تونس.. ما سبب الجدل والخوف من تلقيح الفتيات ضد سرطان عنق الرحم؟

  • بواسطة: DWW تاريخ النشر: منذ ساعة
مقالات ذات صلة
لهذا السبب تفشل الأدوية في القضاء على السرطان
صورة الفتى السعودي أبو سن يثير الجدل مجدداً!
ما سبب زيادة معدلات الإصابة بالسرطان بين الشباب؟

غادرت الممرضة نادرة، كما اختارت أن تقدم نفسها لـDW عربية بسبب تحفظات إدارية، عيادة طبيبها الخاص وكلماته لا تبرح مسامعها وهي في طريق عودتها إلى المشفى الذي تعمل فيه. تقول نادرة بنبرة حائرة: "بدا الأمر غريبا وغير متوقع بالنسبة إلي، فبعد أن وافقت على حصول ابنتي ذات الـ12 ربيعا على لقاح ضد فيروس الورم الحليمي البشري المسبب لسرطان عنق الرحم، تفاجأت بموقف الطبيب المعارض تماما لهذا التطعيم". وأضافت وكأنها تحدث نفسها: "كيف يمكن أن أتجاهل توصية طبيب مختص في أمراض النساء والتوليد؟".

أنهت نادرة مقابلتها مع طبيبها ولكن صراع الأفكار بذهنها لم ينته. وانتقلت الشكوك بدورها إلى زميلاتها في المشفى، اللائي شرعنا في تطعيم الفتيات في سن الـ12 سنة مع إطلاق السلطات الصحية الحملة في السابع من أبريل/ نيسان الجاري.

فيديو ذات صلة

This browser does not support the video element.

تعد حملة التطعيم الجماعية للفتيات ضد فيروس الورم الحليمي البشري، الأولى في تاريخ البلاد بهدف القضاء على سرطان عنق الرحم. فما مدى نجاعة هذا اللقاح في محاربة هذا النوع من السرطانات ولماذا أثارت حملة التطعيم هذه جدلا داخل المجتمع؟

الإدراج في البرنامج الوطني للتلقيح

أدرجت تونس اللقاح ضد فيروس الورم الحليمي البشري ضمن برنامجها الوطني للتلقيح، بداية من سنة 2025. وتستهدف عملية التطعيم كل الفتيات اللائي عمرهن 12 عشر عاما، سواء أكن مدرجات بالمدارس أو من المنقطعات عن التعليم. كما تسعى البلاد إلى تطعيم 90 بالمائة من الفتيات البالغات من العمر 15 عاما بحلول سنة 2030.

تحديث قائمة التلقيح الإجبارية، هو خطوة عملية اتخذتها السلطات الصحية للحد من الوفيات ومن التكلفة المادية والمعنوية التي ترافقمريضات سرطان عنق الرحم في تونس. فحسب تقديرات وزارة الصحة، يعد سرطان عنق الرحم السبب الثالث للوفاة بالسرطان للنساء في تونس، حيث تم تسجيل وفاة أكثر من ثلاث نساء كل أسبوع، أي أكثر من 200 امرأة في بيانات تعود إلى عام 2022.

كما تصاب أكثر من امرأة بسرطان عنق الرحم كل يوم تقريبا، أي أكثر من 400 امرأة خلال السنة. وأغلب حالات السرطان يتم اكتشافها في مراحل متأخرة، وهذا ما يجعل الحرب على هذا النوع من السرطانات أكثر تعقيدا.

مواجهة السرطان باللقاح

يطلق اسم فيروس الورم الحليمي البشري على مجموعة مكونة من 200 فيروس، من بينها النوعان 16 و18 وهما المسؤولان عن الإصابة بسرطان عنق الرحم.

ويفسر الدكتور إلياس بن ميلاد، طبيب مختص في أمراض النساء والتوليد، لـDW عربية أن "الفيروس يطال الرجال كما النساء، وقد يتسبب في ظهور الثآليل على الجلد وعلى الأعضاء التناسلية، علاوة على احتمال الإصابة بالسرطان في أماكن أخرى من الجسم كالحلق". وأردف الطبيب في تحليله بأن "العدوى لا تنتقل عبر العلاقات الجنسية فحسب وإنما يمكن التقاط المرض عبر اللمس أو من الأم إلى رضيعها".

