المعلقات.. تعريفها وأهم شعرائها
This browser does not support the video element.
وقف الشاعر في الجاهلية أمام أطلالٍ دارساتٍ، فكان الهائم والمدلَّه شوقاً لأحبته القدامى، وما أن صعد ظهر مطيته أو راحلته حتى غدا ذلك الفارس الذي يذود عن حياض قومه ويصول في ساحات الوغى، ثم كان إذا اشتد عليه الظلم، عزيزاً يأبى الهوان، وعندما كان يقف بين حشود الناس في سوق عكاظ أو ذي المجاز وغيرها من أسواق العرب قديماً، يصبح اللسان الذي يترجم كل ذلك في آياتٍ محكماتٍ، ويمليها على الملأ وعلى مسامع أهل العلم والشعر، حتى يبلغ مبلغه بين الفصحاء.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
وفي هذه البيئة كانت ولادة المعلقات التي تجاوزت أهميتها حدود الشعراء والنقاد واللغويين العرب، ليجادل في أمرها ويبحث عن أصولها مستشرقين ألمانيين وأمريكيين، وفي أبيات المعلقات يمكن قراءة ملامح حقْبةٍ بأكملها ومعرفة ملامح ابن البادية والطريقة التي عاش وتنقل وحارب بها.
لماذا سميت المعلقات بهذا الاسم؟
كان مشهوراً لدى العرب في كل عام أن يجتمعوا بشهر شوال في سوق عكاظ، وفيه يبيع التجار بضائعهم ويعرضون ما لديهم على الناس، ويستمر الحال كذلك لمدة شهرٍ.
وكان الشعراء يرون في ذلك فرصة ليوصلوا صوتهم إلى الناس ويزيدوا شهرتهم، فيأتون في هذا الموعد ويقولوا شعرَهم على مسامع الناس، بوجود من يحكم على هذا الشعر، وكانت اللغة القرشية هي المستخدمة لدى الشعراء، كما كان الشاعر يقول قصيدته دون أن يوقفه أو يقاطعه أحد حتى ينتهي.
لكن ساد اختلافٌ كبير بين أهل اللغة وجامعي شعر العصر الجاهلي، حول عدد المعلقات إن كانت عشر معلقات أم سبع معلقات، كما ساد اختلافٌ حول سبب تسمية المعلقات باسمها هذا.
هناك من قال إن الشاعر الذي يقع الاتفاق على بلاغته وإجادته وحسن كلامه، كانت تكتب قصيدته على الديباج، بحروفٍ من ذهب وتعلق على أحد جدران الكعبة؛ وذلك للإشادة بشأن صاحبها ولتخليد اسمه، ومن أشهر من قال أن (سبب تسمية المعلقات بهذا الاسم هو تعليقها على الكعبة بعد كتابتها بالذهب)؛ هو ابن خلدون، وأحمد بن عبد ربه صاحب كتاب العقد الفريد.
ويقول ابن رشيق (أديب وناقد وشاعر جزائري، عاش في القرنين الرابع والخامس الهجريين): "كانت المعلقات تسمى المذهبات، ذلك أنها اختيرت من سائر الشعر القديم، فكتبت بماء الذهب وعلقت على الكعبة، لذلك يقال مذهبة فلان إذا كانت أجود شعره".
بيد أن هناك من يختلف مع ذلك، ويرى أن تسمية المعلقات بالمذهبات هو فقط للمجاز وكدليل على قيمة المعلقات لدى العرب، وفي ذلك يقول المستشرق الألماني ثيورد نودلكه (Theuerd Nöldeke): "إن قصة القول بأن قصائد المعلقات كتبت بالذهب وسميت لذلك بالمذهبات.
إنما ذلك على سبيل المجاز للدلالة على عظم أمرها، فإن تسمية المعلقات يمكن أن تكون مشتقة من كلمة علق (قلادة) وذلك لنفاستها" (وفي هذا المقال سوف نتحدث عن سبع معلقات هي المقدمة عند العرب وعند من جمع المعلقات، والتي تعتبر الأساس، وسنقدم أجمل المقتطفات من كل معلقة، والتي تلخص جو المعلقة وتعكسه).
