أجمل أبيات وقصائد شعر أبو الطيب المتنبي
This browser does not support the video element.
المتنبي واحد من كبار شعراء العربية الذين كان لهم نصيب كبير من الدراسة والتحليل لقصائده وإرثه الشعري، فمازال إنتاجه الشعري يشكل مثالاً معياراً للقصيدة العربية حتَّى يومنا.
ولا يمكن أن يمرَّ محبّو الشِعر ببيتٍ للمتنبي دون الوقوف عند معناه وطريقة صياغته.
كما كانت حياة المتنبي غنيَّة بالتجارب والتنقلات فأقام عند الأمراء والملوك، مدحهم وهجاهم، وقَبِل منهم الهدايا فطمع بما هو أكثر منها ولم ينله، وفي نهاية المطاف قيل: قتله شِعره.
من هو أبو الطيب المتنبي؟
هو أبو الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن الجعفي الكندي، ولد في الكوفة عام 915 م/ 303 هـ، كان منذ صباه معروفاً بسلاطة لسانه وفصاحة قوله ومعرفته باللغة وأمورها.
كما راح إلى الشام فقابل علمائها وتعلم منهم الكثير، وبلغ من اللغة مكاناً رفيعاً حتَّى صار لا يُسأل عن شيء إلَّا واستشهد بما قالت العرب.
أبو الطيب وادعاء النبوَّة
وقيل أنَّه سميَّ بالمتنبي لأنَّه ادَّعى النبوة لنفسه في سماوة الكوفة، لكن الأمير لؤلؤ أمير حمص ونائب الإخشيد حاكم مصر والشام آنذاك أرسل إليه فاعتقله واستتابه ثم أخلى سبيله.
أبرز محطات حياة أبي الطيب المتنبي
من شعر أبي الطيب يمكن أن نعرف أبرز محطات حياته، فلقاؤه بسيف الدولة الحمداني عام 948 م كان له أثر كبير في حياته، حيث كتب أجمل قصائده في مديح سيف الدولة ورثاء أهل بيته ومعاتبته فيما بعد.
كما أن رحيل المتنبي عن الحمداني ووصوله إلى مصر في أيام كافور كان أيضاً من المحطات المهمة في حياته، وقد أعد لكم موقع بابونج مادةً منفصلة عن علاقة أبي الطيب المتنبي بأبي المسك كافور>
كما أنَّ موت المتنبي كان في شعره، حيث هجا زيداً بن ضبَّة بأمِّه فما كان من خال زيدٍ إلَّا أن قتل المتنبي في سواد العراق عام 965 م.
وكان المتنبي قد رفض اصطحاب المرافقين أو الحرس في رحلته هذه على الرغم من معرفته بنية فاتكٍ الأسدي.
لكن أبا الطيب أراد أنَّ يثبت ما يقوله من الشعر فرفض الهروب من طريق قاتله أو اصطحاب من يحرسه، كيف يكون ذلك فمن قصائد المتنبي في الفخر:
أنا الذي نَظرَ الأعَمى إلى أدَبي وأسَمعتْ كَلماتِي مَن بِه صَممُّ
فالخَيلُ والليلُ والبَيداءُ تَعرِفني والسَّيفُ والرُّمحُ والقِرطاسُ والقَلمُ
صَحِبْـتُ في الفَلَواتِ الوَحْـشَ مُنفرداً حتَّـى تعجَّبَ مِنـِّي القـُورُ والأَكَـمُ
وكانت بدايات المتنبي الشعرية تبشِّر بشاعرٍ مثله
