أرنيست همنغواي.. عين النسر
لم يكن عليه أن يقول أكثر حتى يحلّق بالقارئ في عوالمه، لأنه عرف كيف يكتب أقل الكلمات ويفصح عن أكثر المعاني متجاوزاً السطور إلى ما ورائها، إرنيست همنغواي (Ernest Hemingway) الكاتب الأمريكي الذي رسم طريقاً جديداً في كتابة القصة والرواية، تجلت في قلمه روح الصحفي والصياد والملاكم، كما روح المغامر والكاتب. كانت حياته مداً وجزراً، إذ انطلق من العمل الصحفي وشهد الحرب العالمية الأولى، وأعد تقاريراً صحفيةً عن الحرب الأهلية الإسبانية، كذلك حرب تركيا واليونان في البلقان، فجسد تجربته الصحفية في كتاباته، كما جسد تجاربه الحياتية وأنتج أدباً حقيقياً وشخوصاً حقيقيين يسكنون سطوره ويتدثرون بأنفاسه التي صبّها وهو يكتب، فتستحضرهم وتعيش أحاسيسهم كلما قرأت روايات وأعمال أرنيست همنغواي.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
أرنيست همنغواي بدأ صحفياً
ولد إرنست همنغواي عام 1899 في "أوك باك" إحدى ضواحي شيكاغو في الولايات المتحدة الأمريكية، والده يدعى كلارنس إدموندز همنغواي ( Clarence Edmond Hemingway) وهو طبيب، أما والدته غريس همنغواي (Grace Hemingway) وكانت ملحنة، عمل همنغواي بالصحافة قبل أن يكتب الرواية، إذ بدأ عمله في جريدة كنساس ستار في فترة الحرب العالمية الأولى ثم عمل متطوعاً لدى الصليب الأحمر في إيطاليا، وفي عام 1919 ذهب إلى كندا وعمل كمراسل لجريدة تورنتو ستار، ثم انتقل إلى باريس عام 1921 وهناك عمل كمراسلٍ لجريدة ديلي ستار.
أحب همنغواي مهنته كمراسل صحفي، فتنقل لأجل مهنته بين إيطاليا وألمانيا واليونان وكتب تقاريراً عن الحرب اليونانية التركية والحرب الأهلية الإسبانية فكان لخبرته الصحفية انعكاساً على أعماله الأدبية، اهتم همنغواي بالصيد منذ صباه وتوج خبرته في صيد الأسماك برائعته العجوز والبحر (سنتحدث عنها في وقتٍ لاحقٍ من هذا المقال)، امتلك مركباً أطلق عليه اسم "بيلا" الذي شهد معظم مغامراته في الصيد.
أدب همنغواي وأسلوبه "نظرية الفيض جوهر إبداعه"
لم يكتب قلم أرنست همنغواي القصة والرواية فقط وإنما رسم مساراً جديداً في تاريخ الإبداع القصصي والروائي، ذلك لأنه اتبع أسلوباً مختلفاً عن غيره من الكتّاب يتمثل باستخدام القليل من الكلمات ليعبّر عن الكثير من الأفكار والأشياء، فالجمل عند همنغواي هي الهيكل العظمي للنص التي يكسوها بالكلمات راسماً المعنى بأقوى الصور وأقربها إلى القارئ، إذ استخدم الجمل القصيرة التي لا تتعب القارئ، كما استخدم همنغواي حرف الواو كثيراً في كتاباته بشكل خاص في رواية "وداعاً للسلاح" كي ينقل الفورية للقارئ ويعطي حركةً للجملة وتسلسلاً ويظهر ذلك في أحد مقاطع روايته وداعاً للسلاح حيث يقول فيها:
"في أواخر صيف ذلك العام، كنا نعيش في منزل في قرية ترنو إلى الجبال عبر النهر والسهل في سرير النهر كانت الحصى والصخور تظهر جافةً وبيضاءَ في الشمس، والمياه كانت صافيةً وتتحرك مسرعةً وزرقاءَ في القنوات. توجهت القوات من قبل مجلس النواب وعلى الطريق وفي الغبار رفعوا الأشجار المسحوقة".
