تجارب بودكاست لمهاجرين عرب.. نوعٌ مختلفٌ من المتعة الصوتية
يحمل عالم البودكاست حاليًا عددًا من التجارب أبطالها مهاجرون عرب قرروا إيصال صوتهم والتخاطب مع الجمهور سواء العربي أو الأوروبي بطريقتهم.. عبر الصوت.. ومنصات بث البودكاست المختلفة.. ورغم أنها مجموعة بفضاءٍ واحد تتنوع مواضيع البودكاست العربية بالشكل والمضمون.. في العاصمة الألمانية برلين التقى مهاجر نيوز بعددٍ من صانعي البودكاست العرب للحديث عن تجاربهم. وعن خصوصيتها وتفردها..
فرانلكي: الصراحة
أحمد البخاري كاتبٌ ليبيٌ شاب وصل إلى برلين منذ 5 سنوات حيث اجتمع مجددًا مع زميله القديم الناشط في مجال حقوق الإنسان والدفاع عن الحريات تازر. سبق لأحمد وتازر أن عملا معًا في منظمة حقوقية في ليبيا. لكن عمل المنظمة أغضب السلطات وتم إغلاقها. ليس ذلك فحسب، بل إن كتابين لأحمد تم منعهما في ليبيا وحكم عليه بالإعدام. غادر تازر وأحمد ليبيا، ليلتقيان ثانية تحت سماء العاصمة الألمانية برلين. لقاء أنجب بودكاست Frankly وهي كلمة إنكليزية تعني بصراحة.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
يقول تازر لـ"مهاجر نيوز" "كانت علاقتي بالإعلام كضيف يحل عليه للحديث عن حقوق الإنسان، لكن هنا في برلين أحببت فكرة البودكاست فهي وسيلة جديدة وغير منتشرة كثيرًا. أحببت خوض التجربة واستقرينا أنا وأحمد على بودكاست "فرانكلي" وهي كلمة إنكليزية لكنها مستعملة باللهجة الليبية فهي دخيلة بليبيا مستخدمة منذ الخمسينيات، في البودكاست قررنا أن نكون صريحين حول أمورٍ لا يتحدث عنها الليبيون بالعادة، عن النوع الاجتماعي (الجندر) والجنس والحريات، كذلك تناولنا مواضيع العيش كمهاجر من أفريقيا وشمال أفريقيا تحديدًا في أوروبا، بانتظار أن نرى ما الذي تحمله هذه الرحلة".
أعطت برلين ميزة كبيرة لأحمد وتازر فلولا وجودهما فيها لربما كان البودكاست غير موجود، يشرح أحمد: : لو لم نكن ببرلين وخارج ليبيا ربما 90% من مواضيع حلقاتنا كنا غير قادرين على الخوض فيها، كنّا سنكون حذرين جدًا فيما نقول، وربما سنضطر لقول أشياء منقوصة، لأن المحاذير بليبيا تزيد لا كما اعتقدنا بعد سقوط القذافي بأن هامش الحرية سيكون أكبر، برأيي لو لم نكن هنا ربما لن يكون فرانكلي موجود".
الخوض بالتابوهات هي محور فكرة "فرانكلي"، لكن المواضيع الجريئة تتطلب طريقة تناول مختلفة ولهذا اختار تازر وأحمد للبودكاست كمنصة، كما أخبرنا أحمد الذي يقول لـ"مهاجر نيوز": "في فرانكلي هناك ضرورة للشرح والتعمق بالتفاصيل ومن هنا تناسب البودكاست كمنصة مع محتوانا، إذ جاء كمنصة مناسبة للشرح والتطرق بعمق للأفكار من عدة زوايا".
كذلك يمنح استخدام الصوت فقط ميزة "الاختباء"، يختفي الخجل والقدرة على التواصل تكون أريح، كما يرفد أحمد: "بالحديث بالصوت لا يوجد خوف من أحد أن يراك لذا الحديث يكون أريح، كذلك يمكنك الحديث بشكل طويل نسبيًا ويمكن تغطية الفكرة من جميع جوانبها، ليس هناك تقييد لسنا نعمل على تقرير محصور بدقيقتين أو ثلاث، أو 140 محرف على تويتر أو بوست طويل على فيسبوك لن يقراه أحد".
وحول الهدف من "فرانكلي" يشرح أحمد: "أحد أهم أسباب إطلاق فرانكلي كانت إخبار الكثيرين الذين يفكرون مثلنا أنهم ليسوا وحدهم، هدفنا أن نصل لهؤلاء ونجعلهم يقولون: لست وحدي لست شخصًا معزولًا، هناك من يفكر مثلي"، بينما يضيف تازر لـ"مهاجر نيوز": "كذلك نحاول تنويع الجمهور المستهدف عبر تنويع اللغة المستخدمة، فهناك حلقات تبث بلهجة ليبية صرفة، ونعمل لأن تكون هناك لقاءات مع أشخاص باللغة الفصحى أو بالإنكليزية وبالتالي نضمن وصول محتوانا لجمهور أكبر".