نظم أحمد بن الحسين الجعفي الشِعر منذ صباه، وعلى الرغم من اختلاف مواضيع شِعر الصِبا عمَّا نظمه فيما بعد إلَّا أنَّ الأبياتَ التي وصلتنا من تلك المرحلة كانت تبشِّر بولادة شاعرٍ فذ، ومن أوائل أبياته قوله:
بأبي مَنْ ودِدْتُهُ فافترقنَا وقضَى اللهُ بعدَ ذَاكَ اجتِماعَا
فافترقنَا حَولاً فلما التقينَا كانَ تَسلِيمُهُ عليَّ وداعَا
وقد وصف هواهُ في الصبا بأبيات بليغة، مصوِّراً نحول جسده لما يعانيه من الهوى حتَّى لا تكاد تراه لولا أنَّكَ تسمع منه صوته:
أبْلى الهوَى أسفاً يومَ النَّوى بدنِي وفرَّقَ الهجرُ بينَ الجَفنِ والوسَنِ
رُوحٌ تردَّدَ في مثلِ الخِلالِ إذا أطارتِ الرِّيحُ عَنهُ الثَّوبَ لم يَبنِ
كفَى بجِسمي نُحُولاً أنَّني رَجلٌ لَولا مُخاطَبَتي إيَّاكَ لمْ تَرَني
ومن روائع المتنبي في صباه أيضاً:
وشَادِنٍ روحُ مَنْ يَهواهُ في يدِهِ سَيفُ الصُّدودِ على أعلَى مُقلَّدِهِ (الشادن: الظبي إن كبر واستغنى عن أمِّه)
ما اهْتَزَّ مِنهُ على عُضوٍ لِيبترَهُ إلا اتّقاهُ بتُرسٍ مِن تجلُّدِهِ
ذَمَّ الزَّمانُ إليهِ مِنْ أحِبَّتِهِ ما ذَمَّ مِن بَدرِهِ في حَمدِ أحمدِهِ
شَمسٌ إذا الشَّمسُ لاقَتهُ على فَرسٍ تردَّدَ النُّورُ فيها مِنْ تردُّدِه
إنْ يَقبُحُ الحُسْنُ إلا عندَ طلعتِهِ والعَبدُ يقبُحُ إلا عندَ سيٍّدِهِ
قالتْ عنِ الرِّفْدِ طِبْ نَفساً فقلتُ لها لا يصدرُ الحرُّ إلا بعدَ مَوْرِدِهِ
وقال المتنبي في صغره عن الشجاعة الموت:
إلى أيِّ حينٍ أنتَ في زِيّ مُحْرِم، وحتَّى مَتى في شِقوةٍ وإلى كَمِ
وإلا تَمُتْ تحتَ السُّيوفِ مكرَّماً تَمُتْ وتُقاسي الذُّلَّ غيرَ مُكرَّمِ
فَثِبْ واثِقاً بالله وثبةَ مَاجدٍ يَرى الموتَ في الهَيجا جَنَى النَّحلِ في الفَمِ
وقال أبو الطيب يفتخر بنفسه:
أيّ مَحلٍ أرتَقي أيّ عَظيمٍ أتَقي
وكُلُّ ما قَدْ خَلَقَ اللهُ وما لَمْ يَخلِقِ
مُحتقرٌ في هِمَّتي كَشَعرةٍ في مَفرَقِي
ومن الحوادث الطريفة للمتنبي في شبابه أنَّه رأى رجلين يعرضان جرذاً كبيراً قتلاه ويفاخران بذلك، فقال أبو الطيب في الجرذ وقاتليه ساخراً:
لقَد أصبحَ الجُرَذُ المُسْتَغِيرُ أسيرَ المنَايا صَريعَ العَطَبْ
رماهُ الكِنَانيُّ والعامِرِيُّ وتَلاّهُ للوجهِ فِعلَ العَرَبْ
كِلا الرَّجلينِ اتّلَى قَتْلَهُ فأيُّكمَا غَلَّ حُرَّ السَّلَبْ
وأيُّكُمَا كانَ مِنْ خلْفِهِ فإنَّ بهِ عَضَّةٌ في الذّنَبْ
الجوع يُري الأُسودَ بالجيفِ
ولما كان أبو الطيب المتنبي معتقلاً في حمص جاءته هدية من رجلٍ يعرف بأبي دُلف بن كنداج، وكان أبو دُلف ممن ذموا المتنبي عند الوالي الذي اعتقله.