أطلق همنغواي على أسلوبه اسم نظرية الفيض أي تعويم الحقيقة على السطح، حيث كان يستخدم الجمل البسيطة معتمداً معرفة شيءٍ غير الحقيقة يجعله يقول أكثر من الحقيقة، كما قلنا انعكس عمل همنغواي الصحفي و تغطيته خلال الحرب العالمية الأولى بشكلٍ كبيرٍ على أسلوبه الروائي، فكان يتعامل مع الصور القصصية كما التصوير الفوتوغرافي من حيث التجسيد والتصوير للأفكار، كما اعتمد الأسلوب السينمائي من حيث القطع من مشهدٍ إلى آخر للتشويق وفعل ذلك بالقطع من فكرة إلى أخرى ومن صورة إلى أخرى، بالإضافة إلى استخدامه أسلوب الفلاش باك (الخطف خلفاً).
أهم أعمال همنجواي الأدبية
كانت رواية الشيخ والبحر (The old man and the sea) آخر روايةٍ كتبها أرنست همنغواي وذلك عام 1952 ومن خلالها حصل على جائزة بوليتزر (هي مجموعة جوائز تمنحها جامعة كولومبيا في نيويورك، تقدم في عدة مجالات، كالصحافة والأدب والموسيقى) حيث تجلى في روايته هذه نضج أسلوب همنغواي الذي اتبعه في قصصه ورواياته السابقة، والذي تمثل باستخدام اللغة البسيطة والرموز التي تعبر عن صراع الإنسان وتحديه للمصاعب، حيث يروي قصة صيادٍ عجوزٍ يدعى "سينتياجو" يبحر وحيداً في رحلة صيدٍ بعد انقطاعه 84 يوماً عن الصيد، تعلق صنارته بسمكة "مارلين" (نوع من الأسماك الكبيرة التي قد يتجاوز وزنها النصف طن) ويبدأ الصراع بين العجوز والسمكة ومن خلاله تتجلى صور التحدي والجلَد التي يظهرها العجوز.
حيث تتشقق كفاه وتنزفان الدم إلا أنه يرفض أن يفلت السمكة، يستخدم همنغواي أسلوب الفلاش باك حيث يتذكر العجوز أيام شبابه عندما دخل في تحدٍ للوي ذراع شابٍ قوي البنية مفتول الذراعين، فيتذكر العجوز كيف صبر يوماً كاملاً في المنافسة التي انتهت بفوزه على خصمه فيزداد قوةً وصبراً في صراعه مع سمكة المارلين حتى يتمكن من اصطيادها أخيراً، ثم ينتقل همنغواي ليصور صراع العجوز مع أسماك القرش التي تلتهم السمكة التي اصطادها، لكن العجوز لا يستسلم رغم الوهن الذي أصاب جسده، وأخيراً يصل العجوز إلى الميناء ولم يتبقَ من سمكته سوى هيكلها، بعد كل الشقاء الذي بذله. بيد أن العجوز لا ييأس في نهاية المطاف ولا يموت أمله بل يُعِدُّ لرحلةٍ أخرى، ويقدم همنغواي في الرواية بحراً حقيقاً وعجوزاً حقيقياً وسمك قرشٍ حقيقي، حتى يصل إلى القارئ وينقله ليعيش تحدً حقيقي بين سطور الرواية.
ومن أعماله الأدبية أيضاً:
- المعسكر الهندي 1924.
- سيول الربيع عام 1926.
- الشمس تشرق أيضاً عام 1926.
- رجال بلا نساء عام 1927.
- وداعاً أيها السلاح عام 1929.
- الطابور الخامس عام 1930.
- الموت بعد الظهر عام 1932.
- سهول أفريقيا الخضراء عام 1935.
- لمن تقرع الأجراس عام 1940.
