السلطان العثماني محمد الفاتح
سعى محمد الفاتح لمتابعة مسيرة أجداده في التوسع في القارات الثلاث سعياً لفرض الهيمنة على العالم، وهو ما تحقق له حيث فتح العديد من المناطق، وأصبح اسمه محفوراً في التاريخ العالمي سواء كان كاتبوا هذا التاريخ من المعجبين بالسلطان وبدوره أو من المنتقدين... فماذا كتب التاريخ عن هذا السلطان؟ كيف نشأ وأين تربى؟ متى حكم؟ ما هي حملاته العسكرية؟ كيف توفي؟ كل هذا سنجيب عنه في هذه المقالة.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
طفولة محمد الفاتح وأسرته
محمد الثاني بن مراد الثاني بن محمد الأول بن بيازيد الأول بن أورخان بن عثمان بن أرطغرل (عثمان بن أرطغرل مؤسس السلطنة العثمانية التي تحمل اسمه)، ولد في مدينة أدرنه التركية (عاصمة السلطنة العثمانية آنذاك) في الثلاثين من شهر آذار/ مارس عام 1432، والده السلطان مراد الثاني (من مواليد عام 1404، توفي في عام 1451)، والدته السلطانة خديجة.
تعلم محمد الفاتح ركوب الخيل، واستخدام القوس، والمبارزة من والده السلطان مراد الثاني، وعندما بلغ الأمير محمد الثاني سن الحادية عشر أي في عام 1443 أرسله والده إلى ولاية أماسيا ليحكمها، وفق ما كان متعارف عليه، مرسلاً معه عدداً من المعلمين لتعليمه الدين والفلسفة واللغات، ومن أبرز هؤلاء المعلمين الشيخ أحمد بن إسماعيل الكوراني، الذي ختم على يده الأمير محمد الثاني القرآن الكريم.
أتقن الأمير محمد الثاني اللغات التالية: (الصربية، العربية، الفارسية، اليونانية، الإيطالية)، كما كان يهتم بالفنون فكان شاعراً يكتب باسم مستعار (عوني)، وكان له ديوان شعر عنوانه (ديوان الفاتح) نشر في عام 1944، إضافة إلى كونه رساماً ويعزف الآلات الموسيقية.
الأمير محمد الثاني يصبح السلطان بعد تنازل والده عن العرش
وقع السلطان العثماني مراد الثاني صلحاً مع إمارة قرمان في الأناضول في الثالث عشر من شهر تموز/ يوليو عام 1444، وبعد وفاة ابنه علاء الدين تنازل السلطان مراد الثاني عن العرش لابنه محمد الثاني، حيث تعرضت السلطنة لهجوم من المجر فطلب السلطان محمد الثاني من والده قيادة الجيش لكنه رفض.
فأرسله له رسالة قال فيها: "إذا كنتَ أنت السلطان، فقد جيوشك بنفسك، وإن كنتُ أنا السلطان فآمرك بقيادة الجيش"، فوافق مراد الثاني على قيادة الجيش العثماني في الحرب مع المجر وتمكن من الانتصار عليهم في معركة فارنا في عام 1444، ثم عاد لتولي عرش السلطنة، وبعد استقرار الأوضاع عاد وتنازل عن العرش لابنه الأمير محمد الثاني لكن الانكشاريين (اسم الجيش العثماني في تلك الفترة) ثاروا على السلطان الجديد؛ فعاد السلطان مراد لتولي العرش من جديد وقمع التمرد وذلك في عام 1450.
وأصبح ابنه الأمير محمد الثاني والي مانيسا (من يتولى عرش مانيسا يصبح السلطان المقبل للسلطنة العثمانية)، وبقي فيها حتى وفاة والده السلطان مراد الثاني في السابع من شهر شباط/ فبراير عام 1451، حيث تولى عرش السلطنة من جديد.
إستلام محمد الفاتح الحكم ومواصلة فتوحاته
خلال حكم والده السلطنة العثمانية تمكن من السيطرة على آسيا الصغرى، شبه جزيرة اليونان، وفرض على الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الحادي عشر دفع الجزية حيث لم يبقَ للإمبراطور من إمبراطوريته سوى القسطنطينية ومحيطها.
بدأ السلطان محمد الثاني الحكم في السابع من شهر شباط/ فبراير عام 1451 حيث قام بالتحضير للسيطرة على القسطنطينية من خلال بناء قلعتين بالقرب من مدينة القسطنطينية ثم هاجمها في عام 1453، وحاصرها مدة سبعة وخمسين يوماً قام خلالها بالعديد من المحاولات لاختراق المدينة لكنها فشلت.