أصحاب المعلقات
كما ذكرنا سابقاً أن هناك اختلافاً حول عدد المعلقات وهو اختلافٌ أيضاً حول عدد شعراء المعلقات، إذ يعتبر كل من:
- امْرُؤ القيس.
- طرفة بن عبد.
- زهير بن أبي سلمى.
- لبيد بن ربيعة.
- عمرو بن كلثوم.
- عنترة بن شداد.
- الحارث بن حلزة،
هم الشعراء المقدمون، والخلاف حول كل من النابغة الذبياني، الأعشى الأكبر، عبيد بن الأبرص، إذا كانوا من شعراء المعلقات أم لا، وهنا سنتحدث عن الشعراء المقدّمين، عند ابن خلدون، وابن رشيق وأحمد بن عبد ربه.
معلقة امرئ القيس
هو امرؤ القيس بن حجر بن حارث الكندي، ولد في قبيلة كندة وعاش بين عامي (520ميلادي و565 ميلادي).
كان امرؤ القيس صاحب أشهر المعلقات مغرماً بابنة عمه عنيزة، وفي معلقته يصف إحدى مغامراته مع ابنة عمه عندما ذبح راحلته (ناقته)، ليطعمها ومن كان معها من فتيات الحي، وذلك بعد أن أطال جلوسهم في وادي دارة الجلجل متقصداً، ويقسّم معلقته إلى عدة أقسام، في البداية يستهلها بالوقوف على الأطلال ووصف الحنين إليها.
ثم يصف مغامرته الغرامية مع ابنة عمه في دار جلجل (المكان الذي التقى فيه بعنيزة)، ثم يصف تشرده وتنقله من مكان إلى آخر في الأرض، وأخيراً يصف الليل والوادي وعواء الذئاب.
من معلقة امرئ القيس
قِـفَـا نَـبْـكِ مِـنْ ذِكْـرَى حَـبِـيبٍ ومَنْزِلِ ... بسِـقْطِ اللِّـوَى بَيــْنَ الدَّخُـول فَحَـوْمَلِ
فَـتُـوْضِـحَ فَــالمِـقْـراةِ لـمْ يَـعْـفُ رَسْمُها ... لِـمَـا نَـسَـجَـتْـهَـا مِـنْ جَـنُـوبٍ وشَمْـألِ
تَـرَى بَــعَــرَ الأرْآمِ فِــي عَــرَصَـاتِـهَــا ... وَقِـيْــعَــانِــهَــا كَــأنَّــهُ حَــبُّ فُــلْــفُــلِ
ألاَ رُبَّ يَــوْمٍ لَــكَ مِــنْــهُــنَّ صَــالِــحٍ ... وَلاَ سِـــيَـمَــا يَــوْمٌ بِــدَارَةِ جُــلْــجُــلِ
ويَـوْمَ عَـقَــرْتُ لِــلْـعَــذَارَي مَـطِـيَّـتِي ... فَـيَـا عَـجَـبـاً مِـنْ كـورهـا الـمُـتَـحَـمَّلِ
فَـظَـلَّ الـعَـذَارَى يَـرْتَـمِـيْـنَ بِـلَحْـمِـهَا ... وشَـحْـمٍ كَـهُــدَّابِ الـدِّمَـقْـسِ الـمُـفَـتَّـلِ
ويَـوْمَ دَخَـلْـتُ الـخِـدْرَ خِـدْرَ عُـنَـيْـزَةٍ ... فَـقَالَـتْ: لَكَ الـوَيْـلاَتُ إنَّـكَ مُـرْجِـلِـي
ولَـيْـلٍ كَـمَـوْجِ الـبَـحْـرِ أَرْخَـى سُـدُوْلَــهُ ... عَــلَـيَّ بِـأَنْـوَاعِ الـهُــمُــوْمِ لِــيَــبْــتَــلِـي
ألاَ أَيُّـهَـا الـلَّـيْـلُ الـطَّـوِيْــلُ ألاَ انْـجَـلِــي ... بِـصُـبْـحٍ وَمَــا الإصْـبَـاحُ مـنِـكَ بِأَمْثَلِ
وَقَـدْ أغْــتَـدِي والــطَّـيْـرُ فِـي وُكُـنَــاتِـهَا ... بِــمُــنْــجَــرِدٍ قَــيْـــدِ الأَوَابِــدِ هَــيْــكَــلِ
مِــكَــرٍّ مِــفَــرٍّ مُــقْــبِــلٍ مُــدْبِــرٍ مَــعــاً ... كَــجُلْـمُوْدِ صَـخْرٍ حَطَّهُ السَّـيْلُ مِنْ عَلِ
كَـمَـيْـتٍ يَـزِلُّ الـلَّـبْـدُ عَـنْ حَـالِ مَــتْــنِـهِ ... كَــمَــا زَلَّــتِ الـصَّـفْــوَاءُ بِــالــمُـتَـنَـزَّلِ
شرح معلقة امرؤ القيس
يطلب الشاعر امرؤ القيس من صاحبيه أن يعيناه على بكائه وحنينه إلى الديار والأحبة الذين فارقهم، فالدخول وحومل هي أسماء الأماكن التي يحن إليها الشاعر، واللوى في اللغة يعني الرمل المعوج، والسقط يعني المكان منقطع الرمل، لكن هنا يشير إلى أسماء.
