الأديبة غادة السمان
تعتبر سوريا منبعاً للنساء المثقفات اللواتي دخلن ساحة الأدب من أوسع أبوابه مثل "كوليت خوري"، "غادة السمان"، "ليلى بعلبكي".لذلك ليس من الغريب أبداً أن تكون دمشق موطن أديبتنا العظيمة "غادة السمان" التي على الرغم من نشوئها ضمن عائلة برجوازية استطاعت تكوين شخصيتها الأدبية والإنسانية المستقلة التي كانت سبباً في إبداعها بعملها الأدبي والصحفي على حد سواء.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
محطات مهمة في حياة غادة السمان
خسرت غادة السمان والدتها "سلمى رويحة" عندما كانت في عمر صغير مما أعطاها شعوراً قاتلاً بالوحدة، خاصةً بسبب انشغال والدها "أحمد السمان" بأعماله حيث كانت غادة تعيش ضمن عائلة برجوازية معروفة في دمشق.
لكن حب والدها للعلم وتأثره بالأدب العالمي كان له تأثير كبير في تكوين شخصيتها المستقلة.
تزوجت غادة السمان مرة واحدة ولديها ولد وحيد
في فترة الستينات تزوجت غادة السمان حتى عام 2007م من "بشير داعوق" المالك الوحيد لدار الطليعة للنشر، وأنجبت لاحقاً ابنها الوحيد "حازم"، قامت فيما بعد بإنشاء دار نشر خاصة بها وقامت بإعادة نشر معظم أعمالها.
كما قامت بتجميع بعضٍ من مقالاتها ضمن سلسلة دعتها "الأعمال غير الكاملة"، قامت بالاحتفاظ بأعمالها غير المنشورة بالإضافة إلى بعض الرسائل السرية في أحد البنوك بسويسرا.
وفي عام 1993م نشرت مجموعة من رسائل الحب التي كتبها لها الروائي والصحفي الفلسطيني "غسان كنفاني" في الستينات عندما كانا على علاقة حب سرية.
وتمت مهاجمتها من قبل البعض بحجة أنها تحاول تشويه سمعة الكاتب الراحل، وبسبب وفاة والدها لاحقاً وعدم وجود زوج إلى جانبها بدأ الناس ينظرون إليها على أنها امرأة سيئة السمعة.
لقد كان في حياة غادة السمان محطات شكلت شرارة البداية لمسيرة نضالية في الدفاع عن الحرية والتعبير عن الذات لجميع الناس وخاصة النساء المستضعفات.
عيناك قدري.. أول مجموعة قصصية لغادة السمان عام 1962
أثر والد غادة السمان فيها من خلال ولعه بالأدب العالمي والعربي الأمر الذي أعطاها أسلوباً فريداً ومنفتحاً فيما بعد، واجهت المجتمع الدمشقي المنغلق والمتحفظ في سنواتها الأولى.
نشرت غادة السمان أول مجموعة قصصية لها عام 1962م تحت عنوان "عيناك قدري" التي لاقت إقبالاً لابأس به من الشارع الأدبي، وبدأت كتبها تتوسع في الأفكار التي تعرضها؛ من روايات الحب إلى القضايا الاجتماعية والفلسفية.
دراستها وعملها في مجال الصحافة
حصلت غادة السمان على بكالوريوس في الأدب الانكليزي من الجامعة السورية عام 1963م وسافرت إلى بيروت لإكمال دراستها للحصول على الماجستير في المسرح من الجامعة الأمريكية في بيروت.
ومنذ ذلك الوقت لم تعد إلى سوريا، في بيروت عملت في مجال الصحافة، وفي عام 1965م نشرت مجموعتها الثانية بعنوان "لا بحر في بيروت".
ثم سافرت حول أوروبا لتعمل كمراسلة، وفي عام 1966م نشرت المجموعة الثالثة "ليل الغرباء"، وقد كان (نكسة حزيران) عام 1967م بين الدول العربية واسرائيل أثر الصدمة على حياة غادة.
