«النبي».. قبب وسجون ووجوه
خلال ساعة ونصف الساعة في فيلم الكرتون «النبي»، المأخوذ عن كتاب «النبي» للراحل جبران خليل جبران، تعيش عوالم الحياة والحب، الحرية، العلم، السلطة، الزواج، الموت، والكثير الكثير من الحكم والمواعظ التي تدور في فلك الشخصية الرئيسة «مصطفى» المسجون، حسب تفسيره، لأنه شاعر، والطفلة الخرساء «الميترا» التي فقدت الرغبة في الكلام بعد وفاة والدها. ثماني قصص حكيمة من أصل 24 قصة في الكتاب يعيشها المشاهد، ويشعر للحظات أنه في مكان خاص للاسترخاء، بسبب الحكايات المعبرة الممزوجة بموسيقى ساحرة ولوحات فنية خلابة.
الفيلم الذي أسهمت في إنتاجه الفنانة سلمى حايك، وشارك في اخراجه ثمانية مخرجين، من بينهم الإماراتي محمد سعيد حارب، ويعرض حالياً في دور السينما المحلية، أراد أن يصل الى الأطفال قبل الكبار، ومع أن اللغة فيه عالية المستوى، الا أن فكرة ايصال مثل هذه اللغة للطفل، بحد ذاتها، قيّمة.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
تبدأ الحكاية مع الطفلة الميترا الخرساء المشاغبة التي يبغضها معظم سكان الحي، فهي لا تعبر بالصوت عن ما تريده، وتقوم بأعمال سيئة كسرقة الكعك من الخباز، لكن في عيونها حزن شديد تشاطره مع طائر، تلتقي به في السطح وتحاول الطيران معه، أمها الأرملة، التي تحاول قدر استطاعتها تعويض البائعين عن الخراب الذي تتسبب فيه ابنتها، تعمل في رعاية مسجون رأي اسمه مصطفى
استرخاء كامل، هذا هو الوصف الدقيق فعلاً أثناء مشاهدتك الفيلم، الذي يحتاج إلى عقل متيقظ لتتبع كل جملة فيه وكل نغمة، وكل مشهد تمثيلي لكل حكاية، فعلاقة المرء مع الخوف كانت حاضرة عندما حاول مصطفى استنطاق الميترا، وفاجأها بأنه يعرف اسمها، انبهرت به، وبدأت بالإنصات له. كتاب «النبي» يعتبر من أكثر الكتب مبيعاً وانتشاراً في العالم، حتى إن بعض النصوص فيه كانت تدرس في المناهج المدرسية، خصوصاً في بلاد الشام. يحاول مصطفى أن يتحدث الى الميترا عن الروح، التي يعتبرها أسمى من الجسد، يحاول قدر استطاعته تبسيط الأمر، من خلال مجسم لطائر يحلق، وهي العاشقة للطيور، يقول لها بعضاً من مقتطفات المشهد «الخلاص من الخوف، هو لن يكون بيد الأشباح التي تخافونها، بل بقوة قلوبكم»، وقال أيضاً «تصبح حقاً حراً ليس عندما تملأ السكينة لياليك، وعندما تتمكن من الارتفاع فوق كل الأشياء التي تربطك بالحياة».
تنبهر الصغيرة الميترا في الوقت الذي يدخل فيه رئيس الشرطة يبشر مصطفى بحريته، على شرط العودة إلى بلاده، فكل الأحداث تحدث في مدينة أورفليس الخيالية، وكل الحبكة تبدأ من هذه المدينة إلى الميناء التي يجب أن يذهب على أحد سفنه مصطفى إلى بلاده، فبين المدينة والبحر قصة حياة وموت سيعيشها المشاهد بتفاصيل عذبة، مع رسم له علاقة بوجوه تشبهنا أكثر، لديها ملامح كملامحنا، وردّات فعل شعبية قريبة من شوارعنا، هذا النوع من الرسم الذي كاد أن يصبح في طي النسيان.
في ذكاء طفلة استطاعت الميترا أن تكتشف أن موضوع حرية مصطفى ما هو إلا خدعة، ويكون حدسها في محله، فتقرر اللحاق به كي توحي له بالخطر، ومعه تعيش حب الناس لمصطفى، الذي يؤكد في أحد المشاهد مع مسؤول الحي بصفة أقرب إلى رئيسهم «الناس لا تنسى الكلمة التي تدخل العقل قبل القلب، فالسجن سبع سنوات لم يكن حاجزاً».