اسم المكان الذي هو سقط اللوى الواقع بين الدخول وحومل مواضع أخرى، ثم يكمل ذاكراً أسماء الأماكن التي يحن إليها وهي توضح والمقراة، ويبين أن آثار تلك الأماكن لم تمحَ، لتناوب الريح من الشمال والجنوب، فما تغطيه ريحٌ، تكشفه أخرى.
وبعدها يصف مغامرته الغرامية مع عنيزة عندما نحر ناقته وأطعم فتيات الحي ومنهن ابنة عمه عنيزة، ثم يصف كيف صعد أمام هودج عنيزة، ثم أصبح يدخل إليها رأسه ويقبلها ثم يخرج، وكانت عنيزة تدعو عليه، وتقول "إن ذبحك ناقتك، وصعودك ظهر بعيري، سيجعلني ارتجل وأذهب مشياً على قدمي".
الخدر يعني الهودج، والدمقس يعني البياض من كل شيء، وهنا استخدمه ليدل على جودة لحم ناقته التي نحرها للفتيات، ويصف امرؤ القيس ليله الذي يراه طويلاً ثقيلاً لكثرة همومه وهواجسه، منتظراً انبلاج الفجر ليمحو ليله المقيت.
كما يصف جواده عند خروجه في الصباح الباكر، الغدوة، تعني الصباح الباكر، والوكنات هي أعشاش الطيور، مشبهاً إياه بالوحوش قوةً وضخامة، ولسرعته لا يدري الناظر إذا كان يقبل إليه أو يدبر ويرتد عنه، والكميت اللون الذي يتراوح بين السواد والحمرة وهو لون فرسه.
معلقة طرفة بن العبد الشاعر اللاهي
هو أبو عمرو بن العبد الملقب بطرفة، وهو من قبيلة بكر بن وائل، كان لعائلته باعٌ طويلاً بالشعر، فأبوه وجده كانا شاعرين، كما أن خاله المتلمّس كان شاعراً، وعاش في شبابه حياةً مترفة قضاها بين ملذاته ولهوه، إذ أساء عمومته تربيته بعد وفاة أبيه، فنشأ على اللهو والحياة العابثة الماجنة، وفي ذلك يصف طرفة نفسه في معلقته قائلاً:
وما زال تشرابي الخمورُ ولذتي .. وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي
معلقة طرفة تجلياتٌ لحكمته وانعكاس لما ناله من ظلم
بعد وفاة والد طرفة، لم يكن بإمكانه الدفاع عن حقوقه وميراث أبيه، فظلمه عمومته، وأنكروا ما له من حقوق، ويظهر ذلك في معلقة طرفة، حيث يبدي غضبه من ظلم الأقارب، كما تتجلى حكمته في معلقته، وهي خبرة استقاها من تجربته المريرة ووقوعه تحت الظلم.
يستهل طرفة بن عبد معلقته بمقدمة طللية (الوقوف على الأطلال والحنين إلى الأحبة) ثم يمزج في سطور المعلقة بين الوصف والحكمة.