شارع العرب: حكايات الجماعات العربي
وصل عماد جبرايل الباحث الأكاديمي إلى برلين للدراسة لكن مشروع بودكاست "شارع العرب" أو "Sonnen Allee"، نسبةً للاسم الذي يطلقه العرب على الشارع البرليني Sonnen Allee الذي تتركز فيه العائلات والمحلات العربية في حي نويكولن، فكان بودكاست "شارع العرب" الذي يعده ويقدمه بالتعاون مع الفنان السوري بسام داوود في برلين، جزءًا من عمله الأكاديمي لتقديم حكايات مختلفة عن الجماعات العربية في برلين على اختلافها.
إذ لا يرى عماد العرب الموجودين في برلين وألمانيا أنهم مجموعة واحدة، بل هم مجموعات مختلفة متمايزة عن بعضها، لذلك يشجع بودكاست "شارع العرب" على الاختلاف بحسب ما يشرح عماد لـ"مهاجر نيوز" ويقول: "نقدم حكايات مختلفة عن عرب مختلفين عبر مقابلات معهم، ما يجعل حتى الجمهور المستمع غير متجانس فكل مقابلة قد تجذب شخصًا مختلفًا وجمهورًا مختلفًا".
في "شارع العرب" يتحدث عماد وبسام عن تجارب الجماعات العربية بالشارع، علاقاتها اختلافاتها وذاكراتها، ويقول عماد "بالعادة يتم اختصارنا نحن العرب بأننا نمتلك ذاكرة واحدة، وهذا غير دقيق لذلك اخترنا أن نتكلم عن الاختلافات لا التشابهات، فبالعادة ينظر لشارع العرب كأنه شيء واحد، يدار بطريقة معينة، ولكنه عبارة عن مجتمعات وليس مجتمع واحد، فمثلًا اللبنانية والفلسطينية بينهم تاريخ طويل من الخلافات في لبنان، لكن في الغربة تختفي هذه الخلافات، أو نتعمد اخفاءها حتى نتمكن من الاستمرار والتعايش، ونفاوض علاقاتنا على أساس من نتعامل".
تجربة "شارع العرب" لا تزال قصيرة وعمرها بضع حلقات، لكن الهدف منها هو توثيقي بالنهاية خدمةً لأغراض علمية كما يتابع عماد "البودكاست هدفه مختلف عندي، لأني أقوم ببحث لرسالة الدكتوراه لذلك لا أهدف لا للإعلان ولا لتكوين رأي عام، فالهدف الأساسي يتمحور حول تجربة الغربة، وكيف نتعاطى مع بعض كجماعات قادمة من دول ناطقة بالعربية في الغربة، شجعني وجودي في برلين كمغترب على عمل منتج، وبدلًا من إجراء مقابلات لبحثي بالعلن أن أقوم بنشرها عبر البودكاست".
برأي عماد يجب عدم اعتبار البودكاست جزءًا من الإعلام، فهو شيء مختلف يقدم محتوىً مختلف وغالبًا ما تغيب وظيفة الإعلام عنها وهي الإخبار، كذلك لا يجب الاستخفاف بالبودكاست كمنصات بأنها للكلام فقط، دون أسس علمية، إذ هناك تجارب كثيرة تتطلب بحثًا علميًا ودراسة وجهود من القائمين عليها، وغياب رقابة كلاسيكية لا يعني أنها أي كلام".
يختار عماد لتقديم "شارع العرب" لهجة لبنانية "بيضاء" للهروب من التصنيفات التي ترافق اللهجات خاصةً في لبنان كالانتماء الطبقي أو الديني، كذلك فإن هذه اللهجة تخدم هدف البودكاست وهو الوصول للجمهور العربي على اختلافاته في ألمانيا على الأقل، لكن ذلك يجعل ترجمته أحيانًا أمرًا صعبة كما يشرح: "قررت التوقف عن ترجمة الحلقات لأن هناك أشياء لغتها أجمل بالعربي وليس لها ترجمة، فمثلًا كلمة غربة غربة لا ترجمة لها فهي ليست immigration and estrangement".
يومياتي في برلين: الحياة بعيون امرأة شابة
عبر إذاعة دوتشلاند فونك كولتور الثقافية، تقدم الصحفية هبة عبيد بودكاست "يومياتي في برلين" أو "Mein Tagebuch in Berlin" وهو أحد 7 بودكاست ضمن مشروع Voice Versa الذي أطلقته الإذاعة تقدمه 7 نساء من خلفياتٍ مهاجرة مختلفة، كل صحفية تكتب وتعد البودكاست بلغتها الأم والألمانية، قررت هبة عبره البوح بأفكارها من خلال الحديث عن تجربة عيشها في برلين.