ويعد سرطان عنق الرحم النوع الأكثر شيوعاً للسرطانات التي يسببها فيروس الورم الحليمي البشري. فعالميا، تفيد تقديرات منظمة الصحة العالمية بأن الفيروس تسبب خلال عام 2019 في 620 ألف إصابة جديدة بالسرطان بين النساء و70 ألف إصابة بين الرجال. وفي عام 2022، كان سرطان عنق الرحم رابع سبب رئيسي للسرطان والوفيات الناجمة عن السرطان لدى النساء، إذ كان سببا مباشرا لنحو 660 ألف حالة جديدة و350 ألف حالة وفاة في جميع أنحاء العالم.

ولفت الدكتور بن ميلاد لـDW عربية، إلى أن سرطان عنق الرحم لا يظهر فجأة، وإنما ينتج عن تطور في حدة الالتهابات التي يسببها فيروس الورم الحليمي البشري داخل عنق الرحم، وعادة ما يتم التفطن لمثل هذا التغير في مراحل متأخرة مما يصعب العلاج. ومع ذلك، أشار بن ميلاد إلى أن النساء في تونس لسن واعيات بالقدر الكافي لإجراء التقصي بانتظام كل سنتين.

ويكون التقصي عبر مسح لعنق الرحم وأخذ عينات لفحصها. وفي حال ثبتت الإصابة بالمرض يتم العلاج عن طريق الجراحة أو عبر جلسات كيميائية.

ولأنه لا وجود اليوم لعلاج عدوى الإصابة بفيروس الورم الحليمي البشري ولا أمل في التغلب على السرطان الذي يسببه إلا باكتشافه في أولى مراحله، وضعت منظمة الصحة العالمية استراتيجية عالمية ترتكز على تعميم التطعيم والفحص المنتظم. وترمي المنظمة من وراء ذلك إلى خفض عدد الحالات الجديدة سنويا إلى 4 حالات أو أقل لكل 100 ألف امرأة، بحلول عام 2030.

فوبيا قديمة.. ماذا يقول علم الاجتماع؟

منذ الإعلان عن الشروع في حملة التطعيم، تفشت مشاعر الخوف في صفوف الأولياء وانتشرت الشائعات، وانتقل السخط من الشارع إلى منصات التواصل الاجتماعي للتعبير عن الرفض والتشكيك في سلامة وجدوى التطعيم. وبدا المشهد العام نسخة مكررة من التحفظات التي رافقت اللقاحات المضادة لفيروس كوفيد 19 قبل أعوام.

وتاريخيا لطالما اقترنت حملات التخويف والتشكيك الشعبية بأغلب اللقاحات التي توصل إليها العلماء، منذ إنتاج أول لقاح في العالم على يد الطبيب الإنجليزي إدوارد جينر ضد وباء الجدري المنتشر على نطاق واسع، خلال القرن الثامن عشر، حيث واجه اللقاح آنذاك موجة من المقاطعة والتشكيك دفعت بالكثيرين إلى ربط آثاره بكل شيء سلبي حتى بانحدار الفن والأدب في بريطانيا.

بالنسبة للحملة في تونس، ألقى المدير العام للمركز الوطني لليقظة الدوائية بوزارة الصحة، رياض دغفوس، باللائمة في تفشي مناخ الخوف من اللقاح، على ما سماه بـ"تيار راديكالي" مناهض لفكرة التطعيم. كما حمله مسؤولية بث ما اعتبره "إشاعات مضللة" مثل الادعاء بتسبب اللقاح في العقم للفتيات. ولوح دغفوس بإثارة دعاوى قضائية ضد هذه الجهات التي لم يسمها.

وفي حواره مع DW عربية يفسر الأستاذ الجامعي المتخصص في علم الاجتماع سامي نصر، هذا الارتباط بين الاستخدام الأول للقاحات والخوف، "بخطأ ممثلي السلطات الصحية في استحضار تجربة اللقاح ضد كوفيد، لأنها بذلك أعادت إلى أذهان الناس كل المخاوف والمساوئ التي ارتبطت بتلك الفترة. الأمر الذي أعاد بدوره استنساخ الانطباع المجتمعي الرافض للتلقيح".

لكن الخبراء يرون أن هذا الربط غير مبرر لأننا بصدد المقارنة بين لقاح حديث وطارئ اضطر العالم لاستخدامه بشكل استعجالي في ذروة تفشي وباء كورونا، وبين اللقاح ضد فيروس الورم الحليمي البشري المعمول به منذ عام 2006 في 145 دولة حول العالم من بينها الولايات المتحدة ودول الخليج والمغرب.