قبل خروجه كان مصطفى يتحدث مع والدة الميترا، عن علاقة الآباء مع الأبناء، عندما شكت له حال عدم خنوع ابنتها لها، ويقول لها: «أولادكم ليسوا أولاداً لكم. إنهم أبناء وبنات الحياة المشتاقة إلى نفسها، بكم يأتون إلى العالم، ولكن ليس منكم. ومع أنهم يعيشون معكم فهم ليسوا ملكاً لكم». ويقول لها أيضاً: «يمكنكم أن تجهدوا كي تكونوا مثلهم، لكن ليس عليكم أن تجعلوهم مثلكم، لأن الحياة لا تمشي القهقرى ولا تتمهل مع الأمس، انتم الأقواس التي تطلق أولادكم كما تنطلق السهام الحية الى البعيد، حامل القوس يبصر الهدف، كي تنطلق سهامه سريعة وصائبة، عندما يحنيكم حامل القوس طاوعوه عن بهجة ورضا، لأنه مثلما يحب السهم المنطلق يحب كذلك القوس الثابت في يده».
أولى المحطات خارج السجن كانت أمام فرح للزواج، التفّ الجميع حول مصطفى يهنئونه على حريته، فطلبت أم العروس أن يقول شيئاً عن الارتباط، صوته ذهب مع لوحة تعبيرية بين رجل وامرأة وصوت مصطفى وعظته مع موسيقى «قد ولدتم معاً، وستظلون معاً إلى الأبد. وستكونون معاً عندما تبدد أيامكم أجنحة الموت البيضاء.. أحبوا بعضكم بعضاً، ولكن لا تقيدوا المحبة بالقيود.. قفوا معاً ولكن لا يقرب أحدكم من الآخر كثيراً، لأن عمودي الهيكل يقفان منفصلين، والسنديانة والسروة لا تنمو الواحدة منهما في ظل رفيقتها».
(غابريال يارد) المؤلف الموسيقي للفيلم، استطاع بالفعل أن يكون محركاً أساسياً لكل أقوال مصطفى، فالمزج في موسيقاه كانت حاضرة، في كل مشهد، بين المساجد والقبب والسجون ووجوه المارة ولهفتهم، وحتى أمام الميناء الذي كان يعبر عن الخلاص، حركت موسيقاه الكثير من المشاعر، ويبدو أن مشاهدة مثل هذا الفيلم في ظل الأوضاع المليئة بالأوجاع التي تعيشها اقطار عربية كان سبباً في طريقة وقع الفيلم على المتلقين، ففيلم البؤساء على سبيل المثال لا الحصر، وقع مشاهدته قبل الثورات العربية مختلف تماماً عن بعدها، هكذا هي السينما قادرة بشكل ساحر أن تدخلك الى عوالمك التي تريد لها جواباً.
اللغة البصرية في الفيلم التي من الممكن أن تكون العنصر الأساسي في فيلم موجه للأطفال، لم تستطع إلا أن تكون على قدر الكلمة والمقطوعات الموسيقية، لذلك من الصعب أن يفهم الطفل الكثير من حالة الفيلم القريبة الى الروحانيات منها الى الواقع، فهنا لا نتحدث عن الخيال الذي من المفترض أن يذهب به الطفل الى أبعد حد، بل نتحدث عن قيمة الروح في التعاطي مع أساسيات الكون، فالحديث مثلاً عن التعاضد بين المجتمع الواحد دون نبذ الآخر، خصوصاً في علاقة الحي مع الطفلة الخرساء الميترا قال مصطفى: «اذهبوا للحب قدر استطاعتكم، ستتحدان معاً، وليكن مجال في ما بينكم كي ترقص رياح السلام، أحبوا بعضكم بعضاً، لكن حذاري أن تجعلوا الحب قيداً، بل يكن حبكم بحراً ترتاح فيه شواطئ نفوسكم، وليملأ الواحد كأس رفيقه لكن دون أن يشرب الاثنان من كأس واحد، وليعطي واحدكم الآخر من خبزه، لكن من غير أن يأكل الاثنان من الرغيف عينه، غنوا وارقصوا لكن ليبقَ كل واحد منكم على حدة، كما تبقى أوتار القيثارة على حدة، اذ هي تهتز معاً على نغم واحد، جودوا بقلوبكم، لكن دون أن تأتمنوا سواكم عليها، فما من يد تسع قلوبكم إلا يد الحياة».
هذه محطات يقف فيها مصطفى والميترا تلحقه طوال رحلته، وفي مشهد يقول فيه ضابط الشرطة لمصطفى إن الخراف تظل خرافاً كناية عن الشعب الذي يخاف اليد الحديدية، يأتي مشهد لخروف وهو يسقط الضابط، فيقول له مصطفى: «أرأيت يستطيع خروف ان تكون لديه كلمته اذا قرر أن يخرج من القطيع».
يصل مصطفى إلى الحي الذي يكره الميترا، يرحبون به، ويدللونه، بالطعام والشراب، يلتفون حوله، يقولون مدى تأثرهم به، وكيف استطاعت كلماته أن تغير حياتهم للأفضل، يتكلمون عن العمل ومستوياته، مع مشهد لرجل فقير يعمل بأمور بسيطة، فرد عليه مصطفى أمام الجمع «كل الأعمال نبيلة، أنتم تعملون طواعية للأرض ولروح الأرض، أما البطالة فغريبة عن الأرض، وليس هو من موكب الحياة، نحن اللامتناهي، وانتم عندما تعملون تتحولون الى ناي يصدر موسيقى عذبة، وعندما تعملون بحب تتحالفون مع انفسكم ومع الآخرين، العمل هو كالنسيج الذي تخيطه كي ترتديه حبيبة قلبك».
