ما المقصود بالتنمية المستدامة؟
تسعى حكومات دول العالم على اختلاف أنظمتها السياسية ومناهجها الاقتصادية لتحقيق التنمية المستدامة، فما هي هذه التنمية؟ كيف ظهر هذا المصطلح؟ وماهي أهدافها؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذه المقالة.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
تعريف التنمية المستدامة وجذور المصطلح في أوروبا
عرف القاموس السياسي الفرنسي التنمية المستدامة، بأنها شكل من أشكال التنمية الاقتصادية، هدفها التوفيق بين التقدم الاقتصادي والاجتماعي من جهة والحفاظ على البيئة من جهة أخرى، من أجل ضمان مستقبل الأجيال القادمة. وهناك من يعرف التنمية المستدامة على أنها عملية تسعى لتحقيق أهداف التنمية البشرية مع الحفاظ على قدرة الأنظمة الطبيعية على الاستمرار في توفير الموارد الطبيعية التي يعتمد عليها الاقتصاد والمجتمع.
متطلبات التنمية المستدامة
تجمع التنمية المستدامة بين العديد من المتطلبات:
- الاحتياجات الأساسية للأجيال الحالية والمستقبلية (الماء، الغذاء، التعليم، الصحة، العمل).
- تحسين نوعية المعيشة (الخدمات الاجتماعية، الإسكان، الثقافة...).
- احترام الحقوق والحريات.
- بناء أشكال جديدة من الطاقة المتجددة (الرياح والطاقة الشمسية والطاقة الحرارية الأرضية).
بداية ظهور مصطلح التنمية المستدامة
تعود جذور مصطلح التنمية المستدامة إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوروبا، حيث اُستخدم للحديث عن إدارة مستدامة للغابات، نظراً لتزايد الوعي بخطورة استنزاف موارد الأخشاب في إنكلترا، حيث قال الكاتب الإنكليزي جون إيفلين (John Evelyn) في كتابه (مقال سيلفا) المنشور في عام 1662: "زراعة الأشجار واجب وطني على كل مالكٍ للأرض، من أجل وقف الإفراط في استغلال الموارد الطبيعية".
وفي عام 1713 وضع مسؤول التعدين في ولاية سكسونيا البريطاني هانز كارل فون (كارلويتز Carlowitz Carl von) كتاباً عن إدارة الغابات عنوانه: (Sylvicultura oeconomica)، ثم انتقل المصطلح إلى بقية دول العالم خلال القرن التاسع عشر.
التنمية المستدامة في القرن العشرين
شكل كتاب (الربيع الصامت) لعالمة الأحياء الأمريكية راشيل كارسون (Rachel Carson) المنشور في عام 1962، نقلة نوعية في التنمية المستدامة، حيث لفتت العالمة في كتابها للعلاقة بين النمو الاقتصادي والتنمية وبين التدهور البيئي، ثم دخل الاهتمام بالتنمية المستدامة صلب عمل منظمة الأمم المتحدة، حيث عرّفت اللجنة العالمية للبيئة والتنمية للأمم المتحدة (WCED) المعروفة باسم "لجنة برونتلاند"؛ التنمية المستدامة في عام 1987 بأنها: "التنمية التي تلبي احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها الخاصة"، ويحتوي هذا المصطلح على مفهومين أساسيين، هما:
- الاحتياجات، المقصود بها توفير الاحتياجات الأساسية للفقراء في العالم، والتي يجب أن تعطى الأولوية القصوى بالنسبة للحكومات.
- القيود التي تفرضها حالة التكنولوجيا والتنظيم الاجتماعي على قدرة البيئة على تلبية الاحتياجات الحالية والمستقبلية، فالموارد محدودة وفقا لها والإفراط في استخدامها قد يحرم الأجيال المستقبلية منها.
وفي عام 1992، بدأت محاولات مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية لإقرار "ميثاق الأرض"، الذي يدعو لبناء مجتمع عالمي عادل ومستدام وسلمي في القرن الحادي والعشرين، وهو ما تحقق في عام 2002، حيث تضمن ميثاق الأرض المبادئ التالية:
أولاً، الاحترام والعناية بمجتمع الحياة
يشمل هذا المجال المبادئ التالية:
- احترام الأرض والحياة بكل تنوعها.