لكنَّ أبا الطيب في سجنه لم يقبل الهدية من أبي دُلفٍ دون أنْ يذكِّره بفعلته، فقال في ذلك:
أهْوِنْ بطولِ الثَّواءِ والتَّلفِ والسِّجنِ والقَيدِ يا أبا دُلَفِ
غَيرَ اختيارٍ قَبِلْتُ بِرَّكَ لي والجُوعُ يُرْضي الأُسودَ بالجِيفِ
كُنْ أيُّها السِّجنُ كَيفَ شِئتَ فقدْ وَطّنْتُ للمَوتِ نَفسَ مُعترِفِ
لوْ كانَ سُكنايَ فيكَ منقصَةً لم يكنِ الدرُّ ساكِنَ الصَّدَفِ
شعر المتنبي في الحب والغزل
كمْ قَتيلٍ كمَا قُتِلْتُ شَهيدِ، لِبَياضِ الطُّلَى وَوَرْدِ الخُدودِ
وعيون المهَا ولا كعُيُونٍ فتكَتْ بالمُتَيَّمِ المعمُودِ
عَمرَكَ الله! هَلْ رأيتَ بُدوراً طلعَتْ في براقِعٍ وعُقُودِ
رامِياتٍ بأسْهُمٍ ريشُها الهُدْبُ تَشُقُّ القُلوبَ قبلَ الجُلودِ
يترشَّفْنَ مِنْ فمي رشفاتٍ هُنَّ فيهِ أحْلى مِنَ التَّوحيدِ
هذِهِ مُهجَتي لديْكِ لحَيْني فانقُصِي مِن عذابِها أو فزيدي
أهْلُ ما بي من الضّنَى بطَلٌ صِيدَ بتَصْفيفِ طُرّةٍ وبجيدِ
كلُّ شيءٍ منَ الدِّماءِ حَرامٌ شُربهُ ما خَلا ابْنة العُنقودِ
فاسْقِنيهَا فِدى لعَينيكَ نَفسي مِنْ غَزَالٍ وَطارِفي وَتليدي
شَيبُ رأسِي وذلَّتي ونحولي ودمُوعي على هواكَ شُهُودي
أيّ يومٍ سَررتني بوصالٍ لمْ تَرُعني ثلاثةً بِصُدُودِ
ومن قول المتنبي في الحبِّ أيضاً:
كَتَمْتُ حُبّكِ حتى منكِ تكرمَةً ثمَّ استوَى فيهِ إسرارِي وإعلانِي
كأنَّهُ زَادَ حتَّى فاضَ عن جسدِي فَصارَ سُقْمي بهِ في جِسمِ كِتماني
قصائد المديح في شعر أبي الطيب المتنبي
والمديح بابٌ من أبواب الشِعر الواسعة، فما من شاعرٍ إلَّا ودخله إمَّا تعظيماً ومحبة للممدوح كحال شاعر الرسول حسان بن ثابت، وإمَّا استرضاءً واستجداءً للأمير أو الملك كحال معظم شعراء المديح.
أمَّا مع المتنبي فنجد الحالتين، فهو مدح معجباً بشخصية الممدوح كما فعل مع أبي شجاع ومع سيف الدولة الحمداني في بعض قصائده.
كما أنَّه مدح قاصداً العطايا والهدايا كما فعل مع سيف الدولة أيضاً ومع أبي المسك كافور فيما بعد، كما كتب فيه شعر هجاء لاحقا.
ومن أول ما قال المتنبي في المديح قوله بعبيد الله ابن خلكان لمّا أهداه هدية فيه سمكٌ وسكَّرٌ ولوزٌ وعَسَل:
قَدْ شغلَ النَّاسَ كثرَةُ الأملِ وأنتَ بالمكرُماتِ في شُغُلِ
تمثَّلُوا حاتِماً ولو عَقَلُوا لَكُنتَ في الجُودِ غايَةَ المَثَلِ
أهلاً وسهلاً بِما بعَثتَ بهِ إيهاً أبا قاسِمٍ وبالرُّسُلِ
هديَّةٌ ما رأيتُ مُهديَها إلا رأيتُ العِبَادَ في رَجُلِ
أقلُّ ما في أقلّهَا سمكٌ يَسبَحُ في بِرْكةٍ مِن العَسَلِ
كَيفَ أكَافي على أجلِّ يَدٍ مَنْ لا يَرَى أنَّها يَدٌ قِبَلي
وفي مديح محمد بن زريق الطرسوسي يقول أبو الطيب المتنبي:
مُحمَّد بن زُرَيْقٍ ما نَرَى أحَدا، إذا فقدناكَ يُعطي قَبلَ أن يَعِدَا
وقَد قصدتُكَ والتِّرْحالُ مُقترِبٌ والدَّارُ شاسِعَةٌ والزَّادُ قد نَفِدَا
فَخَلِّ كفَّكَ تَهْمي واثنِ وابِلَها، إذا اكْتَفَيْتُ وإلا أغرقَ البلدَا
كما قال المتنبي يمدح عبد الله بن يحيى البحتري:
نَجا امرؤٌ يا ابنَ يحيَى كنتَ بُغيَتَهُ وخابَ ركبُ رِكابٍ لم يؤمُّوكَا