بدوره نفى الدكتور بن ميلاد تأثير اللقاح على الخصوبة كما عبر عن دهشته من إثارة اللقاح لكل هذا الجدل بقوله: "لماذا كل هذا الرفض والتشكيك داخل مجتمع تعود منذ سنين طويلة، على تلقي اللقاحات ضد مجموعة كبيرة من الفيروسات؟".

أزمة تواصل والترويج للقاح

لم يتوقف الجدل عند هذا الحد، فقد اتخذ منحى أخلاقيا أيضا عندما تداول مستخدمون على "فيسبوك" تعليق طبيبة متخصصة في أمراض النساء والتوليد، اعتبرت اللقاح موجها بالأساس إلى المجتمعات الغربية، حيث ربطت بين تفشي مرض سرطان عنق الرحم بإقبال الفتيات على العلاقات الجنسية، مبكرا مع ذكور مختلفين، وهو أمر تعتبره غير شائع في المجتمعات العربية.

وعلى الأرض لم تتأخر النتائج، حيث كشفت ممرضة تعمل بأحد المشافي العمومية في ولاية جندوبة شمال غرب البلاد لـDW عربية، بأن الإقبال على اللقاح كان ضعيفا جدا في أسبوعه الأول حيث لم يستقبل مركز التطعيم سوى بنتين في الأيام الثلاثة الأولى.

وأوعزت الممرضة التي تحفظت عن ذكر اسمها خوفا من الملاحقة الإدارية والمهنية، سبب الإقبال المحدود على التطعيم، إلى النقص في الأطباء والممرضين، ولكن أيضا إلى خشية الأولياء من تسبب اللقاح في إصابة بناتهم بالعقم، وهي معلومات سارعت الجمعية التونسية لطب الأورام، في بيان لها، إلى دحضها بقوة داعية إلى تحمل المسؤولية الجماعية لضمان أن تكون المعلومات موثوقة ومستندة إلى أدلة علمية.

وفي هذا السياق يشدد الخبير الاجتماعي سامي نصر لـDW عربية، على أهمية إعادة بناء ثقة المجتمع بمؤسسات الدولة وطمأنة العائلات من أجل إنجاح عملية التطعيم عبر خطة اتصالية تعتمد قواعد علمية بدل "الإعلانات الرسمية الجامدة".

وفي ظل الكم المتضارب من المعلومات ونصائح المتخصصين، أرجأت نادرة مثل عدد آخر من زميلاتها، أخذ القرار النهائي في السماح لتطعيم ابنتها من عدمه، حتى تتحرى أكثر في الأمر.

جدوى اللقاح

للبحث في مدى فعالية اللقاح في محاربة سرطان عنق الرحم، تقصت DW عربية في الأمر وبحثت في مصادر علمية موثوقة في مجال الصحة. فقد تابعت دراسة سويدية نشرتها معاهد الصحة الوطنية الأمريكية، المتخصصة في البحوث الطبية الحيوية، عام 2020، أكثر من 1,6 مليون فتاة وامرأة تتراوح أعمارهن بين 10 و30 عاما بين عامي 2006 و2017.

وتوصل الباحثون إلى أن خطر الإصابة بسرطان عنق الرحم كان أقل لدى الشابات اللاتي تم تطعيمهن (بجرعة واحدة على الأقل)، مع انخفاض أكثر وضوحا لدى النساء اللاتي تم تطعيمهن قبل سن 17 عاما، مقارنة بغير الملقحات.

كما كشفت المراكز الأمريكية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها، أن حالات الإصابة بعدوى بفيروس الورم الحليمي البشري قد انخفضت منذ عام 2006، عندما تم استخدام اللقاحات لأول مرة في الولايات المتحدة.

وللدلالة على ذلك، انخفضت الإصابات بأنواع فيروس الورم الحليمي البشري بين الفتيات المراهقات بنسبة 88 بالمئة وبين الشابات البالغات بنسبة 81 بالمئة. وبين النساء اللاتي تم تطعيمهن، انخفضت نسبة الإصابة بسرطان عنق الرحم الناجم عن أنواع فيروس الورم الحليمي البشري بنسبة 40 بالمئة.

ويشدد الدكتور بن ميلاد على أنه كلما كان التطعيم مبكرا، زادت جاهزية المناعة في التصدي للفيروس. وأشار إلى أن "البحوث العلمية أثبتت أن المناعة التي يخلقها اللقاح أفضل بكثير من المناعة المكتسبة جراء الإصابة بالمرض".

سمية المرزوقي - تونس