الشاعر الصوفي الحلَّاج
تطور الجدل الفلسفي في أوائل دولة الإسلام، حول المواضيع الدينية، والحدود الشرعية، كما برز ما عُرف بعلْمِ الكلام، أو الفلسفة الإسلامية، التي اشتغل بها عدة من كبار المفكرين الإسلامين.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
كالمعتزلة، والأشعرية، لكن بالتوازي، برزت الصوفية كمذهب فلسفي آخر، يتناول العلاقة مع الله عزَّ وجلَّ من وجهة نظر مختلفة.
حيث تعتبر قصائد الصوفية أبرز آثارهم، إضافة إلى حوادثهم، وأخبارهم، ومن رواد الصوفية، المتصوف والشاعر الحسين بن منصور، المُلقب بالحلَّاج.
من هو الحلَّاج؟
هو أبو المغيث، الحسين بن منصور، الملقب بالحلَّاج، ولد في بلدة البيضاء، من بلاد فارس، حوالي عام 858م/244ه.
ثم جاء والده إلى العراق، إلى مدينة واسط قرب بغداد، في العهد العباسي أواخر القرن الثالث الهجري، حيث كان والده يعمل في حلج القطن، فعرف بالحلَّاج، وعنه أخذها ابنه.
ونشأ الحلاج في العراق، ثم تنقل بين عدة مدن، وولايات، منها الهند، وقضى فترات في مكَّة، معتزلاً في الحرم المكي.
حيث عرفه الناس، أنه إذا جلس، لا يغير جلسته، أو موقعه، في الليل، أو في النهار، في الحر، والبرد، كما عُرف بقلة طعامه، وزهده في كل شيء، وكان له مريدون يتبعونه، يحفظون عنه.
عاد الحلَّاج إلى العراق أخيراً، بعد أن ذاع صيته، كواحد من كبار المتصوفة، حيث انتشرت أفكاره، الداعية للبحث في خفايا النصوص الدينية، حاله حال الصوفية.
لكنه اصطدم بأحد المشايخ المتمسكين بالنقل، والنص، هو الجنيد البغدادي، الذي لم يكن راضياً عن فكر الحلَّاج، وفلسفته،.
فكان أن قال له ذات جدال: "أي خشبةٍ ستفسدها"، كناية عن خشب الصليب، لكن الجنيد، مات قبل أن يشهد نبوءته قد تحققت بصلب الحلَّاج.
خلاف الحلَّاج مع الدولة
لم تكن لغة الحلَّاج مألوفة للأكثرية في الدولة العباسية، كما لم تكن مستساغة من العامة، بل كانوا ينظرون له باستغراب، حيث كان يتصرف تصرفاتٍ غريبة، كاشتهائه الموت، فيمشي في السوق، ممزقاً ثيابه، صارخاً في الناس:
"يا أيها الناس، اعلموا أن الله قد أباح لكم دمي، فاقتلوني، اقتلوني تؤجروا، وأستريح، اقتلوني، فتُكتبون عند الله مجاهدين، وأُكتب أنا شهيداً"
"يا أهل الإسلام أغيثوني، فليس يتركني لنفسي فأهنأ بها، وليس يأخذني بها فأستريح، وهذا دلال لا أطيقه"
أو قوله شعراً:
اقتلوني يا ثقاتي إنَّ في قتلي حياتي
وحياتي في مماتي ومماتي في حياتي
كما يعتبر الحلَّاج، من الصوفية الذين اعتقدوا بإمكانية الوصول إلى اتحاد بين الذات الإنسانية، والذات الإلهية، أو ما عُرف بالإحلال.
فكان في هذا الرأي جدلٌ كثير، واتهاماتٌ عديدة، ومحاكمات كثيرة، فيقول الحلَّاج:
"لا أرى شيئاً إلا أرى الله فيه"
لكنَّه يفسر كلامه، بأعقدَ منه، فيقول:
"النقطة أصل كلِّ خط، والخط كلُّه نقطٌ مجتمعة؛ فلا غنى للخط عن النقطة، ولا للنقطة عن الخط.، وكلُّ خطٍ مستقيم أو منحرف، هو متحركٌ عن النقطة بعينها، وكلُّ ما يقع عليه بصر أحد؛ فهو نقطة بين نقطتين، وهذا دليل على تجلّي الحق من كلِّ ما يُشاهد، وترائيه عن كلِّ ما يُعاين، ومن هذا قلتُ: ما رأيت شيئاً إلاّ رأيت الله فيه"
في المحصلة؛ لم تكن دولة الخلافة العباسية، راضيةً عن آراء الحلَّاج، أو عن تصرفاته، فبدأت هذه الخلافات تتسع، بين القضاة، والفقهاء من جهة، وبين الشاعر والمتصوف من جهة ثانية.