أحييتَ للشُّعَراءِ الشِّعر فامْتَدَحوا جَميعَ مَنْ مَدَحوهُ بالذي فيكَا
وعَلَّمُوا النَّاسَ مِنكَ المجدَ واقتدروا على دَقيقِ المَعاني مِنْ مَعانِيكَا
فكُنْ كَما شِئتَ يا مَنْ لا شَبيهَ لَهُ وكيفَ شئتَ فما خَلقٌ يُدانيكَا
شُكرُ العُفاةِ لِما أوليتَ أوجدَني إلى نَداكَ طَريقَ العُرْفِ مَسْلُوكَا
وعُظْمُ قَدرِكَ في الآفاقِ أوهمَن أنّي بِقِلَّةِ ما أثْنَيتُ أهْجُوكَا
كَفَى بأنَّكَ مِنْ قَحطانَ في شَرفٍ وإنْ فخرْتَ فكُلٌّ مِنْ مَواليكَا
وقال المتنبي يمدح البحتري أيضاً:
ما الشَّوقُ مُقتَنِعاً منِّي بِذا الكَمَدِ حتَّى أكونَ بِلا قَلبٍ ولا كَبِدِ
ولا الدِّيارُ التي كانَ الحَبيبُ بهَا تَشكُو إليَّ ولا أشكُو إلى أحَدِ
ما زالَ كُلّ هَزيمِ الوَدْقِ يُنحِلُها والسَّقمُ يُنحِلُني حتَّى حَكتْ جَسَدي
وكلَّما فَاضَ دَمعِي غَاضَ مُصْطَبري كأنَّ ما سَالَ من جَفنيّ مِن جَلَدي
فأينَ من زفراتي مَنْ كَلِفْتُ بهِ وأينَ مِنكَ ابنَ يحيَى صَولَةُ الأسَدِ
لمَّا وزَنْتُ بكَ الدُّنيا فَمِلتَ بها وبالورى قَلَّ عِندي كثرَةُ العَدَدِ
ما دارَ في خَلَدِ الأيَّامِ لِي فرحٌ أبا عُبادَةَ حتى دُرتَ في خَلَدي
مَلْكٌ إذا امْتَلأتْ مالاً خزائِنُهُ أذاقهَا طعمَ ثُكْلِ الأمّ للوَلَدِ
ماضي الجَنانِ يُريهِ الحَزْمُ قَبلَ غَدٍ بقَلبِهِ ما ترَى عَيناهُ بعدَ غَدِ
ما ذا البهاءُ ولا ذا النُّورُ من بشَرٍ ولا السَّماحُ الذي فيهِ سَماحُ يَدِ
أيُّ الأكُفِّ تُباري الغيثَ ما اتّفَقَا حتى إذا افْتَرَقَا عادَتْ ولمْ يعدِ
قد كنتُ أحسبُ أنَّ المَجدَ من مُضَرٍ حتى تَبَحْتَرَ فَهوَ اليومَ مِن أُدَدِ
قَوْمٌ إذا أمْطَرَتْ مَوْتاً سيوفُهمُ حَسِبْتَها سحباً جادَتْ على بَلَدِ
لم أُجْرِ غايَةَ فكري منكَ في صِفَةٍ إلا وجَدْتُ مداها غايةَ الأبدِ
كما جاءت هذه القصيدة بعد أن بلغ أمير اللاذقية الحسين بن اسحق التنوخي أن المتنبي قد هجاه، فأرسل إليه يعاتبه، ليأتي رد المتنبي عليه شعراً:
أتُنكِرُ يا ابنَ إسْحَقٍ إخائي وتحسَبُ ماءَ غَيرِي من إنائي؟
أأنْطِقُ فيكَ هُجراً بعدَ عِلْمي بأنَّكَ خَيرُ مَن تَحْتَ السّماءِ
وأكْرَهُ مِن ذُبابِ السّيفِ طَعْماً وأمْضَى في الأمورِ منَ القَضاءِ
وما أرْبتْ على العِشْرينَ سِنَّ فكيفَ مَلِلْتُ منْ طولِ البَقاءِ؟
وما استَغرقتُ وصفكَ في مَديحي فأنقُصَ مِنهُ شيئاً بالهِجَاءِ
وهَبْني قُلتُ: هذا الصُّبْحُ لَيْلٌ، أيَعْمَى العالمُونَ عنِ الضِّياءِ؟
تُطيعُ الحاسِدينَ وأنتَ مَرْءٌ جُعِلْتُ فِداءَهُ وهُمُ فِدائي
وهاجي نَفْسِهِ مَنْ لم يُمَيّزْ كَلامي مِنْ كَلامِهِمِ الهُراءِ
وإنَّ من العجائِبِ أنْ تَراني فتعْدِلَ بي أقَلّ مِنَ الهَبَاءِ
وتُنكر مَوتهمْ وأنا سُهَيْلٌ طلَعْتُ بموتِ أولادِ الزّناءِ
قصائد المتنبي في مدح الرسول
لا يوجد أي أبيات أو قصائد شعرية للمتنبي في مدح الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وقد اختلف العلماء في سبب ذلك، فقيل أنه بسبب زندقته وخروجه عن الملة، رغم بطلان هذا الادعاء فيما بعد، بينما يرى البعض أن المتنبي آمن بعظمة الرسول بحيث لا يمكن اختزال قصيدة واحدة للحديث عنه.