من الصعب جداً تلخيص ما حدث في الفيلم، بين مقتطفات وصور، ولقطات، فهو مليء بالعناصر التي تحقق الشغف، فالكرم تحدث فيه بشكل يجب أن تشاهده قبل أن تسمعه، تتخيل معه قيمته وممن بعض ما قال «عندما تعصر كرومك، قل عن نفسك أنك أنت نفسك كرمة، يجب أن يتذوقني الكثير».
في المشهد الذي يعترف فيه الشرطي حليم التابع لرئيس الشرطة المتسلط في حبه لوالدة الميترا، قال مصطفى عن الحب «إذا الحب أومأ اليكم فاتبعوه، وان كانت مسالكه وعرة، واذا لفّكم بجناحيه فثقوا به، مع أن روحه مختبئة، واذا الحب خاطبكم صدقوه، حتى لو كان الصوت في أحلامكم، يهز جذوركم في الأرض كيفما اكتشفت اسرار قلوبكم، الخوف ضد الحب، فاذا خفت ابتعد، الحب لا يعطي إلا من نفسه، الحب لا يطيق ان يكون مملوكاً، وحسب الحب أنه حب».
حدس الميترا في محله، وخرج مصطفى من زنزانته على أساس عودته إلى بلاده كان ينتظرها شرطا قاسيا على كل ما يحمل في قلبه رسالة أو مبدأ، فقد وقف مصطفى أمام الرئيس ينظر الحي، بعد أن ثار الشعب على الشرطة وتعاركوا معهم، بعد إدراكهم المصيدة التي وضعت لمصطفى، يجب على مصطفى أن يوقع على ورقة مفادها أن كل ما كتبه ونشره عبارة عن خزعبلات وهراء، وهو نادم على كل كلمة، حريته مقابل موته، لا خيار ثالثاً، ولأنه من دعاة الحرية قرر الموت، لكن قبل الحديث عن معنى الموت، من الجميل أخذ مقتطفات من ما قاله مصطفى في تهدئة الشعب الذي ثار من أجله «الشر، هو أن الفرق بينه وبين الخير الذي اذا عطش يشرب من المياه الآسرة، أنتم اخيار عندما تعطون من ذواتكم، ولكن لن تكونوا اشراراً اذا طلبتم الربح لأنفسكم، فالعطاء حاجة من حاجات الثمرة، كما الجذر حاجة من حاجات المنح، انتم أخيار عندما تعلمون ما تنطقون به، لكنكم لن تكونوا اشراراً اذا تلعثمت حروفكم».
في الوقت الذي اقترب من نهاية مصطفى، يظهر حليم بقوة، وبالرغم من أنه يخدم في سلك يضطهد الشعب الا أنه قرر الانسياق إلى هذا الشعب، لأن الحب يملأ قلبه، يقرر هو ووالدة الميترا بمساعدة الميترا على الصعود الى شباك الزنزانة، لرؤية مصطفى، ولأول مرة بعد وفاة والدها تقرر النطق، مع دموع والدتها المنسابة فرحاً، تقول لمصطفى إن عليه أن يطير، فهي شاهدته بمخيلتها وهو يطير، وهي لن تتحمل فكرة الفقدان مرة أخرى، فتكون النهاية مع فكرة الموت الذي قال عنه مصطفى موجهاً حديثه إلى الميترا «يجب ان لا نخشى الموت لأن الحياة والموت واحد، كما ان النهر والبحر واحد، كيف ستعرف سر الموت ما لم تفتش عنه في قلب الحياة، إن البومة عمياء في الليل، لكنها مبصرة في النهار، في أعماقكم تستطيعون معرفة أسرار ما بعد الموت، الا تثقون بأحلامكم لأن خلفها توجد آمالكم الأبدية؟ الموت هو أن يقف الانسان عارياً أمام الريح حتى يذوب مع الشمس، وهل استطاعت النفس سوى إعتاقه من مده وجزره كي يؤجل أو يسرع ذهاب الروح الى الأعلى، فقط اذا شربتم من نهر الصمت ستهابون الموت». يوصي مصطفى الصغيرة الميترا بأخذ كل متعلقاته ورسوماته التي تركها في زنزانته، وطلب منها نشرها للبشر، ووقف أمام الموت منتصب القامة غير خائف، يسمع أنين الشعب الذي يقف خلف الجدران، وانطلقت رصاصة الموت الى صدره، واندمجت مع مشهد كتابته التي تطايرت من يد الميترا ووالدتها في الجو، فالرسالة وصلت للجميع.