ابن خلدون مؤسس علم العمران البشري
اتُهم ابن خلدون بالإلحاد، عندما فصل بين علم التاريخ والميتافيزيقيا، وسجن في تلمسان بتهمة خيانة سلطانها عام 1357، عاش حياته متنقلاً بين تونس والجزائر وإسبانيا، ثم كانت محطته الأخيرة في مصر، إلا أنه شهد تبدل السلاطين، والدسائس السياسية، كما شهد ولادة الدول وانهيارها، وخاض في غمار السياسة، مستشاراً ووزيراً، ورجل تفاوض، فتوصل بخبرته تلك إلى منهجٍ منفردٍ بدراسة التاريخ في عصره، ومنه توصل إلى تأسيس علم العمران البشري، الذي أصبح بمثابة الهوية لشخصية ابن خلدون، فعندما يذكر ابن خلدون، لا بد أن يذكر تفرده في وضع أسس علمٍ يعد من أهم العلوم.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
نشأة المؤرخ إبن خلدون
ولد عبد الرحمن بن محمد بن الحسن بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن ابن خلدون؛ المعروف عموما باسم ابن خلدون، في تونس عام 1332 ميلادي، وكان سلف العائلة _وفقاً لابن خلدون_ عربياً يمنياً من حضرموت، إلا أن عائلته لم تستقر في اليمن، إنما استقرت أول أمرها في الأندلس، ثم هاجرت إلى تونس، بعدما كانت تشغل العديد من المناصب في الأندلس، وذلك بعد سقوط إشبيلية عام 1248 ميلادية. وبعهد الأسرة الحفصية في تونس.
كان بعض أفراد أسرته يشغلون مناصباً سياسية، لكن والد ابن خلدون انسحب من الحياة السياسية فيما بعد. حصل ابن خلدون على تعليمٍ إسلامي، حيث حفظ القرآن الكريم وهو صغير، كما درس الحديث والشريعة الإسلامية، وتفقّه بعلومها، بالإضافة إلى تعلم اللغة العربية، المنطق والفلسفة، كما أنه قرأ أعمال ابن رشد وابن سينا، وعندما بلغ السابعة عشرة من عمره فقد ابن خلدون والديه، إذ ماتا بداء الطاعون الذي ضرب تونس عام 1348 ميلادي.
بداية عمل ابن خلدون في السياسة
في سن العشرين بدأ ابن خلدون عمله السياسي كمستشار للحاكم التونسي ابن تازفاكين، استمر كذلك حتى عام 1352 ميلادي، عندما هوجمت تونس من قبل أمير قسطنطين المدعو أبو زياد، وهزم الأخير جيوش تونس، ففر ابن خلدون إلى نيجيريا، وبدأ يتحرك ذهاباً وإياباً إلى الجزائر.
انتقل بعدها ليستقر في بسكرة (تقع شمال شرق الجزائر)، وكان أبو عنان فارس (سلطان المغرب، تسلم الحكم عام 1348 واستمر حتى موته عام 1358) يجهز جيشه لغزو الجزائر، فذهب ابن خلدون إلى تلمسان ليلتقي السلطان أبي عنان، وبعدها أرسله السلطان إلى مدينة بجاية في الجزائر، بعد عودته من غزوته، أرسل إليه دعوة كي يأتي إلى فاس، فلبى ابن خلدون الدعوة وانضم إلى مجلس العلماء هناك.
إلا أن ابن خلدون تآمر مع محمد أبي عبدالله (سلطان بجايا) على أبي عنان، فعلم الأخير بالمؤامرة وسجن ابن خلدون لمدة 22 شهراً، كما سجن أبي عبدالله، وبعد وفاة السلطان أبي عنان، أصدر وزيره الحسن بن عمر قراراً يقضي بالإفراج عن ابن خلدون.
