رحيل مصطفى ماهر أشهر المترجمين و"أبو الألمانية"في مصر
قبل سنوات طويلة، أهدى مصطفى ماهر، أحد كتبه إلى ابنه محمود، الذي توفي في سن مبكرة، تاركا الألم يعتصر قلب أستاذ الأدب الألماني السابق. وكتب ماهر في مطلع الكتاب يقول "إلى محمود. إلى قطعة مني واراها التراب". واليوم وبعد عشرات السنوات من رحيل محمود يرحل مصطفى ماهر نفسه، ولعله يلتقي تلك القطعة في عالم أفضل.
وبعد أكثر من 60 عاما من خدمة اللغة الألمانية في مجالات الترجمة والتأليف والتدريس، فقد مجتمع اللغة الألمانية في مصر والعالم العربي (الأربعاء، السابع من أبريل/ نيسان 2021) أحد أعمدته، البروفيسور مصطفى ماهر على راغب، أستاذ الأدب الألماني وأول من أسس كرسيا لتدريس اللغة الألمانية وآدابها بجامعة مصرية، هو قسم اللغة الألمانية بكلية الألسن، جامعة عين شمس.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
من مدرس للفرنسية إلى "أبو الألمانية"
ولد مصطفى ماهر عام 1935 في أسرة غنية، جذورها تركية، ونشأ في حي شبرا بالقاهرة، عندما كان ذلك الحي يعج بالفيلات والقصور. وتخرج في كلية التربية، متخصصا في اللغة الفرنسية أصلا، لكنه أضاف إليها بعد ذلك اللغة الألمانية، كما أنه نشر بعض الكتب مترجمة عن الفرنسية، ويبدو أن دراسته للفرنسية نفعته كثيرا في دراسة الألمانية.
في الفترة بين عام 1957 و1958، بدأ مصطفى ماهر التخطيط لتدريس اللغة الألمانية وسافر إلى مدينة ميونيخ وحصل من معهد غوته هناك على "دبلوم" اللغة في عام 1959، ثم ذهب إلى مدينة كولونيا وحصل من جامعتها العريقة على الدكتوراه، متخصصا في "فقه اللغة" (الفيلولوغيا)، عام 1962.
بعد حصوله على الدكتوراه عاد ماهر إلى مصر التي كانت قد أعادت في فترة الخمسينيات فتح "مدرسة الألسن"، التي أصبحت بعد "كلية الألسن" وضُمّت إلى جامعة عين شمس، وكانت حتى سنوات قريبة كلية فريدة من نوعها في مصر، قبل أن تفتتح جامعات كثيرة كليات باسم "كلية الألسن".
في القسم الألماني بكلية الألسن لمع نجم مصطفى ماهر وكان شعلة نشاط بين التدريس والترجمة والتأليف المتعلق باللغة الألمانية وآدابها، وكان مشهورا حتى بين طلبة الأقسام الأخرى، كما عمل لفترة مترجما شخصيا لرئاسة الجمهورية في مصر.
كان مصطفى ماهر عاشقا للأدب واللغة بصفة عامة قبل أن يكون مترجما وأستاذا للأدب ولذلك كثر انتاجه سواء من الترجمات أو الكتب المؤلفة وأشهرها "صفحات خالدة من الأدب الألماني" أو حتى المقالات العلمية التي كان ينشرها خصوصا في مجلة "فصول". وقد ساعده في ذلك كله زوجته الألمانية "إيلزا ماهر"، التي كانت ترافقه كثيرا في ندواته وأسفاره بل وحتى مناقشاته لطلبة الماجستير والدكتوراه، قبل أن يكبر سنها وترحل قبله بسنوات.
وتم تكريم المترجم والأستاذ الراحل من قبل هيئات ألمانية وعربية وأوروبية، وحصل على عدة جوائز.
ومنذ سبعينيات القرن الماضي يتردد اسم مصطفى ماهر حينما يجري الحديث عن اللغة والأدب الألمانيين في مصر والعالم العربي، لدرجة أنه أطلق عليه لقب "أبو الألمانية في مصر".
عاشق للثقافة الألمانية ومحافظ في الترجمة
تأثر مصطفى ماهر بالثقافة الألمانية عموما، وليس بالأدب فقط، وكان يطبقها في حياته، فمثلا من يرى بيته القريب من ميدان الحجاز في مصر الجديدة يجد أنه مبنى على الطريقة الألمانية في زمانه. ومن ذهب لزيارته هناك كان يراه قد ركن حوالي ثلاثة سيارات "فولكسفاغن" الخنفساء، بعضها "خارج الخدمة" بجوار فيلته، كمظهر لاعتزازه بها. وعلى طريقة مبادرات المواطنين الألمان سعى ماهر لإقامة حديقة صغيرة لسكان المنطقة أمام فيلته، كان يفخر دائما بأنه حولها من مكان لتجمع النفايات إلى حديقة بها نباتات وأشجار كثيرة وكان يتجول مع ضيوفه حتى الألمان بين أشجار الحديقة.