عبر "يومياتي في برلين" تتحدث هبة في كل حلقة والتي تترواح مدتها بين 6-7 دقائق حول أحد الأمور التي تواجهها بحياتها اليومية في هذه المدينة، من منظورها الشخصي ومشاعرها، تستحضر فيها أحاسيسها الحالية وانعكاساته على ذكرياتها في سوريا أو الدول التي هربت إليها في لبنان وتركيا، عبر تفاصيل بسيطة كالمواعدة أو العيد أو رمضان، بينما يمتزج كلام هبة مع الترجمة الألمانية لنقل مشاعرها باللغتين.
تقول هبة لـ"مهاجر نيوز": "الفكرة أنه إذا كنت عربي يمكنك الاستماع والاستمتاع، وكذلك فيما لو كنت ألمانيًا يمكنك الاستماع والاستمتاع، رغم أن الترجمة للألمانية ليست حرفية، لأن هناك الكثير لا يمكن ترجمته بالألمانية ولن يعطي المعنى كما هو بالعربي، فمثلًا كلمة (تقبرني) ليس لها ترجمة بالألماني، لذا لجأت لطريقة أخرى عبر كتابة الكلمة عبر صفحات الراديو بالسوشيال ميديا وشرحها، للتعريف بلغة الحب المختلفة لدينا مثلًا، فكانت مثيرة للاهتمام من قبل الناس خاصة لمن لا يتكلمون العربية".
أرادت هبة إيصال تجربتها التي تعتبر أنها تمثل تجربة كثيراتٍ مثلها، وهن اللواتي يعشن في برلين ويتكلموا العربية وربما بعض الألمانية، لذلك عمدت لاستخدام اللغة العربية الفصحى بالبداية، لكت بعد فترة شعرت أنها تريد التعبير عن تجربتها بلهجتها الخاصة التي تمزج بين لهجتها الفلسطينية الأساسية والدمشقية والحلبية، لأن ذلك أصدق بالتعبير عن نفسها، بينما كانت الألمانية مفيدة لتعويد الألمان عند سماعهم لغة مختلفة أن هناك من يتكلم لغة أخرى في هذه البلاد ولكي يألفوا سماعها في الإعلام العام.
في الإعلام الألماني يُقدَّم المهاجرون بحسب هبة بطريقتين "البطل الخارق الناجح أو اللاجئ المحتاج للمساعدة العاطل عن العمل، لذا أردت أن أخبر الألمان أن هناك نوعٌ آخر، نحن المهاجرون العاديون الذين نعمل ولدينا أحلام ومخاوف، لسنا خارقين ولسنا عالة عليكم ، نشعرف بالخوف عن عدم معرفتنا نطق الاسم الصحيح للخبز بالمخبز، ونشعر بالحنين والشوق، الهدف هو نقل فكرة الناس العاديين الذين لا يتكلم عنهم أحد".
وجودها في برلين كان مساعدًا كثيرًا لتقديم البودكاست إذ تقول هبة لـ"مهاجر نيوز": "ربما كان الأمر ليكون صعبًا جدًا أو مستحيلًا لو كنت أعيش في مكانٍ آخر، الحرية في برلين ساعدتني كثيرًا، كذلك خصوصية تجربتي في برلين وانعكاساتها على تجاربي السابقة ساعدتني لخلق محتوىً مختلف".
وبنظر هبة فإن خلفيتها الصحفية ساهمت بصقل العمل، وجعلت صنع البودكاست أسهل لأن لديها خلفية بالتسجيل والكتابة والمونتاج، ربما يواجهها آخرون حيث سيضطرون لتعلم كل شيء من الصفر، وترى أن أجمل اللحظات عندما تتلقى ردود فعل عربية تخبرها "شكرًا لأننا نشعر بنفس الشيء"، أو من ألمان يقولون لها: "شكرًا لم نكن نعلم عن هذا".
قطش ولحش: مزج السياسة بالسخرية
على خلاف التجارب السابقة اختار الأكاديمي السوري جمال منصور المقيم بكندا والستاند أب كوميديان السوري والبودكاستر عمار دبا المقيم بهولندا السياسة كموضوعٍ للبودكاست المشترك "قطش ولحش" لكنهما قدماها بطريقة ساخرة، فمن اسمه "قطش ولحش" والتي تعني "أي كلام" باللهجة السورية، يخبر جمال وعمار الناس: "لا تأخذونا على محمل الجد" لكنهما يقدمان الجدية مغلفة بغلافٍ ساخر.