علاقات المؤرخ إبن خلدون ومهاراته السياسية
توجه ابن خلدون من المغرب إلى الأندلس، وبعد أن تزايدت المنافسة في غرناطة بين ابن خلدون و الوزير والشاعر الأندلسي محمد بن الخطيب، أعيد ابن خلدون إلى شمال أفريقيا، وهناك التقى بالسلطان البوجي محمد أبي عبدالله (الذي كان مسجوناً معه من قبل أبي عنان)، وقابله بحماس وعينه رئيساً لوزرائه.
كما أوكل إليه مهمة جمع الضرائب من القبائل البربرية، وبعد وفاة أبو عبدلله عام 1366، غير ابن خلدون ولاءه أيضاً، إذ تحالف مع سلطان تلمسان أبو العباس، لكن ما لبث أبو العباس أن أسقط عن عرشه من قبل فارس عبد العزيز، الذي اعتقل ابن خلدون بعد استيلائه على العرش، ثم أطلق سراح ابن خلدون وبقي في تلمسان حتى عام 1370.
بعدها انتقل إلى فاس وكانت مهاراته السياسية وعلاقته الجيدة مع قبائل البربر؛ سبباً في تسابق السلاطين في المغرب لكسبه إلى صفهم، في عام 1375 أرسله سلطان الوليد (سلطان تلمسان) إلى قبائل الدوادية العربية في بسكرة للتفاوض معها، إلا أن ابن خلدون ذهب إلى غرب الجزائر ولجأ لدى قبائل البربر في قلعة سلامة، وبدأ بكتابة مقدمته، واستمر على حاله ثلاثة أعوامٍ، بعدها عاد إلى تونس، التي كان يسيطر عليها أبو العباس (السلطان السابق لتلمسان)، فوضع ابن خلدون في خدمته.
عمله في مصر ومفاوضاته مع تيمور لنك في دمشق
عاش ابن خلدون آخر أيامه في مصر، ذلك في عهد السلطان المملوكي الظاهر سيف الدين برقوق، الذي عينه مدرساً في مدرسة قمحاية، وقاضياً في مدرسة المالكي للفقه، وفي عام 1384 ميلادي، استقال ابن خلدون من منصبه كقاضٍ بعد حادثة غرق زوجته وأطفاله قبالة ساحل الإسكندرية، وذهب إلى مكة المكرمة حاجاً إلى البيت الحرام.
بعد عودته عام 1388 عُين أيضاً قاضياً في مدرسة المالكي، وفي فترة حصار تيمور لنك لمدينة دمشق (غزا تيمور لنك سورية عام 1400 ميلادي، واستمر بالتدمير والحصار والقتل حتى عام 1401)، كان ابن خلدون مع جيش السلطان برقوق الذي ذهب لمساندة سوريا وملاقاة القائد المغولي تيمور لنك.
وعندما انسحب الجيش المملوكي، بقي ابن خلدون داخل أسوار المدينة المحاصرة، وأُرسل للتفاوض مع تيمور لنك، الذي سأله عن أحوال المغرب العربي، فكتب له ابن خلدون تقريراً مفصلاً عن أحوال المغرب العربي، وعندما عاد إلى مصر كتب تقريراً مفصلاً عن تيمور لنك وسياسته وشخصيته وأرسله إلى حكام فاس في المغرب.
أهم مؤلفات ابن خلدون
- كتاب شفاء السائل لتهذيب المسائل.
- كتاب العبر.
- ديوان المبتدأ والخبر.
- كتاب المقدمة.
أهم أفكار مقدمة ابن خلدون
تعد مقدمة ابن خلدون من أهم كتبه وأشملها، لأنها مثلت نضج فكره وتجربته السياسية، فلخص فيها كل تجاربه وخبراته وأفكاره، فيما يخص العمران البشري، والمنهج التاريخي الصحيح، كما تحدث عن العصبيات، وسقوط الدول، وأحوالها (سنستعرض أهم ما ورد من أفكار في كتاب المقدمة).
