الفنانة ناهدة الحاج: حلمٌ يقهر الإعاقة: وينتصر!
أخذت العزيمة بيد حلمها بأن تصبح فنانة تشكيلية، أطلقت العنان لشغفها بالخطوط والألوان. بالإرادة والأمل حوّلت الحاج إعاقتها إلى طاقة خلاقة الإنجاز لتثبت أن الإعاقة، مهما كان نوعها، لا تكبّل فكراً ولا تحد إبداعا.
بنظرة لمّاحة، ما أضاع عناء الإعاقة بريقها، استرجعت ناهدة الحاج في حديث لـ DW عربية مشاهد ذاكرتها الأولى. في إفريقيا أمضت سنوات الطفولة والصبا. التهاب دماغي خطير، علاج طبي خاطئ، فمضاعفة دوائية ضارة أوصلوا طفلة الشهور الثلاثة الى حتمية الشلل النصفي. "تعايشت والإعاقة بل هزمتها. حققت المعادلة الصعبة وتلقيت علومي رغم حاجتي الخاصة"، كما تقول ناهدة وتضيف: "لم يكن لدي أصدقاء كسائر الأطفال فكان الرسم رفيقي. لطالما عجزت عن إيصال فكرة أو وصف إحساس، فأعانتني ريشتي وعبّرت ألواني".
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
منحتها الطبيعة متعة الغوص في تجليات الضوء والتحولات اللونية حيث نقاء الرؤية وعمق المغزى، فاختزنت جعبتها المشهدية لغة حديثة النبض كلاسيكية الأناقة. تقول الحاج: "أعطيت الإحساس في لوحاتي دور البطولة وغذّيته بمزيج من الوعي والحلم والذاكرة. أسعى إلى ترك بصمة تشكيلية متأثرة بالعديد من الثقافات والمدارس. فبين التقنية والأسلوب عملية استكماليه والمشهد يختار لنفسه كيف يتجلّى؛ كذلك الفكرة والشعور".
-
حلم... ووطن
سنوات طويلة قضتها ناهدة الحاج بعيداً عن وطنها الأم لبنان. وما زادتها الغربة إلا إيماناً بقدرتها على خوض غمار التحدي وتحقيق ما حلمت به منذ نعومة أظافرها. في حديثها لـ DW عربية تستعيد بعضا من ماضيها قائلة: "منذ صغري ما راودني سوى حلم العودة إلى وطني فنانةً تشكيلية لا توفر جهداً في سبيل تغيير ذهنية الناس القاصرة ونظرتهم الرعوية تجاه ذوي الاحتياجات الخاصة؛ ظناً منهم بأننا عاجزون عن الوقوف على قدم التساوي مع سائر الأفراد الأصحاء".
أطلقت الإرادة صرخة مدوية خرقت صمت هذه الشابة فانتصرت على كل خوف قد يعيق طريقها. ما ادخرت وسعاً لتجعل ما حلمت به حقيقة. عادت إلى وطنها متمسكة بالطموح مفعمة بالحياة والحماسة، بحثت عن مكان لها بشغف الفنانة وعناد المتحدية وبهاجس إنساني عميق يؤمن بحق ذوي الاحتياجات الخاصة في تعزيز حضورهم أينما وجدوا. وتتابع حديثها لتؤكد: "لم تكن الشهرة يوماً هدفي وما وصلت إلى ما أنا عليه اليوم لولا ثقتي بذاتي وإيماني بموهبتي وقدرتي على التغيير. وسعياً إلى إعلاء شأن كل ذي حاجة خاصة ودعم الحراك الفني التشكيلي في لبنان، أسست منظمة Community Of Lebanese Artists لنمد يد العون لجمعيات إنسانية تعالج مرضى السرطان وترعى الأيتام والمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة. وكل ما أقوم به من نشاطات ليست سوى مفاتيح لمشروع إنساني ضخم أنا بصدد التحضير له على أمل أن يساهم في تغيير حياة الكثيرين".
