الطغرائي.. مبدع لامية العجم الذي جمع بين الشعر والكيمياء
الطغرائي، هو اسم لامع لرجل نجح في أن يجمع بين الموهبة الشعرية الصارخة، وبين المكانة العلمية الواضحة، ليصبح الشاعر الكيميائي الذي لا يزال في ذاكرة المؤرخين رغم رحيله منذ نحو 900 سنة.
حياة الطغرائي
ولد الطغرائي أو العميد فخر الكتاب مؤيد الدين أبو إسماعيل الحسين بن علي، في مدينة أصفهان التابعة الآن إلى إيران، ذلك في سنة 455 هـ التي توافق عام 1061م، فيما لقب بالطغرائي نسبة للطغرى، وهي تلك الكلمة أعجمية الأصل والتي تشير إلى الطرة أو الزخرفة المكتوبة بالقلم الغليظ أعلى البسملة.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
نشأ الطغرائي وسط أسرته عربية الأصل، التي ينحدر منها أيضا أبو الأسود الدؤلي واضع علم النحو، والذي يعد الطغرائي أحد أحفاده، قبل أن ينتقل للعمل في مدينة أربيل التابعة الآن إلى العراق.
تميز الطغرائي منذ الصغر بالطموح الشديد، وهو الأمر الذي كان مدعوما بتعدد مواهبه وبوفرة إمكانياته، إذ بدا مولعا بالأدب والشعر، ومهتما بالعلم والكيمياء، إضافة إلى أنه كان مهتما بتولي الوظائف لذا تدرج في المناصب الرفيعة، حتى وصل إلى تولي الوزارة في الدولة الأيوبية.
الطغرائي الكيميائي
اشتهر الطغرائي بفضل مكانته العلمية المتفردة في عصره بلقب الأستاذ، حيث تمثل هدفه دائما في محاولة التوصل لأسرار هذا العلم الوفير، فيما سعى كثيرا إلى تحويل الفلزات الرخيصة مثل الرصاص والنحاس إلى ذهب وفضة.
يملك الطغرائي سجلا من المؤلفات العلمية المميزة، حيث ألف كتاب جامع الأسرار وتركيب الأنوار في الإكسير، وكتاب مفتاح الرحمة ومصابيح الحكمة في الكيمياء، إضافة إلى كتاب حقائق الاستشهادات في الكيمياء، وكتاب الرد على ابن سينا في الكيمياء.
الشاعر الطغرائي
أما على صعيد الأدب، فقد برع الطغرائي بدرجة جعلته من سادة هذا المجال في عصره، وهو الأمر المنطقي بالنظر إلى أشعار هذا الرجل، والتي تميزت بالعذوبة والرقة والإبداع في جميع الجوانب.
كذلك كان الطغرائي يتجنب ذكر الكلمات العجيبة والألفاظ الوحشية، لذا جاءت شهرة أشعاره بين العامة، حيث كان البعض يرددها لسهولة كلماتها وعمق معانيها، ومن بينها قصيدة تجربة المرء عن يقين التي يقول فيها:
تجربة المرء عن يقين
عون على أمره كبير
ومن يجرب بغير علم
ولا نصيح له مشير
فقد غدا في الطريق يمشي
لا هو أعمى ولا بصير
فأحكم العلم ثم جرب
فإنما يفلح الخبير
كما قال الطغرائي في قصيدة أقول لصاحبي:
أقول لصاحبي ما الرأي فيما
أَبثُّكَ فابذُلِ النصحَ الصريحا
أراني بائعا قلبي بقلب
ومن ذا يشتري القلب القريحا
فإن يكسد علي ولم أبعه
رميت به عسى أن أستريحا
لامية العجم
تعتبر لامية العجم هي القصيدة الأكثر شهرة للطغرائي، نظرا لأنها حملت مشاعر الأسى التي عايشها الشاعر الكبير أثناء تواجده في بغداد، حيث عانى حينها من ضيق الحال، بدرجة دفعته إلى كتابة تلك القصيدة.
أطلق الطغرائي اسم لامية العجم على قصيدته، نظرا لأنها تعد الرد على قصيدة لامية العرب، التي كتبها الشاعر الجاهلي الشنفري من قبل، فيما حازت القصيدة إعجاب المؤرخين الذين قاموا بتحليلها ووصفها، مثلما فعل أبو البقاء الرندي على سبيل المثال لا الحصر، علاوة على اهتمام المستشرقين بتلك القصيدة وترجمتها إلى لغات أجنبية متعددة باعتبارها نموذجا لشعر تلك الحقبة الزمنية.
يقول الطغرائي في لامية العجم:
أصالة الرأي صانتني عن الخطل
وحلية الفضل زانتني لدى العطل
مجدي أخيرا ومجدي أولا شرع
والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل
فيم الإقامة بالزوراء لا سكني بها
لا ناقتي فيها ولا جملي
ناء عن الأهل صفر الكف منفرد
كالسيف عري متناه عن الخلل
فلا صديق إليه مشتكى حزني
ولا أنيس إليه منتهى جذلي
مقتل الطغرائي
لم تسر الأوضاع السياسية بهدوء في بدايات القرن الـ6 الهجري، حيث اشتعلت الخلافات بين السلطان مسعود السلجوقي وشقيقه محمود، بعد أن أراد كل منهما تولي الحكم، لذا فمع نجاح محمود في الوصول لهدفه، قام بوضع أتباع مسعود كافة في الأسر، ومن بينهم الطغرائي.
لم يكن السلطان الجديد قادرا على الفتك بالطغرائي كما يريد، نظرا لما تمتع به من شعبية جارفة، كشاعر كبير وكيميائي مخضرم، لذا نشر عنه الأخبار التي تؤكد كونه ملحدا وفاسدا، لتكون الحجة من أجل قتله، ما حدث فعليا في عام 513 هـ.
رحل الطغرائي عن عالمنا عن عمر يقترب من الـ60، ليبقى في التاريخ كرمز لرجل جمع بين الإبداع الفني والنجاح العلمي والعملي، بفضل ما تمتع به من موهبة وذكاء وإخلاص ليس له مثيل.