1- العصبية القبلية رابط للتماسك بين البشر
يشكل مفهوم العصبية أهم المفاهيم التي يتحدث عنها ابن خلدون في مقدمته، حيث يستخدم مفهوم العصبية للدلالة على رابط التماسك بين البشر في مجموعة تشكل المجتمع، فهي موجودة في أي مستوى من مستويات الحضارة من المجتمع البدوي إلى الدول والإمبراطوريات، إلا أنها تكون أقوى وأكثر تماسكاً في المجتمع البدوي، وتقل مع التقدم الحضري.
يقول ابن خلدون إن "كل سلالة لديها في حد ذاتها بذور سقوطها"؛ يوضح ذلك بأن المنازل الحاكمة تميل إلى الظهور على أطراف الإمبراطوريات العظمى واستخدام الوحدة التي تقدمها تلك المناطق لصالحها من أجل إحداث تغيير في القيادة. وبما أن الحكام الجدد يؤسسون أنفسهم في وسط إمبراطوريتهم، فإنهم يصبحون أكثر تراخياً وأكثر اهتماماً بالحفاظ على أساليب حياتهم.. هكذا يمكن أن تظهر سلالة جديدة في محيط سيطرتها، وتغير القيادة بذلك تبدأ الدورة من جديد.
2- النمو الاقتصادي وأهمية العرض والطلب والعمل
أشار ابن خلدون في مقدمته إلى أن النمو والتنمية يحفزان العرض والطلب بشكل إيجابي، وإن قوى العرض والطلب هي التي تحدد أسعار السلع، كما أشار إلى قوى الاقتصاد الكلي للنمو السكاني، وتنمية رأس المال البشري، وقد رأى ابن خلدون أن النمو السكاني يؤثر على الربح ونمو الاقتصاد، مشيراً إلى أن المال بمثابة معيار للقيمة الاجتماعية، ووسيط للتبادل.
كما وصف العمل بأنه مصدر للقيمة، وهو ضروري لتحقيق الأرباح وتراكم رأس المال، وواضح في حالة الحِرفية. حيث حاجج بأنه "حتى إذا كانت النتائج من شيء آخر غير الحِرف، فإن قيمة الأرباح الناتجة والمكتسبة (رأس المال)؛ يجب أن تشمل قيمة العمل الذي تم الحصول عليه أيضاً، وبدون العمل، لم يكن من الممكن الحصول عليها".
3- التاريخ لا يقوم على الخرافة
كثيراً ما انتقد ابن خلدون الخرافات والقبول غير النقدي للبيانات التاريخية. نتيجة لذلك، قدم طريقة علمية لدراسة التاريخ، ما اعتبر شيئاً جديداً في عصره وغالباً ما أشار إليه بأنه علم جديد، كما أرسى أسلوبه التاريخي القائم على رفض التحيز المنهجي في التاريخ؛ بالتالي فهو يعتبر والد فلسفة التاريخ (كما سنتحدث).
ويتلخص منظوره إلى التاريخ على عدة أسس:
- التاريخ علم.
- التاريخ له محتوى والمؤرخ ينبغي أن يمتثل إلى ذلك.
- التاريخ علمٌ فلسفي.
- الأساطير والخرافات لا علاقة لها بالتاريخ ويجب دحضها.
- لبناء سجلات تاريخية قوية على الباحث أن يعتمد على مقارنة الحقائق والموازنة بين الحوادث التي يؤرخها.
ابن خلدون فيلسوف التاريخ ومؤسس علم العمران البشري
يرى ابن خلدون أن التاريخ هو علم الظروف والأحداث والأسباب العميقة، بالتالي فهو جزء قديم وأصيل من الحكمة ويستحق أن يكون واحداً من علوم الحكمة، كما أنه يعتبر التاريخ فن للعقيدة القيّمة، إذ يتحدث في كتابه المقدمة عن الدول التي سقطت في سياق عاداتها والأنبياء في سياق حياتهم، والملوك في سياق دولهم وسياساتهم، لذلك يرى أن من يسترشدون بالماضي في أمورهم الدنيوية ومشاكلهم السياسية والدينية، يحققون الأفضلية فيما يريدون ويصبون إليه، أي أخذ العبر من الماضي.