من معلقة طرفة بن العبد
لِخَولة أطْلالٌ بِبُرقَة ثَهمَدِ ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ
وُقوفاً بِها صَحبي عَلَيَّ مَطيَّهُم ... يَقولونَ لا تَهلِك أَسىً وَتَجَلَّدِ
كَأَنَّ حُدوجَ المالِكيَّةِ غُدوَةً ... خَلايا سَفينٍ بِالنَواصِفِ مِن دَدِ
و ظلم ذوي القربى أشد مضاضةً ... على المرء من وقع الحسام المهند
فذرني وخلقي إنني لك شاكرٌ ... ولو حل بيتي نائياً عند ضرغد
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
شرح معلقة طرفة بن العبد
يشبه الشاعر أطلال ديار المحبوبة أو ما بقي من أثرٍ يدل عليها في مكانٍ تخالط رماله الحجارة (وهو معنى كلمة برقة) في منطقة ثهمد، وإن آثار الديار تلمع كأنها بقايا وشمٍ أو رسمٍ في يدٍ.
ويصف الشاعر محاولات رفاقه لزيادة صبره وتجلده على ما هو فيه من حزنٍ وحنين بعد فراق أحبته (الهدف من ذلك إظهار شدة الشوق والحنين لديار المحبوبة).
ثم يصف عظمة الهودج الذي يحمل المحبوبة، وهو رآها عظيمة، لشدة شوقه ووله، وحبه (كلمة دد، هي اسم وادٍ كما أنها تعني اللعب واللهو مأخوذة من فعل ددا)، كما يبين الشاعر شدة الظلم الذي وقع عليه من أقربائه مشبهاً ذلك بوقع السيوف.
معلقة زهير بن أبي سلمى حكيم الشعر الجاهلي
هو زهير بن ربيعة بن رياح بن مزينة، وأيضاً كان زهير كطرفة محاطاً بأسرة شعراء، فولديه بجير وكعب كانا شعراءً، كما أن أخته الخنساء كانت شاعرة.
عرف عن زهير اهتمامه الكبير بقصائده حيث كان لا يخرج القصيدة، إلا بعد عامٍ، حيث يعيد النظر بها ويتمعن جيداً، وكان يكثر من نظم شعر الحكمة.
حيث كان أكثر شعراء الجاهلية حكمةً، وساعد في ذلك ما بلغه من عمر، إذ تجاوز عمره التسعين عاماً، منحته الخبرة والتجربة الواسعة، وجعلت منه ذلك الشاعر المتبصر والحكيم، لذلك تظهر حكمته في الأبيات التي يبتدئها بكلمة ومَنْ، والمعلقة بوصف الخليفة عمر بن الخطاب، هي أكثر الشعر الجاهلي حكمةً وتبصراً.
زهير يدعو للسلام ووقف الأحقاد
كان زهير محباً للسلام، وكارهاً للحروب، وبعد الصلح الذي حصل بين قبيلة عبس وذبيان المتصارعتين في حرب داحس والغبراء، نظم زهير معلقته، والتي يشيد فيها بالجهود التي بذلت لتحقيق الصلح من قبل هرم بن سنان والحارث بن عوف، كما يدعو المتحاربين إلى نفض الحقد والكره من قلوبهم.