المتنبي وسيف الدولة الحمداني
لأبي الطيب المتنبي عشرات قصائد المديح التي تعتبر من الأمثلة المعيارية في الشِعر العربي، فقد مدح ولاةً وقضاةً، كتَّاباً وحُجَّاباً، ملوكاً وأمراءً.
لكن علاقته بسيف الدولة الحمداني كانت الأكثر تميزاً، فقد حظي عنده بمنزلة رفيعة في عصر الشعراء، وأخذ منه امتيازات كثيرة.
وكتب أبو الطيب العديد من قصائد المديح لسيف الدولة، بل أنَّه بقي يمدحه ويعاتبه حتَّى بعد أن فارقه ورحل عنه، ويكفي أن نعرف أن حوالي نصف ديوان أبو الطيب المتنبي كان في سيف الدولة مديحاً ورثاءً لأهله ووصفاً لمكارمه.
حيث يقع الديوان في 580 صفحة تقريباً منها 280 صفحة من الشعر لسيف الدولة أو في مرحلته.
ومما قال أبو الطيب في سيف الدولة الحمداني وقد عزم الرحيل إلى أنطاكية:
أينَ أزمَعتَ أيّهذا الهُمامُ؟ نَحنُ نَبتُ الرُّبَى وأنتَ الغَمامُ
نَحنُ مَن ضايَقَ الزَّمانُ له فيكَ وخانَتْهُ قُرْبَكَ الأيّامُ
في سَبيلِ العُلى قِتالُكَ والسِّلمُ وهذا المُقامُ والإجذامُ
لَيتَ أنَّا إذا ارتَحَلْتَ لكَ الخَيـلُ وأنَّا إذا نَزَلْتَ الخِيامُ
كُلَّ يَومٍ لكَ احتِمالٌ جديدٌ ومسيرٌ للمَجْدِ فيهِ مُقامُ
وإذا كانَتِ النُّفوسُ كِباراً تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ
وكَذا تطلعُ البُدورُ علينَا وكَذا تَقْلَقُ البُحورُ العِظامُ
إنّما هَيبةُ المُؤمَّلِ سَيفِ الـدوْلَةِ المَلْكِ في القلوبِ حُسامُ
فكَثيرٌ مِنَ الشُّجاعِ التَّوَقي وكَثيرٌ مِنَ البَليغِ السّلامُ
وقال أبو الطيب بعد رحيل سيف الدولة في طلعته ذاتها:
رُوَيْدَكَ أيّها المَلِكُ الجَليلُ تَأنّ وعدَّهُ ممَّا تُنيلُ
وجُودكَ بالمُقامِ ولَو قَليلاً فَما فيما تَجُودُ بهِ قَليلُ
لأكبتَ حاسِداً وأرَى عدُوّاً كأنّهما وداعُكَ والرَّحيلُ
ويهدأ ذا السَّحابُ فقد شكَكنا أتَغلِبُ أمْ حَياهُ لَكُم قَبيلُ
وكنتُ أعيبُ عَذْلاً في سَماحٍ فَها أنَا في السّماحِ لَهُ عَذولُ
وما أخشَى نبوّكَ عَن طَريقٍ وسَيفُ الدَّولةِ الماضي الصَّقيلُ
وما للسّيفِ إلا القَطعَ فِعْلٌ وأنتَ القاطعُ البَرُّ الوَصُولُ
وأنتَ الفارِسُ القوَّالُ صَبراً وقَد فنيَّ التكلُّمُ والصَّهيلُ
يَحيدُ الرُّمحُ عنكَ وفيهِ قَصدٌ ويقصُرُ أنْ يَنالَ وفيهِ طُولُ
فلو قدَرَ السِّنانُ على لِسانٍ لَقالَ لكَ السّنانُ كما أقولُ
ولوْ جازَ الخُلودُ خَلَدتَ فَرْداً ولكِنْ ليسَ للدُّنيا خَليلُ
وعندما سأله سيف الدولة عن مواصفات الخيل التي يريدها؛ أجابه المتنبي:
مَوقعُ الخَيلِ مِنْ نَداكَ طَفيفُ ولو أنَّ الجِيادَ فيها ألوفُ
ومِن اللَّفظِ لَفظَةٌ تَجمَعُ الوَصفَ وذاكَ المُطَهَّمُ المَعْرُوفُ (المطهَّم من الناس هو الحسن الكامل ومن الخيل هو الكامل والرشيق)
ما لنا في النَّدَى عليكَ اختيارٌ كلُّ ما يَمنَحُ الشَّريفُ شرِيفُ