مقارنة النصوص لكشف الغش والتزييف
اعتمدت طريقة ابن خلدون على النقد والمراقبة والمقارنة والفحص، واستخدم النقد العلمي لتحليل الأحداث التاريخية ومصادر هذه الأحداث والتقنيات المستخدمة من قبل المؤرخين.
كما قام بفحص ومقارنة مختلف الأحداث وأساليب روايتها المختلفة من أجل التخلص من التزييف والمبالغة والحصول على فكرة موضوعية عما حدث فعلاً.. "احتوت العديد من الروايات التاريخية على الأكاذيب لأنها كتبت لإطاحة بعض الحكام أو لتعزيز مصالح بعض الطوائف، وصانعوا الأخبار ورواة القصص عمدوا إلى الغش وتزييف الأشياء لأغراضهم الخاصة".
لذلك، حث ابن خلدون المؤرخ على أن يصبح مثقفاً ودقيقاً في الملاحظة و أن يكون ماهراً في مقارنة النص بنصوص فرعية لكي يكون قادرا على النقد والتوضيح بشكل فعال.
أساس وجود المجتمع البشري
كما يرى ابن خلدون أن التاريخ في حالة استمرارية، فلا يفصل الماضي عن المستقبل، فكان لاهتمامه بالتاريخ والمنهج الذي اتبعه في تسجيل الأحداث التاريخية، دوراً في تأسيسه لعلم العمران البشري (يمثل علم الاجتماع). أكد ابن خلدون أن الاجتماع الإنساني ضرورة، وقد فسر ذلك بحاجة الإنسان في الاعتماد على غيره لإشباع حاجاته، فالحاجة البشرية والجهد الذى يبذل لإشباعها هما أساس وجود المجتمع البشرى.
حيث العصبية توجد الدولة
كما تلعب فكرة العصبية دوراً هاماً في فلسفة ابن خلدون (كما ذكرنا) حيث استطاع من خلالها أن يفسر عملية ازدهار وسقوط الدول المتعاقبة فيما بعد دولة الخلافة، فهو يرى أنه عندما توجد العصبية تظهر الدولة.
وعندما تضعف العصبية بالركون إلى الدعة والخمول تضعف الدولة وتنهار لتحل محلها دولة جديدة أقوى عصبية. كما شبه ابن خلدون المجتمعات الإنسانية بالكائن البشرى. لأنه أكد أن المجتمعات تبدأ بسيطة ثم تكبر، وأنها تسير في تغيرها ثم تفنى وتموت في دائرة أشبه بحياة الكائن الحي الذى يبدأ حياته طفلاُ ثم شاباً ثم كهلاً، وبعدها يموت، وقال إن للمجتمعات أعماراً كأعمار البشر.
وفاة ابن خلدون
وفي 19 آذار/ مارس 1406، توفي ابن خلدون، بعد شهر واحدٍ من اختياره للمرة السادسة؛ كقاضٍ لمدرسة المالكي للفقه، تاركاً إرثاً كبيراً في علمي التاريخ والاجتماع على وجه الخصوص.
أخيراً.. كانت حياة ابن خلدون حافلة بالتنقلات والتجارب السياسية، شهد وفاة السلاطين الذين عمل لديهم، كما شهد سقوطهم، والمؤامرات التي حاكوها للاستيلاء على العرش، كما سجن، وأرسل ليفاوض قبائل البربر، كي لا تنقلب على حكم السلاطين المغاربة الذين شهد حكمهم، ذلك جعل منه الفيلسوف والمؤرخ والسياسي الخبير والمجرب، فكان له أثره في علم التاريخ وعلم الاجتماع والسياسة، ويظهر ذلك بشكل كبير في كتابه المقدمة، والذي يلخص تجاربه وفلسفته وأفكاره.