يقول جمال لـ"مهاجر نيوز": "نتناول مواضيع لها علاقة بما يجري في العالم والسياسة وتحليلها بشكل عميق لكن باستخدام لغة ساخرة، وقدر لا بأس به من الشتائم بشكل مقصود لإحداث صدمة لدى الناس، وبالفعل تمكنّا من استفزاز العديدين وهذا أمر ناجح برأينا".
قدم عمار وجمال 65 حلقة حتى الآن، كذلك قدما أول حلقة مباشرة أمام جمهور في برلين، والهدف بحسب عمار هو "الاعتياد على الخطاب العفوي وأن تكون الأمور غير معدة"، لكن لماذا يقدم عمار "قطش ولحش" وبودكاست آخر يحمل اسم "طق..طق.." يقول عمار لـ"مهاجر نيوز": "أنا ستاند أب كوميديان والهدف بالنهاية من البودكاست بالنسبة لي هو خلق منتج ثقافي جيد يعمل على تشكيل رابطة بيني وبين الجمهور الذين قد يشاهدوني على المسرح، أن يتعرف الناس علي، ولأكون صريح لأبيع بطاقات أكثر، فأنا بالنهاية أبيع منتج ثقافي يحتاج لتسويق وهذه طريقتي".
كيف بدأت الفكرة يتابع عمار: "أنا أؤمن بأن الحاجة أم الاختراع وأن البشر تطوروا بسبب المنافع وتقاطع المصالح، وهذا محفز رائع للإبداع، لذلك شعرت أني أريد الحديث بالسياسة لكن هذا ليس اختصاصي، وعندما تواصلت مع عمار وأنا أعرفه منذ زمن، تحدث بنفس الطريقة، فقررنا بأن نقوم بمزج دراسته الأكاديميه بسخريتي، وقمنا بتجارب كثيرة حتى توصلنا للشكل الذي نقدم به "قطش ولحش" اليوم".
أجمل ما في التجربة بحسب عمار أنها أتاحت له التعرف على سوريين وعرب كثيرون ساعدوا بتغيير نظرته للكثير من الأمور عدة مرات وبطرق مختلفة ومتقلبة، عبر التفاعل والكلام، بينما يضيف جمال: "أهم الأشياء التي أغنتني بها التجربة عدا عن معرفة الذات، إذ خروجي من سوريا جعلت مني شخص مختلف أنا اليوم غير أنا عام 2011، أصبحت شخصًا مختلفًا بإدراكٍ مختلف، كذلك ساهمت الغربة والفقد بقدرتي على تحليل الأمور ورؤية القضايا بطريقة أوضح، كان الأهم أني اكتشفت سوريين وسوريات وخاصةً سوريات ناجحات ومثابرات وجريئات وجميلات بأثرهن".
ويختم جمال بأن العرب دائمًا ما يتهمون بأنهم شعب كثير الكلام لذا فإن البودكاست متوافق مع هذا، لكنه يرى أن ما كنا نعيشه بظل الأنظمة القمعية والدكتاتوريات عبارة عن كلام بلا معنى وضوضاء، اليوم بدأ يصبح كلام ذو معنى وجاءت بعض تجارب البودكاست لاحتضان ذلك.
الرقابة العابرة للحدود
وبرغم الحربة الواسعة التي أتاحها التواجد بالخارج لصانعي البودكاست بالخارج، إلا أن الرقابة لا تزال تلاحقهم، التي لا تزال تظهر بالتعليقات وردود أفعال المحيط كالعائلة والأهل، إذ تقول هبة: "في إحدى حلقاتي تناول موضوع الـ"One night stand" أي ممارسة الجنس العابرة لكني لم أجرؤ على نشر رابط الحلقة على حساباتي الخاصة خوفًا من التعليقات، رغم أن الحلقة لم تتحدث عن تجربتي الشخصية، لكني خفت من الناس، علمًا أني حرة ولا يجب أن أخاف لكن الرقابة العابرة للحدود لا تزال تخيفنا، كذلك هناك رقابة من المجتمعات الجديدة، كتناول بعض المواضيع السياسية عن الفلسطينيين التي قد تكون غير مقبولة بألمانيا أو تؤدي لخسارة عملي، فالرقابة لم ننته منها بجميع الأماكن".
في حين يرى جمال أن الصدمة التي تحدثها هذه التجارب لدى المجتمعات جيدة، لتجعلهم يتعودون الاختلاف، ويضيف: "أتلقى توبيخاً من عائلتي على ما أقوم به منذ صغري، فتوقعوا ردود الأفعال على جراة شابة صغيرة بالعمر وامرأة، لكن برأي أن تزعج من حولك مقابل الحقيقة ليس أمرًا خاطئًا".
راما الجرمقاني- مهاجر نيوز