تحليل: أسباب أزمة السكن في ألمانيا وكيف يمكن حلها؟
وسط أزمة سكن حادة تتفاقم في المدن الكبرى مثل برلين وميونيخ وهامبورغ وكولونيا، أعلن مكتب الاحصاء الاتحادي الألماني بشكل فاجأ الكثيرين عن وجود نحو مليوني منزل شاغر في ألمانيا. وأشار المكتب إلى أن أكثر من نصفها لم يتم تأجيره منذ أكثر من عام. في المقابل يقدر المجلس الألماني للعاملين في مجال العقارات الطلب الحالي على المساكن في المدن الكبرى بحدود 600 ألف مسكن. أما النقص على مستوى ألمانيا فتقدره دراسة أعدتها"جميعة هانز بوكلر" غير الربحية بنحو 1,9 مليون مسكن.
جنون أسعار الشقق الشاغرة
ومما يعنيه ذلك من الناحية النظرية أن إشغال المساكن الشاغرة يمكن أن يحل المشكلة أو الجزء الأكبر منها. غير أن الأمر ليس بهذه البساطة من الناحية العملية. ويعود ذلك إلى عدة أسباب من أبرزها ارتفاع أسعار تأجير الشقق الشاغرة وعدم قدرة الباحثين عن سكن على دفع إيجاراتها. وتشير المعطيات الإحصائية إلى تضاعف أسعار استئجار الشقق التي يملكها القطاع الخاص في المدن الكبيرة خلال السنوات القليلة الماضية ليتجاوز في المعدل مبلغ 1000 يورو لشقة صغيرة مؤلفة من غرفتين. ولا تؤرق مشكلة السكن الباحثين عنه فحسب، بل أيضا الشركات الألمانية التي تشتكي من أن ارتفاع الأسعار أصبح عقبة أمامها في معركة الحصول على العمالة الماهرة النادرة حسب استطلاع للرأي شمل أكثر من 4000 شخص أجرته شركة "بي دبليو سي" الألمانية لمراجعة الحسابات.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
تحجيم دور السكن الاجتماعي
كانت ألمانيا حتى قبل عشر سنوات ونيف جنة للمستأجرين بمن فيهم أصحاب الدخل المحدود. فالحصول على سكن لم يكن صعبا وكانت إيجارات الشقق أقل بنحو 40 إلى 50 بالمائة عما هي عليه الآن. إضافة إلى توفر عروض السكن الاجتماعي المنخفض السعر بفضل دعم الدولة. غير أن خصخصة قطاع السكن بما فيه السكن الاجتماعي قبل عام 2015 بشكل واسع وتراجع دعم الدولة لبناء وحدات سكنية جديدة في عهد المستشارة السابقة أنغيلا ميركل خلق أوضاع شبه احتكارية أدت إلى ارتفاع الأسعار. وزاد من حدة المشكلة ازدياد الطلب على المساكن من قبل آلاف الكفاءات وقوة العمل الأوروبية التي هاجرت إلى ألمانيا للعمل، بعد الأزمة المالية العالمية التي ضربت بقوة اقتصاديات دول مثل إسبانيا واليونان وإيطاليا وإيرلندا، في حين حافظ الاقتصاد الألماني على قوته وازدهاره رغما عنها.
حكومة شولتس بعيدة عن تحقيق وعودها
وعندما جاءت حكومة المستشار أولاف شولتس إلى الحكم اعترفت بعمق الأزمة وتعهدت عام 2021 ببناء 400 ألف وحدة سكنية كل عام. غير أن حصيلة ما تم تنفيذه حتى الآن يفيد بأن الحكومة لا تزال بعيدة عن تحقيق هدفها بنسبة لا تقل عن 40 بالمائة. وحسب مسح أعده معهد "إيفو" للبحوث الاقتصادية الذي يتخذ من ميونيخ مركزا له، فإن ألمانيا على مستوى القطاع الخاص تحتل المرتبة ما قبل الأخيرة في بناء المساكن الجديدة على مستوى 19 دولة أوروبية شملها المسح. ومن غير المتوقع تغير هذه الحالة قبل عام 2026. ويُرجع المعهد ذلك إلى الارتفاع الحاد في تكاليف البناء والتمويل. ويزيد الطين بلة عدم قيام الحكومة بتحسين مناخ الاستثمار في البناء بشكل حاسم حتى الآن. فإلى جانب ارتفاع التكاليف، لم تتخذ إجراءات لتوفير الأراضي الصالحة للبناء بأسعار مناسبة. كما أنها لم تقم بالحد من الاجراءات البيروقراطية اللازمة اللحصول على رخص البناء والتي تُعد من بين الأعقد في العالم.