وكان سيف الدولة والمتنبي في طريقهما إلى الرقَّة في طقس عاصف وماطر، فأنشده هذين البيتين:
لعيْني كُلَّ يومٍ مِنْكَ حَظٌّ تَحيرُ مِنْهُ في أمْرٍ عُجابِ
حِمَالَةُ ذا الحُسَامِ عَلى حُسَامٍ ومَوقعُ ذا السَّحابِ على سَحابِ
فلما زاد المطر أكمل المتنبي قصيدته:
تَجِفُّ الأرضُ من هذا الرَّبابِ، ويَخلقُ ما كَساهَا مِنْ ثِيابِ
وما ينفكُّ مِنكَ الدَّهرُ رَطْباً ولا ينفكُّ غَيثُكَ في انْسِكابِ
تُسايِرُكَ السَّوارِي والغَوَادي مُسايرة الأحِبَّاءِ الطِّرابِ
تُفيدُ الجُودَ مِنكَ فتَحتَذيهِ وتَعجِزُ عَن خلائِقِكَ العِذابِ
وكان المتنبي يغالي أحياناً في مديحه لسيف الدولة الحمداني، على غرار هذين البيتين حيث قالهما عندما سمع سيف الدولة الأذان فترك من يده كأس الشراب:
ألا أذِّن فَمَا أذكرتَ نَاسِي، ولا لَيَّنتَ قَلباً وهوَ قَاسِ
ولا شُغِلَ الأميرُ عن المَعَالي، ولا عن حَقِّ خالِقِهِ بكَاسِ
وقال في رثاء والدة سيف الدولة عام 948 للميلاد:
نُعِدّ المشرفيَّةَ والعَوالي وتَقتلُنا المنونُ بِلا قِتالِ
ونرتَبِطُ السَّوابِقَ مُقْرَباتٍ وما يُنْجينَ مِنْ خبَبِ اللَّيالي
ومَنْ لم يَعشقِ الدُّنيا قَديماً ولكِنْ لا سَبيلَ إلى الوِصالِ
نَصيبُكَ في حَياتِكَ من حَبيبٍ نَصيبُكَ في مَنامِكَ من خيَالِ
رَماني الدَّهرُ بالأرْزاءِ حتَّى فُؤادي في غِشاءٍ مِنْ نِبالِ
فَصِرْتُ إذا أصابَتْني سِهامٌ تكَسّرَتِ النّصالُ على النّصالِ
أطابَ النَّفسَ أنَّكِ مُتِّ مَوْتاً تَمنَّتهُ البَوَاقي والخَوَالي
وزُلْتِ ولم تَرَيْ يَوْماً كَريهاً تُسَرّ النَّفسُ فيهِ بالزَّوالِ
رِواقُ العِزّ فوقَكِ مُسْبَطِرٌّ ومُلْكُ عَليٍّ ابنِكِ في كمَالِ
سَقَى مَثواكِ غادٍ في الغَوادي نَظيرُ نَوَالِ كَفّكِ في النَّوالِ
يَمُرُّ بقَبرِكِ العافي فيَبكي ويَشغَلُهُ البُكاءُ عَنِ السُّؤالِ
ولوْ كانَ النِّساءُ كمَنْ فقدْنا لفُضَّلَتِ النِّساءُ على الرّجالِ
وما التأنيثُ لاسمِ الشَّمسِ عَيبٌ ولا التّذكيرُ فَخرٌ للهِلالِ
وقال في رثاء أبي الهيجاء بن سيف الدولة الحمداني:
بنا منكَ فوْقَ الرّملِ ما بكَ في الرّملِ وهذا الذي يُضْني كذاكَ الذي يُبلي
كأنَّكَ أبصرتَ الذي بِي وخِفْتَهُ إذا عشتَ فاخترتَ الحِمامَ على الثُّكلِ
تركتَ خُدودَ الغانِياتِ وفَوْقَها دموعٌ تُذيبُ الحُسْنَ في الأعينِ النُّجلِ
تَبُلُّ الثّرَى سوداً منَ المِسكِ وحدَه وقد قطرَتْ حُمراً على الشَّعَرِ الجَثلِ
فإنْ تَكُ في قَبرٍ فإنّكَ في الحَشَا وإنْ تَكُ طفلاً فالأسَى ليسَ بالطفلِ
ومِثْلُكَ لا يُبكَى على قَدْرِ سِنّهِ ولكِنْ على قدرِ المخيلَةِ والأصْلِ
ألستَ منَ القَومِ الأُلى مِنْ رِماحِهمْ نَداهُم ومِن قتلاهُمُ مُهجةُ البخلِ
بمَولودِهِم صَمتُ اللِّسانِ كغَيرِهِ ولكنَّ في أعْطافِهِ مَنطِقَ الفضْلِ
