بعد أن نفضت الموصل ظلام داعش عن نفسها.. جامعتها تحتضن كل العراقيين

  • بواسطة: DWW تاريخ النشر: الإثنين، 27 مايو 2019
مقالات ذات صلة
فيسبوك، تويتر وجوجل متهمون بمساعدة داعش
تعرف على فوائد النوم في الظلام
تفاصيل جديدة تهز السعودية في قضية التوأم الداعشي

من يدخل جامعة الموصل، تلفتُ نظره بشدة حركةُ الطلبة والأساتذة المستمرة بين منشآت الجامعة ومبانيها. مظاهر التنوع التي تظهر على الطلبة والأساتذة وملابسهم ورموزهم تكشف عن روح التسامح التي تسود الصرح الأكاديمي المرموق.

بين الأروقة والمباني التي أعيد تأهيلها وطليت جدرانها وسقوفها بألوان بهيجة، تقام فعاليات يومية تخرج عن وقار المناهج التدريسية الرصينة، إلى فضاء المحبة الذي يضم الجميع. ففي يوم (الأربعاء 24 نيسان/ أبريل 2019) اقامت الجامعة احتفالا كبيراً لكسر حاجز التشدد والخوف من الآخر الذي سببه احتلال تنظيم داعش للمدينة والجامعة. حفلات التخرج التي اقامها طلبة الكليات المختلفة كان نجومها الوافدون إلى جامعة الموصل بعد تحريرها من قبضة تنظيم "داعش" من مختلف مكونات النسيج العراقي .

فيديو ذات صلة

This browser does not support the video element.

منصات سلام تعيد الحياة للجامعة

أجمل منصات الاحتفالات التي اقيمت في ذلك اليوم، هي منصة "آشور بازار" التي أقيمت أمام مكتبة الجامعة المحترقة، فبددت المظلات البيضاء والزرقاء، ونشاط الطلبة الكلدو آشوريين ظلاميات داعش. فيما باتت حديقة السلام التي اقيمت هذا العام، معلماً يُعلن عن ترحيب أهل الموصل بالوافدين الجدد مهما تنوعت طوائفهم وتباينت هوياتهم.

الدكتور وعد إبراهيم خليل أستاذ علم الاجتماع في الجامعة تحدث إلى DWعربية كاشفاً عن جوانب خفية في أجواء التنوع التي تعيشها الجامعة بعد سنتين من تحريرها من سلطة داعش "أرى في علاقات الطلبة بعد تحرير المدينة قوة أكثر من السابق، والسبب هو الشعور الوطني الذي ساد قضية التحرير، لأن تحرير المدينة لم يجر بشكل مناطقي، باعتبارها مدينة لأهل الموصل فحسب، بل جرى عبر مشاركة أهل الجنوب والوسط والشمال في العملية التي جمعت الكل حول هذا الهدف".

عاشت الموصل منذ التغيير في عام 2003 حالة حذر وتخوف من الطلبة الوافدين من خارج المدينة، ورغم أن الجامعة تقبل الطلبة الوافدين من كل أنحاء العراق، إلا انّ الطلبة من خارج الموصل يتهيبون من الدراسة فيها لأسباب تتعلق بعلاقاتهم بأهل المدينة، وهو أمر تغير إلى حد كبير بعد تحرير المدينة، وبهذا السياق يقول د. وعد إبراهيم "علاقات الطلبة بعد التحرير باتت جداً قوية، ويسودها تماسك أجماعي، ولا تظهر أي مشاكل بين الطلبة الموصليين وزملائهم من باقي المحافظات" ومضى يبين نوع العلاقات التي سادت بعد التحرير عبر أمثلة منها اطلاق مبادرة "بزيارة وفد من طلبة واساتذة الجامعة إلى محافظة النجف، حيث تعرفوا على أهل المدينة عن كثب، وكان استقبال اهلها للزائرين حافلاً".

مبادرات تذيب جليداً خلفه "داعش"

في مقابل هذه المبادرة، جرت يوم (7 أيار/ مايو 2019)) زيارة من أهل جنوب العراق عن طريق مبادرة أطلقها أحد الطلبة من أهل الجنوب، حيث نشرَ لافتات بيضاء كبيرة بطول 150 متراً، وعليها عبارات من قبل أبناء 5 محافظات جنوبية هي رسائل تضامن مع أهل الموصل، وما جرى حال تعليق اللافتات "أنّ الطلبة الموصليين، بدأوا يكتبون بأقلامهم ردودا ودية على العبارات المكتوبة...كل ذلك جاء عفوياً دون ترتيب مسبق" على حد وصف الأكاديمي وعد إبراهيم خليل الذي يشغل أيضا منصب المتحدث الرسمي باسم الجامعة.