حيث قام البيزنطيون بإغلاق ميناء القسطنطينية (المعروف باسم القرن الذهبي) بمجموعة من السلاسل الحديدية التي منعت السفن العثمانية من العبور، فوضع السلطان محمد الثاني خطة تقوم على نقل أسطوله من مدينة دولماباهس إلى القرن الذهبي من خلال وضع ألواح خشبية مغطاة بالزيت فوق السلاسل الحديدية التي وضعها البيزنطيون، حيث ساهمت مادة الزيت في سهولة انزلاق سفن الأسطول إلى ميناء القرن الذهبي؛ تمت العملية بنجاح، وسيطر العثمانيون على ميناء القرن الذهبي في الثاني والعشرين من شهر نيسان/ أبريل عام 1453، فقام الجنود بتسلق جدران المدينة واحتلالها في التاسع والعشرين من شهر أيار/ مايو عام 1453.
انتهى بذلك حكم الإمبراطورية البيزنطية حيث لم تستطع المساعدات الكبيرة التي قدمها الأوروبيون للإمبراطور البيزنطي إنقاذ المدينة التي أصبحت عاصمة السلطنة العثمانية عوضاً عن أدرنة، وأطلق عليها اسم إسلام بول (كلمة تركية تعني تخت الإسلام)، وأطلق السلطان محمد الثاني على نفسه اسم محمد الفاتح.
محمد الفاتح يواصل فتوحاته
واصل محمد الفاتح توسعه بعد سقوط القسطنطينية، فقام بحملة عسكرية على صربيا في عام 1454 واستمرت حتى عام 1459 دون أن يتمكن من السيطرة عليها، لكن السلطان محمد الفاتح تمكن من احتلال مدينة موريا في منطقة البلقان في عام 1460، ثم سيطر على مدينة طرابزون الواقعة في شمال شرق الأناضول على البحر الأسود في الخامس عشر من شهر آب/أغسطس عام 1461.
وفي شتاء عام 1462 أرسل السلطان محمد الفاتح مبعوثين للتفاوض مع الأمير فلاد دراكولا الثالث لكي يدفع الجزية للسلطنة العثمانية لكنه رفض وقام بقتل رسل السلطان محمد الفاتح لرفضهم رفع عمائمهم تعظيماً له، فقام الأخير بحملة لمعاقبته فهرب من معقله في بوخارست، وقام السلطان محمد الفاتح باحتلال المدينة وضمها للسلطنة العثمانية.
وفي العام التالي سيطر الفاتح على البوسنة، وفي عام 1464 حاول ملك المجر ماتياس كور فينوس استعادة صربيا، فخسر المعركة وقام السلطان محمد الفاتح بضم البوسنة إلى السلطنة العثمانية، وفي ذات العام سيطر السلطان محمد الفاتح على مدينة أراغون التي كانت تابعة للبندقية، كما سيطر على جزيرة نجر بونت، (إيبويا حالياً) في عام 1470، ثم سيطر على بلاد القرمان في آسيا الصغرى وضمها للسلطنة العثمانية، ثم فتح القرم في عام 1475 ثم ألبانيا في عام 1478.
وصلت طموحات محمد الفاتح إلى إيطاليا حيث غزاها في عام 1480 واحتل مدينة أوترانتو، وفي العام التالي استعادت الدولة البابوية سيطرتها على المدينة بعد مفاوضات مع العثمانيين.
سياسة محمد الفاتح الداخلية
قام السلطان محمد الفاتح بتنظيم أمور سلطنته ورعاياه، من خلال القيام بالعديد من الأمور، منها:
- فتح المدارس الدينية، وبناء المساجد.
- تدوين القانونين الجنائي والدستوري.
- أفتى بجواز أن يقتل السلطان إخوته حفاظاً على السلطنة العثمانية.
- أسس الديوان الذي يتألف من: الوزير الأعظم (الصدر الأعظم)، وزراء القبة وعددهم أربعة أطلق عليهم لقب وزراء القبة لأنهم كانوا يجتمعون في مبنى تعلوه قبة، قضاة الجيش، قاضي إسلام بول، آغا الانكشارية (الجيش العثماني).
- نشر الأمن والاستقرار في أرجاء السلطنة العثمانية من خلال القضاء على اللصوص وقطاع الطرق.
- قسم السلطنة العثمانية إلى ولايات كبيرة يتزعمها أمير الأمراء، وولايات أصغر تسمى سنجق يحكمها أمير اللواء.
- أنشا الجامعة العلمية في إسلام بول، بهدف تخريج علماء متخصصين في مختلف العلوم بما فيها العلوم الدينية.
- استقدم العلماء والمعلمين من كل أنحاء الولايات الإسلامية وأكرمهم وشجعهم على مواصلة أبحاثهم ودراساتهم.