من المعلقات السبع معلقة زهير بن أبي سلمى
أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَـةٌ لَمْ تَكَلَّـمِ ... بِحَـوْمَانَةِ الـدُّرَّاجِ فَالمُتَثَلَّـمِ
وَدَارٌ لَهَـا بِالرَّقْمَتَيْـنِ كَأَنَّهَـا ... مَرَاجِيْعُ وَشْمٍ فِي نَوَاشِرِ مِعْصَـمِ
يَمِينـاً لَنِعْمَ السَّـيِّدَانِ وُجِدْتُمَـا ... عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ سَحِيْلٍ وَمُبْـرَمِ
تَدَارَكْتُـمَا عَبْسًا وَذُبْيَانَ بَعْدَمَـا ... تَفَـانَوْا وَدَقُّوا بَيْنَهُمْ عِطْرَ مَنْشَـمِ
وَقَدْ قُلْتُمَا إِنْ نُدْرِكِ السِّلْمَ وَاسِعـاً ... بِمَالٍ وَمَعْرُوفٍ مِنَ القَوْلِ نَسْلَـمِ
سَئِمْـتُ تَكَالِيْفَ الحَيَاةِ وَمَنْ يَعِـشُ ... ثَمَانِيـنَ حَـوْلاً لا أَبَا لَكَ يَسْـأَمِ
وَمَنْ هَابَ أَسْـبَابَ المَنَايَا يَنَلْنَـهُ ... وَإِنْ يَرْقَ أَسْـبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّـمِ
وَمَنْ يَغْتَرِبْ يَحْسَبْ عَدُواً صَدِيقَـهُ ... وَمَنْ لَم يُكَـرِّمْ نَفْسَـهُ لَم يُكَـرَّمِ
وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مَنْ خَلِيقَـةٍ ... وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَـمِ
شرح معلقة زهير بن أبي سُلمى
يستهل الشاعر معلقته بالحنين إلى ديار المحبوبة وهي أم أوفى، فلم يبقَ سوى آثارٌ سوداء (دمنة تأتي بمعنى السواد، وهنا السواد يقصد به ما نجم عن بقايا الرماد وآثار الإبل والأغنام) لا تجيب، ثم يذكر المواضع التي يشتاق لها وهي الحومانة والدراج والمتلثم.
بالإضافة إلى الرقمتين وهي موضعة قريبة من البصرة، وفي المعلقة يشيد بجهد الرجلين (هرم بن سنان والحارث بن عوف) اللذين أصلحا شأن قومي عبس وذبيان بعد طول اقتتالهما (وأشار إلى ذلك بقوله دقوا عطر منشم، ومنشم هي امرأة يتطير بها العرب، ويرون فيها الموت، عن حادثة تناقلوها، أن قوماً تعطروا قبل الحرب بعطرها، فماتوا كلهم في الحرب.
وهنا يشير بها زهير كمجاز عن الاقتتال والحرب والموت)، ثم ينهي معلقته بأبيات الحكمة مشيراً إلى أن الموت سيبلغ كل امرئٍ على وجه الأرض، وأن الإنسان الذي لا يبني منزلته الرفيعة بنفسه لا أحد يبنيها له أو يقيم له اعتباراً، كما يظهر أن سمات المرء لا يمكن إخفاؤها عن الناس مهما بذل صاحبها من جهود.
معلقة لبيد بن ربيعة أدق الشعراء وصفاً
هو أبو عقيل لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب من هوزان قيس، وتفوق لبيد بالقدرة الوصفية على نظرائه من الشعراء الجاهليين، فالقارئ يمكن أن يتعلم جغرافيا بلاد الجاهلية من شعر لبيد، لبراعته في التصوير.
أبيات من معلقة لبيد بن ربيعة
عـفـتِ الـديـارُ مـحـلُّـهـا فـمُـقـامُـهَــا ... بـمـنًـى تـأبَّـدَ غَـوْلُــهـا فَـرِجَــامُـهَــا
فـمـدافـعُ الـرَّيَّـانِ عـرِّيَ رسْــمُــهــا ... خـلـقـاً كـمـا ضَـمِنَ الوُحِيَّ سِـلامُـها
دمِـنٌ تَـجَـرَّمَ بـعـدَ عَـهْـدِ أنِـيـسِــهَــا ... حِـجَـجٌ خَـلَـوْنَ حَـلالُـهَـا وحَـرَامُـهَـا
رزقَـتْ مـرابـيـعَ الـنُّـجـومِ وصـابَهَا ... ودقُ الـرواعـدِ جـوْدُهَـا فـرهـامُـهـا
مـنْ كـلِّ سَـارِيَــة وغــادٍ مُــدْجِــنٍ ... وعـشــيَّـة مــتــجــاوبٍ إرْزامُــهَــا
فَـعَـلا فُـرُوعُ الأيهقين وَأطْـفَــلَـتْ ... بـالـجـلـهـتـيـن ظـبـاؤهَـا ونـعـامُـها
شرح معلقة لبيد بن ربيعة
يصف الشاعر كيف غدت الديار موحشة بعد رحيل أهلها من أحبته (منى اسم موضع، غول ورجام أسماء جبال)، ثم يكمل وصف حالة التوحش التي بلغتها الديار إذ غادرها من يحب، وكيف مر على الديار أعوامٌ وهي خالية ونزل فيها المطر قوياً أحياناً وخفيفاً أحياناً أخرى (أشار إلى ذلك بقوله وَدَقٌ الرواعد جودها، الودق هو المطر وجوده يقصد نزوله بغزارة.