جائزة نوبل "هيمنجواي أنتج بجرأةٍ ملامح العصر القاسية"
حصل همنغواي عام 1954 على جائزة نوبل وكان لرواية العجوز والبحر دوراً كبيراً بمنحه الجائزة، حيث برز فيها نضج أسلوب همنغواي الأدبي مع طرحه لأفكارٍ تمس صراع الإنسان وتحديه لظروفه وأظهر ماهية التجربة البشرية وكيفية تحدي المصاعب بشرفٍ، حيث قال فيه "نبرغ" (Nyberg) عضو الأكاديمية السويدية أثناء منحه جائزة نوبل: " كان لهيمنجواي عينٌ كعين النسر، حيث لاحظ بدقةٍ الأوقات العصيبة للوجود البشري، فالمشاكل الإنسانية التي طرحها وعالجها متعلقة بنا جميعاً، كما أنه صوّر الشجاعة والحنان في عالمٍ مليءٍ بالموت والعنف وأنتج بصدقٍ وجرأةٍ ملامح العصر القاسية".
أرنست همنغوي "الرجل الخنزير"
كانت حياة همنغواي مليئة بالعلاقات العاطفية، كما كان رجلاً مزواجاً، تزوج أربع مراتٍ. كانت "إلزابيث هاردلي" (Elizabeth Hadley Richardson) أولى زوجاته وكانت تكبره ب 8 سنوات وبقيت بجانبه طوال فترة حياته في باريس، حيث كان يعاني من ضائقة مادية آنذاك، كما شهدت إلزابيث فترة رغبته بالتوقف عن العمل الصحفي والتفرغ للكتابة الروائية والقصصية، لكن هيمنجواي طلق زوجته إلزابيث عام 1927 وتزوج "بولين فايفر" (Pauline Pfeiffer) وهي من أسرة كاثوليكية ثرية جعلت همنغواي يعيش بنعيم، واستمر زواجهما حتى التقى بالصحفية "مارثا جيلهورن" (Martha Gellhorn) عام 1940، التي تركته بعد 4 أعوامٍ وقالت " إنه قذرٌ جداً لا يعرف النظافة" ووصفته بالرجل الخنزير، أما آخر زوجاته فكانت "ماري ويلش" (Mary Welsh) التي استمرت معه حتى وفاته عام 1961.
انتحار همنغواي "ما فعله الأب كرره الابن"
أصيب همنغواي بالاكتئاب بعد انتحار والده عام 1928 مطلقاً على نفسه الرصاص، ما ترك أثراً في حياة ابنه أرنست وبقي الاكتئاب يرافقه طيلة حياته، وكان من أسباب اكتئابه توقف إبداعه الأدبي عشرة أعوامٍ لم ينتج خلالها شيئاً، لكنه تمكن من بعدها من تتويج أعماله الأدبية برائعته العجوز والبحر التي كانت بمثابة أغنيةٍ أخيرة لأرنست همنغواي، وتوقف إبداعه بعدها حتى عام 1961، فانتحر مطلقاً الرصاص على نفسه من بندقيته المفضلة التي أهداه إياها والده وهو في سن المراهقة.
أرنيست همنغواي.. القلم الذي رسم طريقاً جديداً في عالم الرواية والقصة، بدأ حياته صحفياً ومغامراً، يغطي الحروب ويذهب في رحلات صيدٍ، ثم برع في كتابة القصة والرواية، معتمداً على أسلوب كتابة أقل عدد من الكلمات لإيصال أكبر عدد من الأفكار، برز إبداع همنغواي في العديد من الأعمال التي كتبها وكان أشهرها وآخرها رواية العجوز والبحر. توفي همنغواي منتحراً عام 1961 لكن أعماله بقيت تتمتع بشعبيةٍ وشهرةٍ في أمريكا وجميع أنحاء العالم، فما غرسه همنغواي في قرائه، يؤكد قول "برنغ" أن لهمنغواي عينٌ ثاقبة كالنسر، وما طرحه في أعماله يتجاوز الحدود والمسافات لأنه يلامس الجوهر البشري، ويطلق العنان بين السطور لتجارب الإنسان وقدراته.