عَزاءَكَ سَيفَ الدَّولةِ المُقْتَدَى به فإنَّكَ نَصلٌ والشَّدائدُ للنَّصلِ
مُقيمٌ مِنَ الهَيجاءِ في كلّ مَنزِلٍ كأنّكَ من كلّ الصّوارِمِ في أهلِ
ولم أرَ أعصَى منكَ للحُزنِ عَبرَةً وأثبَتَ عَقلاً والقُلُوبُ بلا عَقلِ
ومن أشهر ما قاله أبو الطيب المتنبي في مديح سيف الدَّولة ومديح نفسه قوله:
واحرَّ قَلباهُ ممَّنْ قَلبُهُ شَبِمُ ومَنْ بجِسْمي وحالي عِندَهُ سَقَمُ (القلب الشبم: بارد المشاعر قليل الإحساس)
ما لي أكتِّمُ حُبّاً قد بَرَى جَسَدي وتدَّعي حُبَّ سَيفِ الدَّولةِ الأممُ
إنْ كانَ يَجمعُنَا حُبٌّ لغُرّتِهِ فلَيتَ أنَّا بِقَدرِ الحُبِّ نَقتسِمُ
قد زرتهُ وسُيوفُ الهِندِ مُغمَدَةٌ وقد نَظَرتُ إليهِ والسُّيوفُ دَمُ
فكانَ أحْسَنَ خَلقِ الله كُلّهِمِ وكانَ أحسنَ ما في الأحسَنِ الشِّيَمُ
يا أعدلَ النَّاسِ إلا في مُعاملتي فيكَ الخِصامُ وأنتَ الخصْمُ والحكَمُ
أُعِيذُها نظراتٍ مِنْكَ صادِقَةً أن تحسَبَ الشَّحمَ فيمن شحمهُ ورمُ
وما انتِفَاعُ أخي الدُّنيَا بِناظِرِهِ إذا اسْتوَتْ عِندَهُ الأنوارُ والظُّلَمُ
سَيعلَمُ الجَمعُ ممّنْ ضَمَّ مَجلِسُنا بأنَّني خَيرُ مَن تَسْعَى بهِ قدمُ
أنا الذي نَظرَ الأعْمى إلى أدَبي وأسمعَتْ كلِماتي مَنْ بهِ صَمَمُ
أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شوارِدِهَا ويسهَرُ الخَلقُ جَرّاهَا ويخْتَصِمُ
وجاهِلٍ مَدَّهُ في جَهْلِهِ ضَحِكي حَتَّى أتَته يَدٌ فراسَةٌ وَفمُ
إذا رَأيتَ نُيُوبَ اللَّيْثِ بارِزةً فَلا تَظُنَّنَّ أنَّ اللَّيثَ يَبتسِمُ
ويكمل المتنبي قصيدته وقد عزم على ما يبدو أن يفارق سيف الدولة:
يا مَنْ يَعِزُّ علينَا أنْ نُفارِقَهُمْ وِجدانُنا كُلَّ شيءٍ بَعدكمْ عَدَمُ
ما كانَ أخلقنَا مِنكُم بتَكرِمَةٍ لَوْ أنَّ أمرَكمُ مِن أمرِنَا أمَمُ
إنْ كانَ سَرَّكُمُ ما قالَ حاسِدُنَا فَمَا لجُرحٍ إذا أرْضاكمُ ألَمُ
وبينَنَا لَو رَعيْتُمْ ذاكَ مَعرِفَةٌ إنَّ المَعارِفَ في أهْلِ النُّهى ذِمَمُ
كم تَطلُبُونَ لنا عَيباً فيُعجِزُكمْ ويَكرَهُ اللهُ ما تَأتُونَ والكرَمُ
ما أبعدَ العَيبَ والنَّقصانَ منْ شرَفي أنَا الثّرَيّا وذانِ الشَّيبُ والهَرَمُ
لَيتَ الغَمامَ الذي عِندي صَواعِقُهُ يُزيلُهنَّ إلى مَنْ عِندَهُ الدِّيَمُ
إذا تَرحَّلتَ عن قَومٍ وقَد قَدرُوا أنْ لا تُفارِقهُم فالرَّاحِلونَ هُمُ
شَرُّ البِلادِ مَكانٌ لا صَديقَ بِهِ وَشَرُّ ما يَكسِبُ الإنسانُ ما يَصِمُ
وشرُّ ما قنّصَتْهُ راحَتي قَنَصٌ شُهبُ البُزاةِ سَواءٌ فيهِ والرَّخَمُ
بأيِّ لَفْظٍ تَقُولُ الشِّعرَ زِعْنِفَةٌ تَجُوزُ عِندَكَ لا عُربٌ ولا عَجَمُ
هَذا عِتابُكَ إلا أنَّهُ مِقَةٌ قد ضُمِّنَ الدُّرَّ إلا أنَّهُ كَلِمُ
أشعار المتنبي عن الحياة