مشكلة أقدم من موجات اللجوء السورية والأوكرانية
رغم وضوح المشكلة يحلو لكثيرين تحميل اللاجئين مشكلة تقاقم أزمة السكن. غير أن كلا من اتحاد المستأجرين في ألمانيا/Deutscher Mieterbund والجمعية الألمانية لاقتصاد السكن/GDW يرى بأن المشكلة ليست مرتبطة باللاجئين إلى حد كبير، لأنها نشأت قبل موجات الهجرة الكبيرة من سوريا في عام 2015. ومع التدفق الكبير للاجئين اعتبارا من عام 2015 دعت جمعيات أهلية معنية الحكومة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة للحد من قلة المساكن، أن الحكومة لم تقم بذلك على حد تعبير بيرند ميسوفيك المدير في منظمة برو أزويل/ ProAsyl المدافعة عن حقوق اللاجئين. وحسب رئيس جمعية اقتصاد السكن اكسل كيداشكو، فإن تفاقم المشكلة ناجم "بشكل أساسي عن الهجرة من داخل ألمانيا ومن باقي البلدان الأوروبية إلى المدن. أما الهجرة من خارج أوروبا فتلعب دورا ثانويا في المشكلة".
ففي عام 2017على سبيل المثال شكل المهاجرون من أوروبا، وخاصة من إسبانيا وإيطاليا 70 بالمائة من القادمين إلى ألمانيا. وقد أرتفعت أعداد الكفاءات من أوروبا إلى المانيا بشكل كبير بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008 التي بقيت تبعاتها ضعيفة على مستوى الاقتصاد الألماني. كما ارتفعت من بلدان الاتحاد الأوروبي الجديدة في شرق أوروبا مثل هنغاريا ورومانيا وبلغاريا بسبب مستويات الدخل الأعلى في ألمانيا. يضاف إلى ذلك أنه لا يحق للاجئين الحصول على سكن بسهولة، لأن ذلك مرتبط بالاعتراف بلجوئهم وحصولهم على وظيفة تمكنهم من الحصول على سكن فردي بدلا من السكن الجماعي. وهو أمر لا ينطبق سوى على قلة منهم حسب أكثر من استطلاع أجراه المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين. لكن هذه الاستطلاعات غير شاملة، وعليه فإنه وبغض النظر عن نتائجها، فإن زيادة طلب اللاجئين على السكن ساهم في زيادة المشكلة وخاصة في المدن الكبرى. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن قسما كبيرا من اللاجئين يود السكن في مدن مثل برلين وميونيج وفرانكفورت وهامبورغ بسبب فرص العمل وكونها مجتمعات متعددة الثقافات ليس للعنصرية والتمييز مكان بارز فيها.
هل يمكن للقطاع الخاص حل المشكلة؟
في ظل استمرار الأزمة وتخلف الحكومة عن الوفاء بوعودها، حثت وزيرة البناء الألمانية كلارا غيفيتس المواطنين على الانتقال من المدن الكبيرة إلى الضواحي أو إلى المدن الصغيرة. وصرحت غيفيتش لصحيفة "نويه اوسنابروكر تسايتونغ" بأن "الإمكانات كبيرة في هذه المدن وفي المدن المتوسطة، لاسيما وأنها تضم مراكز رعاية للأطفال ومدارس ومتاجر وأطباء". وأضافت بأن "الناس كانوا يغادرون في الماضي مسقط رأسهم بحثا عن العمل في المدن الكبيرة، أما الآن "فإن العمل من المنزل والرقمنة يقدمان فرصا جديدة للعيش والعمل في المنطاق الريفية". غير أن السؤال هنا كيف يمكن تحقيق ذلك، لاسيما وأن الكثير من المناطق الريفية لا تتمتع بالبنية التحتية الحديثة وخاصة بشبكات الاتصال الحديثة اللازمة للعمل من المنزل هناك. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن مشروع الحكومة لتحديث شبكة الاتصالات في ألمانيا يتعثر بسبب تقليص الاستثمارات المخصصة لذلك.
على ضوء ذلك وتراجع دور الدولة في حل المشكلة، إضافة إلى انشغال الحكومة الألمانية الشديد بالتحديات الأمنية والجيوسياسية والمالية الناجمة عن استمرار الحرب في أوكرانيا، يتفق معظم الخبراء على أن الحل الأهم في المدى المنظور يكمن في تشجيع بناء الشقق الخاصة، لاسيما وأن نسبة ملكية المساكن في ألمانيا لا تزال أقل من 52 بالمائة. وهي نسبة متدنية جدا في أقوى اقتصاد أوروبي مقارنة مع دول مثل أسبانيا حيث نسبة الملكية أكثر من 77 بالمائة. غير أن مثل هذا التشجيع يتطلب من الحكومة الألمانية توفير الإطار اللازم والمشجع للبناء. ومما يعنيه ذلك توفير الأراضي الصالحة للسكن بأسعار مناسبة وتقديم تسهيلات ضريبية وإلغاء الإجراءات البيروقراطية المعقدة اللازمة للحصول على رخص البناء دون تأخير وتسويف كما حصل خلال السنوات الماضية. وفي حال تأخر الحكومة في توفير الإطار المذكور فإن المشكلة إلى مزيد من التفاقم، مع ما يتبع ذلك من تحديات على الصعيدين الاجتماعي والسياسي.