أما الرهام فهو اللين من الشيء وهنا المطر الخفيف)، ثم يصف كيف نبت العشب في الديار (الأيهقان: الجرجير البري) وكيف ولدت الظباء والحيوانات في تلك الديار وهي لا تزال موحشة لعدم وجود أهلها فيها.
معلقة عمرو يفتخر بعد خسارة ود ابن هند
هو عمرو بن مالك بن سعد، من قبيلة تغلب، أمه ليلى ابنة المهلهل، وعرف عن الشاعر فطنته وعزته وافتخاره بفعال قومه. كان عمرو بن كلثوم _كما هو الحال بالنسبة للكثير من الشعراء قديماً_ لسان قبيلته وممثلها في المجالس.
وعندما مثل قومه التغلبيين أمام الملك عمرو بن هند، الذي كان يحكم بين قبيلتي بكر وتغلب؛ فشل في كسب ود الملك -رغم أن الملك كان يفضل التغلبيين على البكريين- وذلك بسبب فخره المبالغ فيه والذي أزعج الملك.
وفي إحدى الحوادث التي يدعو فيها الملك عمرو بن هند قوم عمرو بن كلثوم وعلى رأسهم ابن كلثوم وأمه، وكان يريد أن يحط من قدر الشاعر وأمه أمام الناس، إذ قامت والدته بالتعامل مع أم ابن كلثوم على أنها خادمتها، فأمرتها بأن تعطيها إناءً، ما أثار حمَقَ ليلى أم عمرو، فاستثارت حمية ابنها، فهب واستل سيفه وقتل الملك وأنشد معلقته مفتخراً بقومه أشد الفخر، والذي لم يقاربه فخرٌ في الجاهليةٍ.
من معلقة عمرو بن كلثوم
أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِيْنَـا ... وَلاَ تُبْقِي خُمُـوْرَ الأَنْدَرِيْنَـا
مُشَعْشَعَةً كَأَنَّ الحُصَّ فِيْهَـا ... إِذَا مَا المَاءَ خَالَطَهَا سَخِيْنَـا
تَجُوْرُ بِذِي اللَّبَانَةِ عَنْ هَـوَاهُ ... إِذَا مَا ذَاقَهَـا حَتَّـى يَلِيْنَـا
أَبَا هِنْـدٍ فَلاَ تَعْجَـلْ عَلَيْنَـا ... وَأَنْظِـرْنَا نُخَبِّـرْكَ اليَقِيْنَــا
بِأَنَّا نُـوْرِدُ الـرَّايَاتِ بِيْضـاً ... وَنُصْـدِرُهُنَّ حُمْراً قَدْ رُوِيْنَـا
إِذَا مَا المَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفـاً ... أَبَيْنَـا أَنْ نُقِـرَّ الـذُّلَّ فِيْنَـا
مَـلأْنَا البَـرَّ حَتَّى ضَاقَ عَنَّـا ... وَظَهرَ البَحْـرِ نَمْلَـؤُهُ سَفِيْنَـا
إِذَا بَلَـغَ الفِطَـامَ لَنَا صَبِـيٌّ ... تَخِـرُّ لَهُ الجَبَـابِرُ سَاجِديْنَـا
شرح معلقة عمرو بن كلثوم
يفتتح معلقته بوصف الخمر الذي يطلب من الساقية أن تقدمه له وهو خمرٌ خالطه الماء، فأصبح لونه كلون الزعفران، وإن هذه الخمور التي يريدها عمرو تنسي صاحب الحاجة حاجته.
ثم ينتقل الشاعر في البيت الخامس ليفتخر بفعال قومه، مبيناً لعمرو بن هند ما يمكن أن يفعلوه في ساحات الوغى، وأنهم أناسٌ لا يرضخون لأحد، ويبالغ بمفاخرته بقومه واصفاً بأنهم يملؤون البحر والبر بعددهم، وأن صغار قومه من الأطفال يرعدون أشد الفرسان قوةً.