- تقبل أن الحق في تملك وإدارة واستخدام الموارد الطبيعية يتلازم مع واجب؛ منع الضرر البيئي وحماية حقوق الناس.
- رعاية المجتمع من خلال التفاهم والرحمة والحب بين أفراده.
- بناء مجتمعات ديمقراطية تقوم على التشاركية والعدالة.
- التأكد من أن المجتمعات في جميع المستويات، تضمن حقوق الإنسان والحريات الأساسية وتوفير الفرص لكل فرد لتحقيق إمكاناته الكاملة.
- التأكيد على أن زيادة الحرية والمعرفة تساهم في تعزيز الصالح العام.
- الحفاظ على الأرض بموارها وجماليتها للأجيال الحالية والمستقبلية.
ثانياً، الحفاظ على البيئة
يشمل هذا المجال المبادئ التالية:
- حماية واستعادة سلامة النظم البيئية للأرض، والاهتمام بالتنوع البيولوجي للحيوانات والنباتات التي تعيش على الأرض.
- اعتماد أنماط الإنتاج والاستهلاك والاستنساخ التي تحمي قدرات التجدد بالنسبة للأرض وحقوق الإنسان ورفاهية المجتمع.
- تشجيع دراسة الاستدامة البيئية وتعزيز التبادل المفتوح والتطبيق الواسع للمعرفة المكتسبة.
- حماية الأنواع الحيوانية والنباتية المهددة بالانقراض.
- إدارة استخدام موارد الطاقة المتجددة مثل الماء والتربة ومنتجات الغابات، والحياة البحرية في الطرق التي لا تتجاوز معدلات التجدد والتي تحمي صحة النظم الإيكولوجية (البيئية) .
- إدارة استخراج واستخدام الموارد غير المتجددة مثل: المعادن والوقود الاحفوري، بطرق تقلل الاستنزاف والهدر ولا تسبب أي ضرر بيئي خطير.
- اتخاذ الإجراءات اللازمة لتجنب احتمال وقوع ضرر بيئي خطير أو لا رجعة فيه حتى عندما تكون المعرفة العلمية غير مكتملة أو غير حاسمة (كدفن النفايات السامة في الأرض على سبيل المثال).
ثالثاً، العدالة الاجتماعية والاقتصادية
يشمل هذا المجال المبادئ التالية:
- القضاء على الفقر باعتباره ضرورة أخلاقية واجتماعية وبيئية.
- التأكد من أن الأنشطة الاقتصادية والمؤسسات على جميع المستويات تسعى لتعزيز التنمية البشرية بطريقة منصفة ومستدامة.
- التأكيد على المساواة والعدالة بين الجنسين كشرط مسبق للتنمية المستدامة، وضمان حصول الجميع على التعليم والرعاية الصحية والفرص الاقتصادية.
- الحفاظ على حق للجميع دون تمييز، في بيئة طبيعية واجتماعية داعمة للكرامة الإنسانية، والصحة الجسدية والروحية، والاهتمام بحقوق الشعوب الأصلية والأقليات.
- تعزيز التوزيع العادل للثروة داخل الدول وفيما بينها.
- تعزيز الموارد الفكرية والمالية والفنية والاجتماعية للدول النامية، وإعفائهم من الديون الدولية المرهِقة.
- تعزيز المشاركة الفعالة للمرأة في جميع جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والمدنية والاجتماعية والثقافية، بوصفها شريكاً كاملاً وعلى قدم المساواة مع الرجل.
- تكريم ودعم الشباب في مجتمعاتهم، من خلال تمكينهم من القيام بدورهم الرئيسي في خلق مجتمعات مستدامة.
- حماية واستعادة الأماكن الهامة ذات القيمة الثقافية والروحية.
رابعاً، الديمقراطية واللاعنف والسلام
يشمل هذا المجال المبادئ التالية:
- تعزيز المؤسسات الديمقراطية على جميع المستويات، توفير الشفافية والمساءلة في الحكم، المشاركة في صنع القرار، والوصول إلى العدالة.