- أصبح التعليم في زمنه مقسماً إلى أربع مراحل وفق ما ورد في كتاب (السلطان محمد الفاتح فاتح القسطنطينية وقاهر الروم) للدكتور عبد السلام عبد العزيز فهمي، الصادر في عام 1993، والمراحل الأربع هي:
- المرحلة الأولى، مرحلة الخارج، يدرس فيها الطالب العلوم الدينية والطبيعية والرياضية، إضافةً إلى حفظ القرآن الكريم.
- المرحلة الثانية، مرحلة الخارج، يدرس فيها الطالب الفقه، التاريخ الإسلامي، اللغة العربية.
- المرحلة الثالثة، مواصلة الصحن، بمثابة المرحلة الإعدادية في الوقت الحالي، يدرس فيها الطالب على يد علماء متخصصين، وإذا نجح في هذه المرحلة ينتقل إلى مرحلة الصحن.
- المرحلة الرابعة، الصحن، تعد بمثابة جامعة علمية تخرج العلماء والمتخصصين في كل المجالات (الدينية، الرياضية، اللغات، الطب.. إلخ).
- أنشا المباني والقصور والجسور، والطرق في كل الولايات العثمانية، إضافةً للمستشفيات والحدائق والحمامات والجوامع (جامع أبي أيوب الأنصاري).
- شجع التجارة والصناعة في السلطنة العثمانية، كما شجع التبادل التجاري مع الدول الأخرى، حيث فتح موانئ الدولة العثمانية أمام التجار الذين حملوا بضائعهم إلى الدولة العثمانية وأخذوا بضائعاً عثمانية إلى دولهم.
- اهتم بالجيش حيث قسمه إلى فرق يرأس كل منها قائد، ويتلقى القادة أوامرهم من الصدر الأعظم أو السلطان العثماني.
- اهتم بالصناعات العسكرية لتأمين مستلزمات التوسع والسيطرة على مناطق جديدة في العالم (ثياب، دروع، سيوف، مدافع.. إلخ).
- أقام القلاع والحصون في المناطق الاستراتيجية المهمة للسلطنة العثمانية.
- أسس جامعة عسكرية لتخريج العسكرين المدربين، إضافةً للمهندسين والأطباء الذين يعملون لصالح الجيش الانكشاري.
زواج السلطان محمد الفاتح ووفاته
تزوج السلطان محمد الفاتح ستة مرات، فيما يلي أسماء زوجاته:
- الأولى، من السلطانة غلباهار في عام 1446، أنجب منها بيازيد، وغيفرهام.
- الثانية، من السلطانة جيجيك، أنجب منها الأمير سلطان جيم.
- الثالثة، السلطانة غولشان، أنجبت له الأمير مصطفى.
- الرابعة، السلطانة ست مكرم.
- الخامسة، السلطانة هيلانة.
- السادسة، السلطانة حنا، ابنة إمبراطور طرابزون، تزوجها في عام 1451، وطلقها في عام 1453.
وفاة السلطان محمد الثاني
توفي السلطان محمد الفاتح في الثالث من شهر أيار/ مايو عام 1481، خلال حملته للسيطرة على إيطاليا، عن عمر يناهز تسعة وأربعين، ودفن في مقبرة داخل مجمع مسجد الفاتح، وسبب الوفاة وفق ما أكده المؤرخ كولن هايوود هو السم الذي وضع له في طعامه بناء على طلب ابنه الأكبر وولي عهده بيازيد، حيث أفرح خبر وفاته الأوروبيين فعمت الاحتفالات، وقال أهالي البندقية (النسر العظيم قد مات).
في الختام.. شكل السلطان العثماني محمد الثاني المعروف باسم محمد الفاتح شخصية فريدة عبر التاريخ، فقد استلم العرش ثلاث مرات، اثنتان في عهد والده، والثالثة بعد وفاته، جعلته يدرك المخاطر والمسؤوليات التي تقع على كاهل السلطان، لكن ذلك لم يمنعه من أن يحفر اسمه بين العظماء من خلال قيامه بفتح القسطنطينية المدينة التي عجز عنها أعتى الغزاة عبر التاريخ، منهياً بذلك عهد الإمبراطورية البيزنطية، ليقوم بعدها بسلسلة فتوحات وسع من خلالها رقعة سلطنته في أوروبا، كما نظم أمور السلطنة العثمانية المترامية الأطراف من خلال تقسيمها إلى ولايات وسناجق، إضافةً لاهتمامه بالعلم والعلماء ففتح جامعة علمية وأخرى عسكرية إضافةً للمستشفيات والجسور والطرق، بقيت قصة وفاة هذا السلطان مثار جدل غير محسوم على مر التاريخ.. هل كانت وفاته طبيعية؟ أم نتيجة تسمم؟.