ورغم تأثره بالثقافة الألمانية وانفتاحه على الثقافات الأوروبية عموما، إلا أنه كان شديد المحافظة في ترجمته، خصوصا ما يتعلق بالأشياء التي تخالف الثقافة الشرقية. فمثلا حظيت ترجمته لرواية "عاشقات" للأديبة النمساوية إلفريده يلنيك بانتقادات لأنه وضع في أماكن كثيرة نقاط (...) بدلا من ترجمة ما كتبته يلنيك من ألفاظ "مكشوفة". وقال في حوار لموقع "قنطرة" أجراه معه تلميذه، المترجم سمير جريس، إنه فعل ذلك "لكي تصبح مناسبة للمجتمع الذي ستقدمها فيه". وأضاف ماهر "هناك أشياء وجدت أنها لا تخدم هدف الترجمة الأساسي، وهو أن يفهم الناس ما هي يلينك، إذا قرأ الناس النص كما هو، سيتصورون أن الكاتبة عاهرة وقوادة وقليلة الأدب! ليست هذه صورة صحيحة. لقد عشت سنوات طويلة في ألمانيا، ورأيت ألمانيا وهي متحفظة، ثم عايشت التطورات التي حدثت".
لقد تمسك ماهر بهذا المبدأ طوال حياته العامرة بالترجمات لأهم أدباء ألمانيا قديما وحديثا، وقد بلغت ترجماته المئات، ما بين رواية وقصة ومقال وغيرها.
ورغم أن ماهر كان ينتقد في محاضراته وندواته مظاهر التدين الشكلي، التي غزت مصر في السبعينيات والثمانينيات إلا أنه كان يرى نفسه "متصوفا"، وحكى أن "سيدنا" (معلم القرآن) كان يأتي إلي بيت والده وهو صغير ليعلمه القرآن. وقد تمكن ماهر بالاشتراك مع زوجته من إنجاز ترجمة للقرآن إلى اللغة الألمانية، طبعها المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر.
عشاقه كثيرون وكذلك منتقدوه
كان مصطفى ماهر متفرغا ومنغمسا في البحث والدراسة والندوات والمناقشات. وكان لا يبدأ حديثا إلا ويستمر فيه بدون تعب أو ملل مستعرضا ما قرأه وما عاشه، وكان يستمتع بتواجده وسط تلامذته ولا يجامل في حديثه بل كان منتقدا لكل شيء. وصحيح أنه كان مدرسا للأدب الألماني إلا أنه في محاضراته كان يناقش قضايا المجتمع المصري ويتبادل الآراء مع طلبته بشكل كان يبدو غريبا في ذلك الزمان.
كان لا يطلب من تلاميذه حفظ ملزمات أو معلومات وكتابتها في نهاية الامتحان كما هو المعتاد آنذاك، وإنما كان يردد دائما "أريد منك أن تكتب لي خلاصة فهمك حتى لو كانت سطورا قليلة". لقد كان ماهر يعمل على بناء النظرة النقدية لدى تلامذته. ويحترم اختلافهم معه، رغم تمسكه الشديد برأيه الشخصي.
كما كان يستضيف في فيلته تلامذته في مرحلة الدراسات العليا يلقي عليهم محاضرات بها. وكم ساعد من طالب وطالبة في الحصول على الدرجة العلمية بالتشجيع والتوجيه والدعم، إلى أن أصبحوا أساتذة كبارا يقودون أقسام اللغة الألمانية في كليات عديدة.
لكنه أيضا كان شديدا مع الدارسين في فترة شبابه، حيث يحكي بعضهم أنه خلال امتحان الشفوي الذي كان يجريه ماهر للطلبة كان بعضهم يتصبب عرقا وبعضهم يصاب بصدمة. لكن ذلك كله قبل أن يجري عملية القلب المفتوح في مطلع التسعينات والتي كانت علامة فارقة في حياته.
كما دخل ماهر في معارك مع زملاء له وتلامذة أيضا، على سبيل المثال عندما أغلق قسم "الترجمة الفورية" بكلية الألسن، وكان يردد أنه "لابد أن يتوفر أولا تلامذة وأساتذة يصلحون لدراسة وتدريس الترجمة الفورية".
لكن حتى منتقديه لا يمكنهم أن ينكروا أنه "أبو الألمانية" وأنه كان أهم عضو في مجتمع اللغة الألمانية في مصر. ذلك المجتمع الذي فقد خلال شهرين تقريبا أعمدة، منهم مصطفى الفخراني، الأستاذ بجامعة الأزهر، ومنار عمر، الأستاذة بجامعة حلوان، ويوم أمس محمد أبوحطب، مؤسس قسم اللغة الألمانية بجامعة الأزهر.
صلاح شرارة