إلى أن وصل المطاف إلى محاكمته، خاصة وأن الحكم العباسي، كان متوتراً في تلك المرحلة، يعاني من عدة اضطرابات، وحركات تمرد، مثل القرامطة.
إضافة إلى صعود الدولة الفاطمية، أما الحلاج، فكان أول الأمر أنه صلب حياً عام301هـ، ثم سجن، وتنقل بين سجن، وآخر، لتكون لاحقاً محاكمته الأخيرة، وقتله.
محاكمة الحلَّاج
تعرض الحلَّاج للمحاكمة، بتهمة الزندقة، والكفر، حيث جادله الفقهاء، والقضاة في آرائه، حتى وصل أمره، إلى يد الخليفة المقتدر بالله، عن طريق وزيره حامد بن العباس.
فوافق الخليفة على إهدار دمه، وصادق على حكم إعدامه، فتم إعدامه بطريقةٍ دموية، حيث أراد وزير الخليفة، أن يجعل منه عبرةً، لكل الصوفيين، إضافة إلى المتدخلين بشؤون الخلافة.
كما يبدو أن أمراً شخصياً بينهما، حيث كان الوزير، هو المسؤول الأول عن محاكمة الحلَّاج الشكلية، كما اقتاده إلى منزله آخر أيام سجنه.
اقتيد الحلاج إلى ساحة الإعدام، في بغداد، باب خراسان، فلكمه السياف أبو الحارث، بقبضةٍ قوية، أوقعته أرضاً، وهشمت وجهه، ثم جلدوه ألف جلدة، كما جاء في الحكم.
فلما لم يمت، قطعوا رجله، فيده، ثم يده الثانية، ورجله، ثم دقوا عنقه، وأحرقوا جسده، كما رموا رماده في دجلة، وعلقوا رأسه على سور السجن، وكان ذلك سنة 309هـ.
كما قيل أنه لم يتألم، ولم يصرخ، بل توضأ بدمه، لما قطعوا أطرافه، فسألوه عما يفعل، وأجابهم:
"ركعتان في العشق، لا يجوز وضوؤهما إلا بالدم".
كما لاحق الوزير حامد أتباع الحلاج، وأصدقاءه، فمن لم يعد عن مذهب الحلاج، دقَّ عنقه، وقد ذكرت هذه التفاصيل، في الكامل لابن أثير، وتاريخ مختصر الدول لابن العبري، والتنبيه والإشراف للمسعودي، والمنتظم لابن الجوزي.
شعر الحلَّاج في العشق الإلهي
للحلاج قصائد كثيرة، أغلبها في العشق الإلهي، والتصوف، كما للغته مميزات خاصة، تتسق مع لغة الصوفية، عند اللاحقين، كابن الفارض، والجيلاني، من حيث التعبير الرقيق، وتمجيد الآلام في سبيل العشق الكبير.
كما عبر في شعره، عن فلسفته الوجودية، أنَّ الله في كل مكان:
وأيّ أرض تخلو منك حتّى تعالوا يطلبونك في السمـاء
تراهم ينظرون إليك جهـراً وهم لا يبصرون من العماء
من جهة ثانية، تعتبر قصائد الحلَّاج، من القصائد التي تُطرب سامعها، حاله حال أغلب شعراء الصوفية، ما حدى بالكثيرين من أهل الإنشاد الصوفي، إلى استخدام كلماته.
كما لجأ لها كبار الملحنين، أمثال مارسيل خليفة، في قصيدة (يا نسيم الريح)، والموسيقار المصري عمر خيرت، في قصيدة (والله ما طلعت شمس ولا غربت).