حيث تُعد جملة "أنا أحمل عاري إلى لندن" من أشهر مقولات غادة السمان، وفي عام 1973م نشرت مجموعتها الرابعة "رحيل المرافئ القديمة" التي يعتبرها النقاد أهم أعمالها.
بيروت 75 أولى روايات غادة السمان
في نهاية عام 1974م نشرت روايتها الأولى "بيروت 75" تصف فيها المشاكل الاجتماعية المعقدة في بيروت، واعتبرت من أبرز الأدباء العرب بعد نشرها روايتي "كوابيس بيروت" في عام 1977م و"ليلة المليار" في 1986م.
كان ما سبق بمثابة دفعة قوية للمسيرة الأدبية لغادة السمان، حيث قامت بإغناء مسيرتها بالكثير من المجموعات الشعرية والروايات والمجموعات القصصية وغيرها.
إنتاج غادة السمان الأدبي.. أهم أعمالها ورواياتها
لم يقتصر نتاج غادة السمان الفكري على نوع محدد من الأدب، حيث قامت بنشر أعمال غير كاملة لها؛ مجمعة من عدة مصادر وعدة مقالات خاصة بها.
كما أنها قامت بتأليف المجموعات القصصية والمجموعات الشعرية والروايات، بالإضافة إلى مجموعة أدبية كانت ثمرة تجولها وترحالها حول العالم.
مجموعة الأعمال غير الكاملة:
- زمن الحب الآخر في عام 1978م.
- أعلنت عليك الحب في عام 1979م.
- الجسد حقيبة سفر في عام 1979م.
- السباحة في بحيرة الشيطان في عام 1979م.
- ختم الذاكرة بالشمع الأحمر في عام 1979م.
- اعتقال لحظة هاربة في عام 1979م.
- مواطنة متلبسة بالقراءة في عام 1979م.
- الرغيف ينبض كالقلب في عام 1979م.
- صفارة إنذار داخل رأسي في عام 1980م.
- كتابات غير ملتزمة في عام 1980م.
- الحب من الوريد إلى الوريد في عام 1981م.
- القبيلة تستجوب الفتيلة في عام 1981م.
- البحر يحاكم سمكة في عام 1986م.
- تسكع داخل جرح في عام 1988م.
المجموعات القصصية:
- عيناك قدري في عام 1962م.
- لا بحر في بيروت في عام 1963م.
- ليل الغرباء في عام 1967م.
- رحيل المرافئ القديمة في عام 1973م.
- زمن الحب الآخر.
- القمر المريع.
الروايات الكاملة:
- بيروت 75 في عام 1975م.
- كوابيس بيروت في عام 1976م.
- ليلة المليار في عام 1986م.
- الرواية المستحيلة.
- سهرة تنكرية للموتى في عام 2003م.
- يا دمشق وداعاً في عام 2015م.
المجموعات الشعرية:
- حب في عام عام 1973م.
- اشهد عكس الريح في عام 1987م.
- عاشقة في محبرة في عام 1995م.
- رسائل الحنين إلى الياسمين.
- الأبدية لحظة حب.
- الرقص مع البوم.
- الحبيب الافتراضي.
- ولا شيء يسقط كل شيء.
مجموعة أدب الرحلات:
- غربة تحت الصفر.
- شهوة الأجنحة.
- القلب نورس وحيد.
- رعشة الحرية.
أعمال أخرى:
- الأعماق المحتلة في عام 1987م.
- رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان في عام 1992م.
- رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان في عام 2016م.
غادة وغسان.. علاقة حب لا تموت
بدأت قصة الحب العظيمة هذه في ستينات القرن الماضي، حيث كان غسان كنفاني الشاب الفلسطيني والروائي المسيحي المتزوج من فتاة كندية.
تعرف هذا الشاب إلى أديبة سورية مميزة من عائلة برجوازية مسلمة تدعى غادة السمان، ورغم أن هذه المعرفة كانت بسيطة ومجرد معرفة عابرة في جامعة دمشق.