ما تطمح إلى تحقيقه ناهدة الحاج في بلدها، كما تقول لـ DW عربية، ليس حدثاً ثقافياً فحسب بل ثورة فنية اجتماعية وثقافية معتصرة كل فرصة متاحة أمامها لتنتصر على سائدٍ لطالما أحزنها؛ فكان معرض Artistes En Vocation خطوتها الأولى. معرض فني تشكيلي يجمع خمسة عشر فناناً تشكيلياً بينهم ستة من ذوي الاحتياجات الخاصة يتوزعون على أنماط إبداعية واتجاهات فنية متنوعة. جَمَعَهم الهدف الإنساني كما الإبداع؛ راهنوا على الثقافة وكان لا بد من كسب الرهان. عشرون بالمئة من مبيعات اللوحات خصصت لمساعدة جمعية Step Together التي تقدم الرعاية اللازمة لذوي الاحتياجات الخاصة عقلياً وجسدياً وترحب بالمرضى من عمر ثلاث سنوات إلى خمسين عاما.
من رحم الإعاقة رفضت اليأس
نماذج لا تحصى من ذوي الاحتياجات الخاصة لعبت أدواراً مكمِّلة في عملية التنمية فأثبتت قدرتها على الانخراط في ميادين العمل والإنتاج. "يجب ألاّ يختلف اثنان على حق ذوي الاحتياجات الخاصة في الحياة والعمل. فالصداقة والنجاح كما الإبداع والعطاء ليسوا حكراً على الأصحاء جسدياً. يمكننا إحداث التغيير واقناع الناس بقدراتنا وطاقاتنا في حال توفر النهج التوعوي اللازم لذلك"، حسب ما تقول ناهدة الحاج. وعندما تكون الإعاقة حافزاً على الإبداع ينصهر الحلم بالعزم ويبنيان معاً فضاءات جمالية تعكس مشاعر وصراعات داخلية من جهة وتواكب الحركة التشكيلية وتساهم في إغنائها من جهة أخرى. عن ذلك تقول ناهدة: "الفنون على اختلاف مشاربها هي ترجمة حقيقية لإحساس معين وتجسيد صادق لتجربة وفكرة ومبدأ".
وتضرب ناهدة مثالا بزميلة قهرت الصعاب، لتقول: "حين ننظر إلى ماري الخوري كيف ترسم بواسطة مسند ونتأمل رسوماتها المفعمة بالعاطفة والشفافية والفرح يدهشنا تصالحها مع الحياة؛ وحتماً لولا إرادتها الصلبة لما تخطّت آلامها وحلقت في مدى الفن التشكيلي نحو اللامدى".
ولدت قوة ماري الخوري من رحم الإعاقة. رفضت بإصرار كل أشكال اليأس والضعف والاستسلام لتعلن على الملأ حبّها للحياة واصرارها على الفرح والإبداع والنجاح. هي فنانة تشكيلية تعاني شللاً رباعياً جراء إصابة بليغة تعرضّت لها خلال الحرب اللبنانية عام 1982 وكادت أن تودي بحياتها، لكنها لم تقضي على موهبتها ونضال ريشتها. "لم أسلم من وحشية الحرب، أُصبت فشُلّت حركتي كلياً وما زادتني الشدائد إلاّ إيماناً بذاتي وإصراراً على استكمال مسيرتي، كما تقول الخوري لـ DW عربية.
وتضيف الخوري بواسطة مسند ذراعي يثبت في يدي رحت أتمرن على كتابة إسمي وحين عاندتني الحروف توجهت نحو الرسم مستخدمة تقنية التنقيط في البداية إلى أن تمكنت بالتمرين المتواصل من تطويع حركة يدي فرسمت لوحات مائية تحاكي الطبيعة بكل عناصرها وألوانها".
الطموح لا يعترف بالمستحيل والإعاقة ليست سوى إعاقة الفكر والروح والعزيمة. "آمنت بمبادرة ناهدة الحاج وحلمها. شاركت في معرض ... علنا نحوّل الصعب إلى ممكن ونشق في وعورة الحياة دروباً مشرقة تمنح ذوي الاحتياجات الخاصة ما يليق بقدراتهم وتنسيهم واقعاً أُثقل بالألم والمعاناة"، تقول ماري الخوري.
...بضئيل من السنوات ترسّخ إيمان ناهدة الحاج بنفسها وموهبتها. فنانة شابة متأهبة الحواس، دائمة الابتسامة، لهثت خلف حلمها وإذ بها تلقى ترحيب الفنانين ودعم الجمهور على امتداد لبنان؛ علّ مبادرتها الفردية تحوز اهتمام الجهات الرسمية القاصرة حتى الآن تجاه الفنانين التشكيليين سواء كانوا أصحاء جسدياً أو من ذوي الاحتياجات الخاصة، كما تقول ناهدة الحاج ويتفق معها في الرأي العديد من الفنانين.
خلدون زين الدين
ـ بيروت