كما ألهم الحلَّاج الكثيرين، من شعره، وحياته، منهم الكاتب صلاح عبد الصبور، في مسرحيته مأساة الحلَّاج، والمستشرق الفرنسي لويس ماسنيون (Louis Massignon)، مؤلف كتاب آلام الحلَّاج، فضلاً عن استخدام قصته المؤلمة، في الاستعارة الشعرية، والأدبية.
أجمل قصائد الحلَّاج
يقول الحلَّاج، في القصيد التي لحَّنها عمر خيرت، كمقدمة لمسلسل الخواجة عبد القادر، منذ بضع سنوات:
واللهِ ما طَلعتْ شمسٌ ولا غربتْ إلا و حُبُّـكَ مقـرونٌ بأنفاسـي
ولا خَلوتُ إلى قومٍ أحدِّثهــم إلا و أنتَ حديثي بينَ جُلاســي
ولا ذكرتُكَ محزوناً و لا فَرِحاً إلا و أنتَ بقلبي بينَ وسواســـي
ولا هَممتُ بشربِ الماء من عطشٍ إلا رَأَيْتُ خيالاً مِنكَ في الكـــأس
ولو قَدرتُ على الإتيان جئتـُكم سعياً على الوجهِ أو مشياً على الرأس
ما لي وللناسِ كَمْ يلحونني سفهاً ديني لنفسي ودينُ الناسِ للناسِ
ومن أبياته أيضاً:
قلوبُ العاشقينَ لها عيونٌ تَرى ما لا يَراهُ الناظرونَ
وألسنةٌ بأسرارٍ تُناجي تغيبُ عن الكرامِ الكاتبينَ
وأجنحةٌ تطيرُ بغيرِ ريشٍ إلى ملكوتِ ربِّ العالمينَ
وتَرْتَعُ في رياضِ القُدسِ طوراً وتشرَبُ من بحارِ العارفينَ
فأورَثَنا الشّرابُ علومَ غيبٍ تشِفُّ على علومِ الأقدمينَ
شواهِدُها عليها ناطقاتٌ تُبَطّلُ كلّ دعوى المُدّعينَ
عبادٌ أخلصوا في السرِّ حَتّى دَنوا مِنهُ وصاروا واصلينَ
وبلغ الحلَّاج من شوقه حد الابتلاء، فيناجي قائلاً:
لبيكَ لبيكَ يا سرّي ونَجْوائي لبيكَ لبيكَ يا قَصْدي ومعنائي
أدعوكَ بل أنتَ تدعوني إليكَ فَهلْ ناجيتُ إياكَ أم ناجيتَ إيائي
يا عينَ عينِ وجودي يا مَدى هَمَمي يا مَنطِقي وعِباراتي وإيمائي
يا كلَّ كلّي ويا سمعي ويا بصري يا جملتي وتباعيضي وأجزائي
يا من به كلِفتْ نفسي فقد تلفتْ وجداً فصرتُ رهيناً تحتَ أهوائي
أبكي على شجني من فرقتي وطني طوعاً ويسعدني بالنوح أعدائي
أدنو فيبعدني خوفي فيقلقني شوقٌ تمكـّنَ في مكنون أحشائي
فكيف أصنعُ في حبٍ كلفتُ بهِ مولايَ قد ملَّ من سُقمي أطبائي
قالوا تداوَ به منه فقلتُ لهم يا قوم هل يتداوى الداءُ بالداءِ
حبي لمولايَ أضناني وأسقمني فكيف أشكو إلى مولايَ مولائي؟
إني لأرمقهُ والقلبُ يعرفهُ فما يترجمُ عنه غيرُ إيمائي
يا ويحَ روحي من روحي فوا أسفي عليَّ مني فإني أصل بلوائي
كأنني غرِقٌ تبدو أناملهُ تغوّثاً وهو في بحرٍ من الماءِ
وليس يعلمُ ما لاقيتُ من أحدٍ إلا الذي حلَّ مني في سويدائي
هو العليمُ بما لاقيتُ من دَنفٍ وفي مشيئتهِ موتي وإحيائي
أما الأبيات الشهيرة، التي لحنها وغناها مارسيل خليفة:
يا نسيم الريح قولي للرشا لم يزدني الوِردُ إلا عطشا
لي حبيبٌ حبّهُ وسطَ الحشا لو يشا يمشي على خَدي مشى