كان الحب من النظرة الأولى أو ربما الإعجاب، جمعت الصدف بينهما لاحقاً في إحدى الحفلات الساهرة في القاهرة وعندها قال غسان مقولته المشهورة: "ما لكِ كطفلة ريفية تدخل المدينة أول مرة؟".
وبسبب هذه الليلة نشأت صلة وثيقة وعلاقة حب ولقاءات متعددة في عدة دول عربية، حيث عاشا قصة حب لاتزال تُذكر حتى يومنا هذا.
وقامت تلك العلاقة على المراسلات البريدية بين غسان وغادة، تلك الرسائل التي نشرتها غادة في كتاب عام 1992م بعنوان "رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان".
حيث اختلفت وجهات النظر حوله فمنهم من اعتبره تخليداً لعلاقة حب عظيمة ومنهم من اعتبره طريقة لتشويه سمعة الشاعر الفلسطيني، وبكل الأحوال كانت مجرد وجهات نظر مختلفة من الشارع الأدبي لا أكثر.
وككل قصص الحب الأدبية العظيمة حملت قصتهما في طياتها الكثير من الألم والعذاب وانتهت بفراق الأحبَّة، وذلك بسبب الكثير من القيود الاجتماعية والدينية التي وقفت بوجه علاقتهما.
لكن النهاية الحقيقية لقصة الحب هذه كانت باستشهاد المناضل غسان كنفاني بتفجير من الموساد الصهيوني لتتبعثر أشلاؤه كبعثرة حروفه في رسائل الحب.
إهداء كتاب "رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان"
وبالعودة إلى الكتاب لابد من ذكر الإهداء الرائع الذي سطَّرته غادة السمان في بداية كتابها لروح الشاعر والمناضل العظيم غسان كنفاني، حيث قالت:
"إلى الذين لم يولدوا بعد:
هذه السطور التي أهداني إياها ذات يوم وطنيّ مبدع لم يكن قلبه مضخة صدئة، أهديها بدوري إلى الذين قلوبهم ليست مضخات صدئة، وإلى الذين سيولدون بعد أن يموت أبطال هذه الرسائل، ولكن سيظل يحزنهم مثلي أن روبرت ماكسويل دفن في القدس في هذا الزمان الرديء، بدلاً من أن يدفن غسان كنفاني في يافا" .
غادة السمّان.
أشهر رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان
" رسالة غير مؤرخة-لا أذكر التاريخ!….لعلها أول رسالة سطرها لي
غادة..
أعرف أن الكثيرين كتبوا إليك، وأعرف أن الكلمات المكتوبة تخفي عادة حقيقة الأشياء خصوصاً إذا كانت تُعاش.. وتُحس وتُنزف على الصورة الكثيفة النادرة التي عشناها في الأسبوعين الماضيين… ورغم ذلك.فحين أمسكت هذه الورقة لأكتب كنت أعرف أن شيئاً واحداً فقط أستطيع أن أقوله وأنا أثق من صدقه وعمقه وكثافته وربما ملاصقته التي يخيل إلي الآن أنها كانت شيئاً محتوماً، وستظل كالأقدار التي صنعتنا: إنني أحبك.
الآن أحسها عميقة أكثر من أي وقت مضى، وقبل لحظة واحدة فقط مررت بأقسى ما يمكن لرجل مثلي أن يمر فيه، وبدت لي تعاساتي كلها مجرد معبر مزيف لهذه التعاسة التي ذقتها في لحظة كبريق النصل في اللحم الكفيف.
الآن أحسها، هذه الكلمة التي وسخوها، كما قلت لي والتي شعرت بأن علي أن أبذل كل ما في طاقة الرجل أن يبذل كي لا أوسخها بدوري.
إنني أحبك: أحسها الآن والألم الذي تكرهينه – ليس أقل ولا أكثر مما أمقته أنا – ينخر كل عظامي ويزحف في مفاصلي مثل دبيب الموت.
أحسها الآن والشمس تشرق وراء التلة الجرداء مقابل الستارة التي تقطع أفق شرفتك إلى شرائح متطاولة…
أحسها وأنا أتذكر أنني لم أنم أيضاً ليلة أمس، وأنني فوجئت وأنا أنتظر الشروق على شرفة بيتي، أنني – أنا الذي قاومت الدموع ذات يوم وزجرتها حين كنت أُجلد – أبكي بحرقة.