يلفت النظر خاصة في جامعة الموصل حضور الطالبات الإيزيديات، حيث أن داعش استرق الإيزيديات وباعهن كسبايا، ما كان سببا لتربعهن في واجهة المشهد الاعلامي الدولي. DWعربية حاورت الشابة إلهام حسن، الطالبة في المرحلة الأولى من قسم علم الاجتماع، وقد كشفت أنها لا تستطيع أن تسكن في الموصل بسبب ما خلفته هجمات داعش في نفوس الإيزيديين، وهي تتنقل من مدينة بعشيقة التي تسكنها إلى الجامعة برحلة مدتها ساعة في الذهاب وساعة في الإياب. إلهام حسن تقول "بسبب الأمن، ولخوف الإيزيديات من تكرار ما جرى لهن في عام 2014، فهن لا يسكن الموصل، ولا يوجد عارض قانوني يمنعهن عن ذلك".

هذه المخاوف، دفعتنا للسؤال عن وضع الإيزيديات في الجامعة، لاسيما أنّ تنظيم "الدولة الاسلامية" أعتبرهن كافرات يجوز هتك أعراضهن وبيعهن لإمتاع رجال التنظيم، وحول ذلك قالت إلهام "في الجامعة، وحتى الآن لم ألمس أي مضايقة أو احتقار أو ممارسة تفرقة، رغم حقيقة أنني لست محجبة". وتبلغ إلهام الرابعة والعشرين من العمر، وقد تأخرت 4 سنوات عن الجامعة بسبب احتلال داعش للموصل وممارسته الإبادة الجماعية بحق المكوّن الإيزيدي.

"في الجامعة يتجنب الجميع الإشارة إلى ديانة المقابل"

أما حسن هاشم، وهو طالب من مكوّن الشبك، فيروي قصة أخرى، إذا أن الشبك قد نزحوا من مناطقهم إلى برطله بسهل نينوى، ثم احتل داعش برطله، فنزحوا مرة أخرى، وهذه المرة ذهبت عائلة حسن إلى كربلاء، وقد عاد إلى الموصل مع أهله، ويرى أنّ الحياة في المدينة قد عادت إلى وضعها الطبيعي، وفي داخل الجامعة وصف التعايش بالقول "في الجامعة يتجنب الجميع الإشارة إلى ديانة المقابل، ويحافظون على علاقة ود بين بعضهم. ويسري هذا الأمر على الاساتذة أيضا، كما أنّ العلاقات مع الزميلات تسير على نفس النهج، وهناك تعاون وثيق بروح زمالة حقيقية".

عودة طلبة المحافظات الجنوبية إلى جامعة الموصل، يفنّد فرضية أنّ لداعش خلايا نائمة مازالت مؤثرة في الحياة العامة للمدينة التي اتخذها التنظيم عاصمة "الدولة الاسلامية"، وتكشف حالة الطالب حيدر رزاق حسن، ابن مدينة النجف، في المرحلة الثانية من كلية الهندسة جوانب خفية من العلاقات التي سادت بين الطلبة بعد التحرير، وعن تجربته في هذا المجال تحدث إلى DW عربية مشيراً بالقول" قبل أن يتم قبولي في الجامعة، شاركت في حملات تنظيف وإعادة تأهيل الجامعة وحملات التوعية، وكان حضور طلبة محافظات البصرة والناصرية ملحوظاً في الجامعة".

وفي مثل هذه الحالات، يرصد المراقب حالة استقطاب بين الطلبة الوافدين، تؤدي بهم غالباً إلى أن يعيشوا في مجتمعات بديلة مغلقة، لا تختلط بالمحيط الأكبر، وفي هذا السياق يقول حيدر "في هذا المكان يسود شعور بأننا نعيش في عراق مصغّر، فلا نشعر بالانتماء إلى الجنوب أو الوسط مثلاً، بل تسود روح الانتماء إلى الوطن. الموصل اليوم تضم كل الطوائف والقوميات، ومن بين خمسين طالب في المرحلة الثانية من قسم هندسة السدود، يوجد نحو 20 طالب وافد من المحافظات الأخرى". ويمضي الطالب القادم من مدينة النجف إلى القول" كان قدومنا إلى جامعة الموصل بحد ذاته مجازفة، لكننا فوجئنا بسلوك الزملاء الموصليين، فلم نشعر منهم بأيّ تمييز أو غربة، وكنا نقرأ في الاعلام أنّ الغريب في الموصل يعاني من التمييز، لكننا لم نلحظ هذا في الجامعة".

شارك في تحرير الجامعة وبات طالباً فيها

علي حيدر كاظم، طالب من أهل الناصرية جنوب العراق، وهو طالب في المرحلة الثانية من كلية الهندسة قسم السدود، وله تجربة فريدة بين زملائه، إذا أنّه قُبل في الجامعة عام 2014، وهو عام سقوط الموصل بيد تنظيم داعش وعن تجربته تحدث إلى DW عربية مشيراً بالقول" انتقلت جامعة الموصل إلى موقعها الرديف في كركوك، ولم استطع أن التحق بها لأسباب تتعلق بظروف تلك المرحلة، وقد التحقت بقوة التحرير وشاركت في اسناد القوات المسلحة العراقية التي حاربت داعش وخاصة القطعات التي حررت مدينة الموصل، وبعد التحرير التحقت عام 2017 بالجامعة".