معلقة عنترة بن شداد الشاعر الفارس
تعود أصول عنترة إلى قبيلة عبس من مضر أبيه شداد وأمه زبيبة وهي حبشية، كانت من سبايا شداد، فلما أنجبت عنترة، استعبدها شداد هي وابنها عنترة، وكان يُنظر إلى عنترة من قبل قومه بعين الاستغراب لسواد لونه.
وبقي عنترة مستعبداً، إلى أن تمكن من رد الغزو الذي قامت به قبيلة طي وأخذت من خلاله إبل وأغنام عبس، فلما ردها عنترة منحه والده حريته، وبدأت بعدها تشتهر فروسية عنترة وشجاعته التي برزت في معارك داحس والغبراء، أحب ابنة عمه عبلة، ورفض عمه أن يعطيه إياها، وكانت ترافق كل قصائد عنترة بذكرها، وهو ما لم يغب أيضاً في معلقته.
عيّره أحد رجال قومه فرد بمعلقته
بعد إحدى المعارك التي خاضها عنترة مع قومه ضد قبيلة ذبيان وأبلى فيها بلاءً حسناً بشجاعته ونبل أخلاقه، عيره أحد أبناء قومه بسواده في أحد مجالس القوم، فرد عنترة بمعلقته، واصفاً جوده وشجاعته ورفضه الذل والظلم، ثم يصف فرسه رافعاً إياها إلى منزلة البشر، ولجودة إيقاعها وموسيقاها، وقوة صورها ومتانة تراكيبها، أصبحت تعرف بين العرب بالقصيدة الذهبية.
أبيات من معلقة عنترة بن شداد
هل غادرَ الشّعراء من مُتَردمِ ... أم هل عرفتُ الدّار بَعدَ توهمِ
يا دارَ عبلةَ بالجواءِ تَكَلّمِي ... وعمي صباحاً يا دارَ عبلةَ و اسْلَمِي
فَوَقَفَتْ فِيْهَا نَاقَتِي وكَأَنَّهَا ... فَدَنٌ لأقضي حاجةَ الُمتَلَوِّمِ
و تحلُّ عبلة بالجواءِ و أهلُنَا ... بالحزنِ فالصمّانِ فالمتَثلِّمِ
هلّا سألتِ الخيلَ يا ابنة مالكٍ ... إنْ كُنْتِ جاهلةً بِمَا لَمْ تَعْلَميْ
يُخْبُركَ من شَهدَ الوقيعةَ أنّنِي ... أغْشَى الوغَى وأعفُّ عندَ المغنمِ
ومدجّجٌ كَرَهَ الكُمَاْةُ نزَاْلَهُ ... لا مُمْعناً هرباً ولا مستسلمِ
جَادتْ لهُ كفّي بعاجلِ طعنةٍ ... بمثقفٍ صدقَ الكعوبِ مقومِ
فَشَكَكَتُ بالرّمحِ الأصَمّ ثيابَه ... ليسَ الكريمُ على القنَا بمحرمِ
يدعونَ عنترَ و الرّمَاحُ كَأَنّهَا ... أشطانُ بئرٍ فيْ لِبَانِ الأدْهمِ
ما زِلْتُ أَرْمِيْهُم بثغرةِ نَحْرِهِ ... و لبِانِه حتّى تَسَرْبَلَ بالدمِ
فازورَّ من وقعِ القنا بلبانِه ... و شكَا إليَّ بعبرةٍ و تَحَمْحُمِ
شرح معلقة عنترة بن شداد
يبدأ عنترة معلقته بالتساؤل عما لم يصفه الشعراء في قصائدهم، ثم عن أهل الديار أين رحلوا، ويلقي سلامه على دار محبوبته، ثم ينتقل، ليصف ناقته مشبهاً إياها كقصرٍ في العظمة والضخامة.