بمرارة لم أعرفها حتى أيام الجوع الحقيقي، بملوحة البحار كلها وبغربة كل الموتى الذين لا يستطيعون فعل أيما شيء… وتساءلت: أكان نشيجاً هذا الذي أسمعه أم سلخ السياط وهي تهوي من الداخل؟
لا.. أنت تعرفين أنني رجل لا أنسى وأنا أعْرَفُ منك بالجحيم الذي يطوق حياتي من كل جانب، وبالجنة التي لا أستطيع أن أكرهها، وبالحريق الذي يشتعل في عروقي، وبالصخرة التي كتب علي أن أجرها وتجرني إلى حيث لا يدري أحد…
وأنا أعرف منك أيضاً بأنها حياتي أنا، وأنها تنسرب من بين أصابعي أنا، وبأن حبك يستحق أن يعيش الإنسان له، وهو جزيرة لا يستطيع المنفيّ في موج المحيط الشاسع أن يمر بها دون أن….
ورغم ذلك فأنا أعرف منك أيضاً بأنني أحبك إلى حد أستطيع أن أغيب فيه، بالصورة التي تشائين، إذا كنتِ تعتقدين أن هذا الغياب سيجعلك أكثر سعادة، وبأنه سيغير شيئاً من حقيقة الأشياء.
أهذا ما أردت أن أقوله لك حين أمسكت الورقة؟
لست أدري.. ولكن صدقيني يا غادة أنني تعذبت خلال الأيام الماضية عذاباً أشك في أن أحداً يستطيع احتماله، كنت أجلد من الخارج ومن الداخل دونما رحمة وبدت لي حياتي كلها تافهة، واستعجالاً لا مبرر له.
وأن الله إنما وضعني بالمصادفة في المكان الخطأ لأنه فشل في أن يجعل عذابه الطويل الممض وغير العادل لهذا الجسد، الذي أحتقر فيه قدرته غير البشرية على الصلابة، ينحني ويموت…
إن قصتنا لا تكتب، وسأحتقر نفسي لو حاولت ذات يوم أن أفعل، لقد كان شهراً كالإعصار الذي لا يُفهم، كالمطر، كالنار، كالأرض المحروثة التي أعبدها إلى حد الجنون.
وكنت فخوراً بك إلى حد لمت نفسي ذات ليلة حين قلت بيني وبين ذاتي أنك درعي في وجه الناس والأشياء وضعفي، وكنت أعرف في أعماقي أنني لا أستحقك ليس لأنني لا أستطيع أن أعطيك حبات عينيّ ولكن لأنني لن أستطيع الاحتفاظ بك إلى الأبد.
وكان هذا فقط ما يعذبني… إنني أعرفك إنسانة رائعة، وذات عقل لا يصدق وبوسعك أن تعرفي ما أقصد: لا يا غادة لم تكن الغيرة من الآخرين…..
كنت أحسك أكبر منهم بما لا يقاس، ولم أكن أخشى منهم أن يأخذوا منك قلامة ظفرك.
لا يا غادة…. لم يكن إلا ذلك الشعور الكئيب الذي لم يكن ليغادرني، مثل ذبابة أطبق عليها صدري، بأنك لا محالة ستقولين ذات يوم ما قلتِه هذه الليلة.
إن الشروق يذهلني، رغم الستارة التي تحوله إلى شرائح وتذكرني بألوف الحواجز التي تجعل من المستقبل – أمامي – مجرد شرائح…. وأشعر بصفاء لا مثيل له مثل صفاء النهاية ورغم ذلك فأنا أريد أن أظل معك.
لا أريد أن تغيب عني عيناك اللتان أعطتاني ما عجز كل شيء انتزعته في هذا العالم من إعطائي. ببساطة لأني أحبك. وأحبك كثيراً يا غادة.