وكشف علي عن مشاعره حين التحاقه بجامعة الموصل بعد تحرير المدينة مشيراً بالقول" كانت الموصل عبارة عن ألوان الطيف السبعة، وجاءت غيمة داعش، وبعدها جاء صقور الجيش وحرروا المدينة من هذه الغيمة، وحين جئت إلى هنا قبل سنتين كانت لدي شكوك بشأن تعاطف الموصليين مع الفكر الظلامي، ولكن اختلاطي بهم وبالكادر التدريسي كشف لي أنّ الجميع يرفضون ذلك الفكر ولا يتعاطفون معه". ورفض علي وصف "تعايش" الذي يطلقه البعض على وضع الطلبة الوافدين مع طلبة الموصل، مشيرا إلى أن "التعايش يحصل بين الأعداء بعد الحرب، ولكننا هنا لسنا أعداء بل أخوان ربما اختلفوا بينهم، ولكنهم تصالحوا وانتهى كل شيء".

المشهد يبدو أصعب مع الطالبات، إذ يترتب عليهنّ السكن لدى اقاربهن أو في الأقسام الداخلية، وتمثل دلال جاسم حالة من هذا النوع، فهي طالبة في المرحلة الأولى من قسم الترجمة، وتسكن في مدينة دهوك شمال شرق الموصل، وتتنقل يومياً منها إلى الجامعة وبالعكس لأنّ أهلها لا يحبذون سكنها في الأقسام الداخلية، وتصف دلال نفسها بالقول" أنا اجتماعية بطبعي وعلاقتي مع الآخرين مهمة جداً وأعتز بها، وأرى أن العلاقات بين الطلبة، موصليين أو وافدين طبيعية. نحن نعيش ما يمكن وصفه بتعايش سلمي تسوده المحبة. وربما كانت في نفوس بعض الطلبة أشياء تخالف هذا الظاهر، لكنهم يحرصون على عدم إظهارها".

داعش أحرق مكتبة الجامعة التي تضم 3 ملايين كتاب

أما الدكتور محمود عزو، استاذ العلوم السياسية، والذي يشغل منصب مدير أملاك الجامعة، وهو منصب حتمته ضرورة إعادة تأهيل الجامعة، فمن بين واجباته، اثبات ملكية أراض ومبانٍ تعود للجامعة، وباتت بعد التحرير متنازع على ملكيتها مع جهات أخرى. وقد كشف د عزو أنّ تنظيم داعش دمّر وأحرق كثيراً من مباني الجامعة، ومن بينها المكتبة الشهيرة التي كانت تضم 3 ملايين كتاب لم ينجُ من الحرق منها سوى الكتب التي كان الطلبة والأساتذة قد استعاروها وعددها 35 ألف كتاب، وحول طبيعة عمله يقول د.عزو" عملي هو اثبات ملكية اراضي الجامعة المنتشرة على مساحات واسعة جدا، وعلى سبيل المثال فإنّ مبنى رئاسة الجامعة دُمر بالكامل لأنّ القوات الأمريكية أطلقت على المبنى 20 صاروخاً أثناء اجتماع قيادات داعش فيه، ما أدى إلى تدميره وضياع كثير من الأوراق والوثائق الرسمية فيه" وكشف د عزو أن التنظيم قد استخدم مباني الجامعة لإسكان الاجانب من عناصره، وحول بعض مبانيها إلى ورش تفخيخ، وإلى ثكنات تدريب، كما حول بعض الأقسام الى ما أسماه بالجامعة الإسلامية، وفرز الطلبة عن الطالبات في صفوف مختلفة. وقد دمر التنظيم كلية الطب البيطري وكلية طب الموصل بالكامل. وكشف د.عزو أنّ عملية إعادة التأهيل تعتمد اليوم إلى حد كبير على المنح الدولية، وبدرجة أقل على صندوق اعادة إعمار المناطق المتضررة.

"الموصل مدينة صحراوية لذا تخشى الآخرين"

وتطرق د. عزو إلى تاريخ المدينة وتعامل اهلها مع الوافدين مبيناً أنّ "الموصل طالما تعرضت لتحديات تاريخية كبرى، ولذلك نمت لدى أهل المدينة خشية مستقبلية من الآخرين، خلافا للحالة في العاصمة بغداد، أو في البصرة التي تملك منفذا بحرياً. الموصل مدينة صحراوية، وكل المدن الصحراوية تخشى الآخرين".

ولدى الخروج من الجامعة، كان منظر المكتبة المحروقة صادماً، يروي قصة المشروع الظلامي الذي سعى تنظيم "الدولة الاسلامية" إلى فرضه على الناس، لكنّ الفعاليات التي اقيمت أمام المبنى وتحلّق الطلبة والطالبات في مجاميع صغيرة ملونة الملابس كانت تروي قصة أمل جديد يصنعه جيل الشباب في المدينة التاريخية العريقة، التي تعد امتدادا لعاصمة الآشوريين وبقاياها في النمرود حالياً.

ملهم الملائكة - جامعة الموصل