وبعدها ينتقل ليدعو عبلة كي تسأل عن فعاله في ساحات المعارك ويخبرها أنه لا يخشى أعتى الفرسان في حين غيره يخافهم، كما أنه كريم النفس مترفعٌ عن الغنائم، ولا ينسى عنترة جواده الذي يشكل جزءاً من روحه ويشعر بما يشعر به صاحبه ويحزن لحزنه، فيرفعه إلى قائمة البشر ويعامله كإنسان، وهو ما لم يسبقه شاعرٌ جاهليٌّ إليه في وصف الراحلة من حصانٍ أو ناقة...الخ.
معلقة الحارث بن حلزة الفطن الذي غلب عمرو بن كلثوم
هو الحارث بن حلّزة بن مكروه بن يزيد بن عبد الله بن مالك من قبيلة بكر بن وائل، كان شاعراً فطناً، يلجأ إليه قومه في كل أمر ليرشدهم وينصحهم، ومن ذلك عندما دافع عن قضيتهم أمام التغلبيين في قصر عمرو بن هند واستطاع أن يتغلب على عمرو بن كلثوم في كسب ود الملك.
معلقة الحارث أزاحت الستور السبع
كان سائداً قديماً لدى الملوك، أنه إذا وقف بين أيديهم شخصٌ أبرص يضعون بينه وينهم سبعة ستور، وهو ما حصل مع الشاعر الحارث بن حلزة عندما مثل قومه البكريين أمام الملك عمرو بن هند، إذ كان أبرصاً، فأمر ابن هند أن يقف خلف سبعة ستور ويقول قصيدته.
وعندما بدأ بقولها، أثارت كلماته إعجاب والدة عمرو، فبدأ يزيل الستور عنه واحداً تلو الآخر حتى ظهر الحارث، فأدناه الملك من مائدته وأطعمه منها إعجاباً بفصاحته وبلاغة كلامه وتصويره، فكان من النادر أن يقرب الملك أحداً أبرصاً إليه، باستثناء الحارث، فكان لإعجاب بن هند بشعره سبباً لينتصر لقضية قومه، ما أغضب عمرو بن كلثوم كما ذكرنا سابقاً.
أبيات من معلقة الحارث بن حلزة
آذَنَتْنا ببَيْنهِا أَسْمَــاءُ ... ربَّ ثَـاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ اُلْثَّوَاءُ
بَعْدَ عَهْدٍ لَنَـا بِبُرْقَةِ شَمّــاءَ ... فَأَدْنَى دِيَــارِهَا اٌلْخَلْصاءُ
فَالُمحَيَّاةُ فالصِّفـاحُ فَأَعْنـاقُ ... فِتَـاقٍ فَعادِبٌ فَالْوَفَاءُ
فَرِيــاضُ اُلْقَطَا فأوْدِيَةُ الشُّرْ ... بُبِ فالشُّعْبَتَـانِ فالأَبْــلاءُ
لا أرى مَنْ عَهِدْتُ فيهَـا فأبكي ... اٌلْيَوْمَ دَلْهاً وَمَا يُحِيرُ اُلْبُكَاء
وَبِعَيْنَيْكَ أَوْقَدَتْ هِنْدٌ اُلْنَّــارَ ... أَخِيراً تُلْوِي بِها اُلْعَلْيَـاءُ
شرح معلقة الحارث بن حلزة
يصف الشاعر حارث بن حلزة حاله بعد هجر المحبوبة للديار، وما يكنه لها من محبة، فإذا ملَّ كلَّ النّاس لا يمل محبوبته، وكل الأماكن التي عهد بها لقاء محبوبته أصبحت خاوية لا يجد فيها من يحب، فيبكي شوقاً وصبابةً، ولا يتبقى له إلا الذكريات في كل مكان مرت به محبوبته.
في الختام يمكن قراءة ملامح حياةٍ وأعرافٍ لأقوامٍ بأكملها، كما يمكن قراءة جغرافيا المكان الذي كان يحيا به أولئك الشعراء، إذ إن شعراء المعلقات اتبعوا أسلوباً موحداً في بنية القصيدة، يبدأ بالوقفة على الأطلال والحنين إلى الأحبة، وذكر الأماكن التي مروا بها، ومن ثم الدخول بالغرض الرئيسي التي قال لأجلها قصيدته، وكانت تلك القصائد أعين الشعر الذي قيل في زمن العصر الجاهلي، فنال ما ناله من اهتمامٍ وحفظٍ وتخليد.