وسيُدَمرُ الكثير مني إن أفقدك، وأنا أعرف أن غبار الأيام سيترسب على الجرح ولكنني أعرف بنفس المقدار أنه سيكون مثل جروح جسدي: تلتهب كلما هبت عليها الريح.
أنا لا أريد منك شيئاً وحين تتحدثين عن توزيع الانتصارات يتبادر إلى ذهني أن كل انتصارات العالم إنما وزِعَت من فوق جثث رجال ماتوا في سبيلها.
أنا لا أريد منك شيئاً، ولا أريد- بنفس المقدار- أبداً أبداً أن أفقدك.
إن المسافة التي ستسافرينها لن تحجبك عني، لقد بنينا أشياء كثيرة معاً لا يمكن، بعد، أن تغيّبها المسافات ولا أن تهدمها القطيعة لأنها بنيت على أساس من الصدق لا يتطرق إليه التزعزع.
ولا أريد أن أفقد (الناس) الذين لا يستحقون أن يكونوا وقود هذا الصدام المروّع مع الحقائق التي نعيشها… ولكن إذا كان هذا ما تريدينه فقولي لي أن أغيب أنا.
ظلي هنا أنت فأنا الذي تعودت أن أحمل حقيبتي الصغيرة وأمضي …
ولكنني هذه المرة سأمضي وأنا أعرف أنني أحبك، وسأظل أنزف كلما هبت الريح على الأشياء العزيزة التي بنيناها معاً..
غسان".
" غزة في 29/11/1966 Gaza
غادة
كل هذه العناوين المسجلة فوق، على ضخامتها، ليست إلا أربع طاولات على شاطئ البحر الحزين، وأنا، وأنت، في هذه القارورة الباردة من العزلة والضجر. إنه الصباح.
وليلة أمس لم أنم فقد كان الصداع يتسلق الوسادة كجيوش مهزومة من النمل، وعلى مائدة الفطور تساءلت: هل صحيح أنهم كلهم تافهون أم أن غيابك فقط هو الذي يجعلهم يبدون هكذا؟
ثم جئنا جميعاً إلى هنا: أسماء كبيرة وصغيرة، ولكنني تركت مقعدي بينهم وجئت أكتب في ناحية، ومن مكاني أستطيع أن أرى مقعدي الفارغ في مكانه المناسب، موجود بينهم أكثر مما كنت أنا.
إنني معروف هنا، وأكاد أقول (محبوب) أكثر مما كنت أتوقع، أكثر بكثير. وهذا شيء، في العادة، يذلني، لأنني أعرف بأنه لن يتاح لي الوقت لأكون عند حسن ظن الناس، وأنني في كل الحالات سأعجز في أن أكون مثلما يتوقعون مني.
طوال النهار والليل أستقبل الناس، وفي الدكاكين يكاد الباعة يعطونني ما أريد مجاناً وفي كل مكان أذهب إليه أستقبل بحرارة تزيد شعوري ببرودة أطرافي ورأسي وقصر رحلتي إلى هؤلاء الناس وإلى نفسي.
إنني أشعر أكثر من أي وقت مضى أن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح وأنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه.
وذلك كله يشعرني بغربة تشبه الموت وبسعادة المحتضر بعد طول إيمان وعذاب، ولكن أيضا بذل من طراز صاعق………
ولكنني متأكد من شيء واحد على الأقل، هو قيمتك عندي.. أنا لم أفقد صوابي بك بعد، ولذلك فأنا الذي أعرف كم أنت أذكى وأنبل وأجمل. لقد كنتِ في بدني طوال الوقت، في شفتي.
في عيني وفي رأسي. كنتِ عذابي وشوقي والشيء الرائع الذي يتذكره الإنسان كي يعيش ويعود… إن لي قدرة لم أعرف مثلها في حياتي على تصورك ورؤيتك..
وحين أرى منظراً أو أسمع كلمة وأعلق عليها بيني وبين نفسي أسمع جوابك في أذني، كأنك واقفة إلى جواري ويدك في يدي. أحياناً أسمعك تضحكين، وأحياناً أسمعك ترفضين رأيي وأحياناً تسبقينني إلى التعليق.