- دمج التعليم النظامي والتعلم مدى الحياة والمعرفة والقيم والمهارات اللازمة لضمان الحياة المستدامة.
- القضاء على الفساد في جميع المؤسسات العامة والخاصة.
- تعزيز دور وسائل الإعلام في رفع الوعي بالتحديات البيئية والاجتماعية.
- حماية جميع الكائنات الحية مع الاحترام والتقدير.
- منع القسوة على الحيوانات الموجودة في المجتمعات البشرية وحمايتهم من المعاناة.
- حماية الحيوانات البرية والبحرية من أساليب الصيد الجائر.
- تشجيع ودعم التفاهم المتبادل والتضامن والتعاون بين جميع الشعوب وداخل الدول وفيما بينها.
- تنفيذ استراتيجيات شاملة لمنع الصراعات العنيفة، والتعاون لحل الصراعات والمنازعات البيئية الأخرى بالطرق السلمية.
- إزالة الأسلحة النووية والبيولوجية السامة وغيرها من أسلحة الدمار الشامل.
- نشر ثقافة التسامح واللاعنف والسلام.
خطة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام 2030
تبنت منظمة الأمم المتحدة خطة للتنمية المستدامة في عام 2015 لتحقيقها خلال الخمسة عشرة سنة المقبلة، أي حتى عام 2030، حيث دخلت هذه الخطة حيز التنفيذ في الأول من شهر كانون الثاني/يناير عام 2016، وتهدف التنمية المستدامة إلى حشد الجهود لوضع حد لجميع أشكال الفقر، فالقضاء على الفقر شرط لا غنى عنه لتحقيق التنمية المستدامة، وتحقيقاً لهذه الغاية يجب اتخاذ الإجراءات التالية:
- تعزيز النمو الاقتصادي المستدام والشامل والعادل.
- خلق المزيد من الفرص للجميع.
- الحد من عدم المساواة.
- رفع المعايير الأساسية للمعيشة.
- تعزيز التنمية الاجتماعية المنصفة والاندماج.
- تعزيز الإدارة المتكاملة والمستدامة للموارد الطبيعية.
على الرغم من أن هذه الخطة غير ملزمة للدول، لكن الدول التي تقبل بها عليها وضع خطط تنفيذية لها، مع تقييم للتقدم المحرز في أهداف الخطة. مجالات مستدامة
مجالات التنمية المستدامة في البيئة والاقتصاد والثقافة والمجتمع
تتطلب التنمية المستدامة تحسين ظروف المعيشة لجميع الناس من دون زيادة في استخدام الموارد الطبيعية بما يتجاوز قدرة الأرض على التحمل، حيث اقترح الاقتصادي البريطاني رينيه باست (Passet Renee) في عام 1979 تحقيق التنمية المستدامة في ثلاثة مجالات، هي: البيئة، الاقتصاد، المجتمع، ثم أُضِيف لها مجالاً رابعاً هو الثقافة.
التنمية المستدامة في مجال البيئة
يعد الاستقرار البيئي للبشر جزء من العلاقة بين البشر وبيئاتهم الطبيعية، الاجتماعية، العمرانية، ما جعل التركيز على التنمية المستدامة في هذا المجال مهماً للغاية، لتشمل صحة الإنسان واحتياجاته الأساسية، مثل: توافر الهواء، الماء، الغذاء، المأوى، الجودة، لذلك تسعى التنمية المستدامة لمعالجة المخاطر الصحية من خلال الاستثمار في خدمات النظم الإيكولوجية التي يمكن أن تكون قوة فاعلة لتحقيق التنمية المستدامة.
تتعلق الاستدامة البيئية بالبيئة الطبيعية، أي كيف نستثمرها ونحافظ في نفس الوقت على إنتاجها وتنوعها، حيث تتطلب الاستدامة البيئية للمجتمع تصميم الأنشطة الهادفة لتلبية احتياجات الإنسان مع الحفاظ على نظم دعم الحياة على كوكب الأرض، فعلى سبيل المثال، يجب استخدام المياه بشكل مستدام، أي استثمار المياه من خلال بناء السدود والآبار، بالتزامن مع ترشيد استخدامها للحفاظ على حقوق الأجيال المقبلة في التمتع بكميات كافية من المياه.