ومن أجمل أبيات الحلَّاج، ما قاله في قصيدته هذه:
عَجِبْتُ منكَ ومنّي يا مُنيَةَ المُتمَنّي
أدنَيْتَني منكَ حتى ظَنَنْتُ أنَّك أنّي
وغبتُ في الوجدِ حتى أفْنَيْتَني بِكَ عنّي
يا نِعمَتي في حياتي وراحَتي بعدَ دَفْني
مالي بغيرِكَ أُنسٌ إذ كُنتَ خوفي وأَمْني
يا مَن رياضُ معانيهِ قد حَوتْ كلَّ فَنِّ
وإن تَمنَّيْتُ شيئاً فأنتَ كلُّ التَّمَني
كذلك قوله:
إذا ذَكرتكَ كاد الشوقُ يُقلقني وغفَلتي عنكَ أحزانٌ وأوجاعُ
وصارَ كلّي قلوباً فيكَ واعيةً للسُقمِ فيها وللآلام إسراعُ
فإن نطقتُ فكلّي فيكَ ألسنةٌ وإن سمعتُ فكلّي فيكَ أسماعُ
هو القائل: القلب الذي يعرف الحب لا يموت أبداً
- علامة العارف أن يكون فارغ من الدنيا والآخرة.
- لا يجوز لمن يريد غير الله، أو يذكر غير الله، أن يقول عرفتُ الله، ومن عبَّد الله لنفسه؛ فإنما يعبد نفسَه، ومن استصحب كلَّ نسكٍ في الدنيا، والآخرة، وهو جاهل، لا يقرب من الله أبداً.
- من سلَّم إلى الله أمره، صنع به، وصنع له، ومن وجد الله، لم يجد معه غيره، ومن طلب رضاه، حباه الله بالمكنون من سرّه.
- التوبة مما لا تعلم، تبعثك على التوبة مما تعلم، والشكر على ما لا تعلم، يبعثك على الشكر على ما لا تعلم، لأنه حرامٌ على العبد الحركة والسكون إلا بأمر يؤديه إلى أمر الله.
- من عرف من أين جاء، عرف إلى أين ذهب، ومن علِم ما يراد منه، علِم ما له، ومن علِم ما عليه، علِم ما معه.
- كما سُمع الحلَّاج عند المقابر يقول: يا من أسكرني بحبه، وحيرني في ميادين قربه، أنتَ المنفرد في القدم، والمتوحد بالقيام على مقعد الصدق، قيامكَ بالعدل لا بالاعتدال، وبُعدكَ بالعزل، لا بالاعتزال، وحضورك بالعِلْمِ، لا بالانتقال، وغيبتك بالاحتجاب، لا بالارتجال، فلا شيء فوقكَ فيظلك، ولا شيء تحتك فيقلك، ولا أمامك شيء فيحدك، ولا وراءك شيء فيدركك، أسألكَ بحرمة هذه التُرب المقلوبة، والمراتب المسؤولة، ألا تردني إلي بعد أن اختطفتني مني، ولا تريني نفسي بعد أن احتجبتها عني، وأكثر أعدائي في بلادك، والقائمين لقتلي من عبادك.
أخيراً... الحلَّاج من الشخصيات الدينية المختلف عليها، فهناك بعض الباحثين في التاريخ والدين يرون أنه رجل متصوف، وشيخ جليل، بل ولياً من أولياء الله الصالحين.
سماه البعض شهيد التصوف، كما سماه آخرون مسيح الإسلام، ومن بين المعجبين به، الصوفي عبد القادر الجيلاني.
لكن فريقاً عريضاً في الضفة المقابلة، برى أن الحلَّاج زنديق، كافر، هرطق على الدين، وتجرأ على الذات الإلهية، فقال أنها حلت فيه، كأنه بذلك يدَّعي النبوة، ومن بينهم العلامة المؤرخ شمس الدين الذهبي، القرن الثامن الهجري.
أما في يومنا هذا، تبقى آثار الحلَّاج الشِعرية، تثير في الناس طرباً، قل نظيره.