نظم المتنبي العديد من الأشعارعن الحياة وفلسفته في الحياة، فقد كانت له العديد من الدرر، فيقول:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي .. إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
وعن المشقة في الحياة قال المتنبي:
لولا المشقّة ساد النّاس كلّهم .. فالجود يفقر والإقدام قتال
وعن الابتلاءات في الحياة قال نظم المتنبي بيتًا حكيمًا قال فيه:
لعلّ عَتْبَكَ مَحْمُودٌ عَوَاقِبُه .. فرُبّمَا صَحّتِ الأجْسامُ بالعِلَلِ ُ
وأجمل أبيات المتنبي في الحكمة يقول:
بِمَ التَعَلُّلُ لا أَهلٌ وَلا وَطَنُ
وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَنُ
أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني
ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ
لا تَلقَ دَهرَكَ إِلّا غَيرَ مُكتَرِثٍ
مادامَ يَصحَبُ فيهِ روحَكَ البَدَنُ
فَما يَدومُ سُرورٌ ما سُرِرتَ بِهِ
وَلا يَرُدُّ عَلَيكَ الفائِتَ الحَزَنُ
مِمّا أَضَرَّ بِأَهلِ العِشقِ أَنَّهُمُ
هَوُوا وَما عَرَفوا الدُنيا وَما فَطِنوا
تَفنى عُيونُهُمُ دَمعاً وَأَنفُسُهُم
في إِثرِ كُلِّ قَبيحٍ وَجهُهُ حَسَنُ
تَحَمَّلوا حَمَلَتكُم كُلُّ ناجِيَةٍ
فَكُلُّ بَينٍ عَلَيَّ اليَومَ مُؤتَمَنُ
ما في هَوادِجِكُم مِن مُهجَتي عِوَضٌ
إِن مُتُّ شَوقاً وَلا فيها لَها ثَمَنُ
يا مَن نُعيتُ عَلى بُعدٍ بِمَجلِسِهِ
كُلٌّ بِما زَعَمَ الناعونَ مُرتَهَنُ
أصعب ما قاله المتنبي
نظم المتنبي أصعب بيت شعري يقول فيه:
عِشِ ابْقَ اسْمُ سُدْ جُدْ قُدْ مُرِ انْهَ اثرُ فُهْ تُسَلْ
غِظِ ارْمِ صِبِ احْمِ اغْزُ اسْبِ رُعْ زَعْ دِ لِ اثنِ نَلْ
وقد نظم المتنبي هذا البيت حينما سُئل بيتًا يضم أكثر ما يمكن من الحروف، وقد شرح أبو العلاء المعري هذه الأبيات، فيقول:
- عش تأتي من العيش.
- ابق: من البقاء.
- اسم: من السمو.
- سد: من السيادة.
- قد: من القيادة.
- جد: من الجود.
- مر: من الأمر.
- أنه: من النهي.
- وره: من الرؤية.
- وفه: من الوفاء.
- أسر: من السرية.
- نل: من النيل أو الإدراك.
- غظ: من الإغاظة، إي غظ حسادك.
- ارم: يقدم بها ارم من يكيدك.
- صب: يقدم بها من إصابة السهم الهدف، أي لا تزال ترمي أعدائك فتصيبهم.
- واحم: من الحماية.
- أغز: من الغزو
- اسب: من السبي.
- رع: أخف أعدائك وافزعهم.
- زع: امنع شر أعدائك.
- ده: من إعطاء الدية لأخل القتل.
- له: من الولاية.
- أثن: أبعد أعدائك عن الوصول إليك.
- بل: من الوبل أي المطر الشديد وتعني العطاء الشديد الكوابل.
أخيراً... ما زال ديوان أبي الطيب المتنبي زاخراً بكنوز ونفائس شعرية خالدة يضيق مقامنا هذا عن ذكرها كلها، ومازال الدارسون والمهتمون بالأدب والشِعر العربي يبحثون في أبيات أبي الطيب المتنبي عن معانيها وظروفها.
فهو كان كثيف الإنتاج متعدد المواضيع، فكان يهجو ويمدح في قصيدة واحدة، ويريد لنفسه من الفخر ما يريده للأمير من المديح والرضا.