التنمية المستدامة في مجال الاقتصاد
تسعى الدول من خلال التنمية المستدامة لضمان المساواة بين الأجيال الحاضرة والمستقبلية في استثمار الموارد، في كل المجالات:
- الزراعة: يمكن استخدام الأساليب الصديقة للبيئة الزراعية، التي تسمح بإنتاج المحاصيل وتربية الماشية من دون الإضرار بحقوق الأجيال القادمة في استخدام هذه الموارد، من هذه الأساليب:
- زراعة الأشجار المعمرة (كالزيتون، التفاح).
- زراعة الأشجار الحراجية (كالسرو، الصنوبر)، للمحافظة على الغابات في المستقبل.
- زراعة محاصيل متعددة في الأرض الواحدة، لضمان عدم استنزاف خصوبة التربة، كزراعة موسم البطاطا، ثم موسم الفول، فالملفوف وهكذا..
- الصناعة: يمكن استخدام طرق نظيفة لضمان توفير المنتجات للأجيال الحاضرة، وفي نفس الوقت عدم المساس بقدرة الأجيال المقبلة في الحصول على حاجتها من هذه المنتجات، من خلال:
- استخدام الطاقة المتجددة كالشمس والرياح، لتوليد الطاقة الكهربائية وتشغيل المصانع بعيداً عن استخدام وسائل الطاقة الأحفورية كالبترول والغاز التي تسبب تلوثاً في البيئة.
- استخدام التكنولوجيا الحديثة كالآلات، لضمان توفير كميات كبيرة من المنتجات تكفي الأجيال الحاضرة في زمن قياسي.
- المواصلات: يمكن تطبيق تنمية مستدامة في مجال المواصلات، من خلال:
- استخدام وسائل النقل بطريقة رشيدة وباستخدام محروقات صديقة للبيئة، يساعد في انخفاض الغازات السامة، الأمر الذي يساعد على خلق فرص عمل، وتحسين السلامة للركاب، من خلال الاستثمار في ممرات الدراجات والمشاة.
- تنفيذ مشاريع الطرق الواسعة والجسور التي تأخذ بعين الاعتبار حجم السيارات التي يمكن أن تسير على هذه الطرق والجسور الآن وفي المستقبل، إضافة للتوسع في إقامة الأرصفة وممرات خاصة للدراجات لحماية المشاة، والتقليل من الحوادث.
التنمية المستدامة في مجال المجتمع
يمكن تحقيق التنمية المستدامة للمجتمع من خلال إقامة مشاريع وخطط تضمن توفير فرص عمل للأجيال الداخلة إلى سوق العمل بشكل متواتر، الأمر الذي يضمن عدم حصول بطالة في المستقبل أو على الأقل الحد منها قدر المستطاع، من خلال استثمار طاقات القطاع العام والخاص لتحقيق هذا الهدف، إضافةً للتوسع في المستويات التعليمية لضمان مستوى تعليمي لائق للأجيال المقبلة.
التنمية المستدامة في مجال الثقافة
يمكن تطبيق تنمية ثقافية من خلال وضع سياسة ثقافية متينة، الدعوة إلى التركيز على البعد الثقافي في جميع السياسات العامة، ضمان التنوع الثقافي ليؤمن ذاكرة تراثية ثقافية للأجيال المقبلة.
في الختام.. لطالما شكلت التنمية المستدامة هدفاً لحكومات كل دول العالم، في وقتٍ شكلت فيه مطلباً للناس في كل مكان، فالكل يريد ضمان مستقبل أبنائه وأحفاده من كل شيء سواءً في الموارد الطبيعية، المنتجات الاقتصادية، فرص العمل، وجود تراث ثقافي يفخر فيه هذا الجيل أو ذاك، وتبقى العبرة في مدى نجاح الحكومات بتطبيق خططها لتحقيق هذه التنمية.