً يسبح دائماً ضدّ التيار، وما من شيءٍ يدفعه إلى الأمام أو الخلف أو أيّ جهةٍ أخرى.
إنّ "نموذج" وادي السيليكون قائم منذ نحو قرنٍ من الزمن، أي بعد نحو 542 مليون سنةٍ على "انفجار" كامبري Cambrian explosion الذي استغرق 50 مليون سنة. إن كان ذلك قد حصل أصلاً.