وأنظر إلى عيون الواقفين أمامي لأرى إن كانوا قد لمحوكِ معي، أتعاون معكِ على مواجهة كل شيء وأضع معك نصل الصدق الجارح على رقابهم.
إنني أحبك أيتها الشقية كما لم أعرف الحب في حياتي، ولست أذكر في حياتي سعادة توازي تلك التي غسلتني من غبار وصدأ ثلاثين سنة.. ليلة تركت بيروت إلى هنا.
أرجوك.. دعيني معك. دعيني أراكِ. إنك تعنين بالنسبة لي أكثر بكثير مما أعني لك وأنا أعرف ولكن ما العمل؟ إنني أعرف أن العالم ضدنا معاً ولكنني أعرف بأنه ضدنا بصورة متساوية.
فلماذا لا نقف معاً في وجهه؟ كفِّي عن تعذيبي فلا أنا ولا أنت نستحق أن نسحق على هذه الصورة. أما أنا فقد أذلني الهروب بما فيه الكفاية ولست أريد ولا أقبل الهروب بعد.
سأظل، ولو وُضع أطلس الكون على كتفيّ، وراءك ومعك. ولن يستطيع شيء في العالم أن يجعلني أفقدك فقد فقدت قبلك، وسأفقد بعدك، كل شيء.
(إنني لا أستطيع أن أكرهك ولذلك فأنا أطلب حبك).. أعطيك العالم إن أعطيتني منه قبولك بي.. فأنا، أيتها الشقية، أعرف أنني أحبك وأعرف أنني إذا فقدتك فقدت أثمن ما لديّ، وإلى الأبد..
سأكتب لك وأنا أعرف أنني قد أصل قبل رسالتي القادمة، فسأغادر القاهرة يوم 5 كانون وتأكدي: لا شيء يشوقني غيركِ.
" رسالة غير مؤرخة، ولكن سياق الكلام فيها يدل على أنها كتبت في القاهرة أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) وقبل 29/11/1966 بيوم أو اثنين
عزيزتي غادة..
مرهق إلى أقصى حد: ولكنك أمامي، هذه الصورة الرائعة التي تذكرني بأشياء كثيرة عيناكِ وشفتاكِ وملامح التحفز التي تعمل في بدني مثلما تعمل ضربة على عظم الساق.
حين يبدأ الألم في التراجع. سعادة الألم التي لا نظير لها. أفتقدك يا جهنم، يا سماء، يا بحر. أفتقدك إلى حد الجنون. إلى حد أضع صورتكِ أمام عيني وأنا أحبس نفسي هنا كي أراكِ.
ما زلت أنفض عن بذلتي رذاذ الصوف الأصفر الداكن. وأمس رأيت كرات صغيرة منها على كتفي فتركتها هناك. لها طعم نادر كالبهار…. إنها تبتعث الدموع إلى عيني أيتها الشقية. الدموع وأنا أعرف أنني لا أستحقك.
فحين أغلقت الباب وتركتني أمضي عرفت، عرفت كثيراً أية سعادة أفتقد إذ لا أكون معك. لقد تبقت كرات صغيرة من الصوف الأصفر على بذلتي، تتشبث بي مثلما أنا بك، وسافرت بها إلى هنا مثلما يفعل أي عاشق صغير قادم من الريف لأول مرة.
لن أنسى. كلا. فأنا ببساطة أقول لك: لم أعرف أحداً في حياتي مثلكِ، أبداً أبداً. لم أقترب من أحد كما اقتربت منكِ أبداً أبداً ولذلك لن أنساكِ، لا… إنك شيء نادر في حياتي. بدأت معك ويبدو لي أنني سأنتهي معك.
سأكتب لك أطول وأكثر…لقد أجلوا المؤتمر إلى 30 ولكنهم سيسفروننا غداً، الأحد إلى غزة كي نشترك بمآتم التقسيم. يا للهول.
ويبدو أنه لن يكون بوسعي أن أعود للقاهرة قبل الرابع. وسأكون في بيروت يوم 6 كانون الأول على أبعد تعديل… إلا إذا فررت من المؤتمر وأتيتك عدْواً..
حين قرأ أحمد بهاء الدين حديثك لي خطفه، بل أجبرني على التعاقد معه لأكتب له مواضيع مماثلة…… قال لي وهو يهز رأسه: أخيراً أيها العفريت وجدت من يُسكت شراستك.
سينشر الموضوع في (المصور) التي علمت أنها توزع في كل البلاد العربية أعداداً هائلة وتحوز على ثقة الناس واحترامهم… ولكنني بالطبع لا أعرف متى..
وزعت كتبكِ. تحدثت عنك كثيراً. فكرت بك. بك وحدك.. وأنت لا تصدقين.. وأنت حين أعذب نفسي في المساء موجودة في الماي فير مع الناس والهواتف والضحك..
حاولي أن تكتبي لي: فندق سكارابيه شارع 26 يوليو. القاهرة فسيكون أحلى ما يمكن أن يلقاني حين عودتي رسالة منك لأنني أعرف أنك لن تأتين..
آه.. يا عزيزة
غسان كنفاني".
حب من طرف واحد.. أنسي الحاج العاشق وغادة السمان تقسو عليه
نشرت غادة السمان عام 2016م كتاباً بعنوان "رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان" الأمر الذي شكل صدمة للكثيرين من الذين لا يعلمون بمشاعر أنسي الحاج (الشاعر اللبناني) تجاه غادة السمان.
حيث كانت غادة السمان تلتقي يومياً تقريباً مع الشاعر اللبناني أنسي الحاج لكن لم يعلم أحد بوجود مشاعر من قبل أنسي الحاج تجاه غادة السمان.
حيث أن الشاعر اللبناني لم يصرح بأي شيء عن وجود هذه العلاقة حتى لأصدقائه المقربين ولا حتى في منشوراته وكتبه، الأمر الذي كان سبباً رئيسياً للصدمة التي عاشها جمهور ومحبو الشاعر.
وبعد نشر كتاب "رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان" تناولت أقلام النقاد العرب كتاب غادة السمان بين مهتم بطبيعة الرسائل وساخر من أسلوب غادة المكرر.
ولكن للحق لابد من التأكيد على أن رسائل أنسي الحاج أخذت أكثر من حجمها فهي لم تضاهي أهمية رسائل غسان كنفاني على الإطلاق لا من حيث الأدب ولا من حيث الأمور التي تكشفها.
كما صرحت غادة السمان أنها لم ترد على الإطلاق على أي رسالة من رسائل أنسي الحاج وقابلت جميع رسائله بالصمت المطلق، مما يجعل علاقة الحب هذه؛ علاقة من طرف واحد بالمشاعر وبالأهمية الأدبية.
الكتب التي أصدرت عن حياة الأديبة السورية غادة السمان
- غادة السمان بلا أجنحة للدكتور "غالي شكري" في عام 1977م.
- غادة السمان الحب والحرب للدكتور "إلهام غالي" في عام 1980م.
- قضايا عربية في أدب غادة السمان للكاتبة "حنان عواد" في عام 1980م.
- الفن الروائي عند غادة السمان للكاتب "غبد العزيز شبيل" في عام 1987م.
- تحرر المرأة عبر أعمال غادة وسيمون دي بوفوار للكاتبة "نجلاء الاختيار" في عام 1990م.
- التمرد والالتزام عند غادة السمان للكاتبة "باولا دي كايوا" في عام 1991م.
- غادة السمان في أعمالها غير الكاملة للباحث "عبد اللطيف الأرناؤوط" في عام 1993م.
ختاماً، كانت الروائية السورية غادة السمان محطة أدبية ومنارة عربية مهمة في تاريخ الأدب، ولابد من التأكيد على أنها كانت ثائرة في كتاباتها على المجتمع المتحفظ.
وكانت من أشد المناضلين النسويين من أجل إعطاء المرأة حقها في هذا المجتمع، كما يمكن لأي شخص قرأ مجموعاتها الشعرية معرفة أنها كانت شخصاً مرهف الأحاسيس.