معلومات عن شيخ الإسلام ابن تيمية
This browser does not support the video element.
بدايات الجدل في حياة شيخ الإسلام
أول ما جادل فيه ابن تيمية كان صفات الله
أفكار وآراء ابن تيمية منفصلة عن عصره وأوانه
آراء شيخ الإسلام إبن تيمية من التصوف والشيعة
لم يكن اسم الشيخ تقي الدين بن تيمية مطروحاً بين العامة من الناس قبل فترة بسيطة، حيث كانت وفاته في السجن في القرن الرابع عشر الميلادي نهاية لاتصاله المباشر بالعامة؛ لتصبح آراؤه وفتواه شأناً من شؤون الدارسين والمختصين في العلوم الشرعية.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
لكن الظروف التي يمرُّ فيها العالم الإسلامي اليوم والتي تعتبر شبيهة بظروف عصر ابن تيمية أعادت إلى الواجهة الخلاف حول آراء شيخ الإسلام بين من يعتبره المدافع الأقوى عن الدين القويم ومنهاج السلف الصالح، ومن يعتبره المؤسس الفعلي لكل حركات التطرف الديني والعنف باسم الدين، لكن هل يعلم مؤيدو ابن تيمية ومعارضوه ما يكفي عن حياته وآرائه؟ هذا ما سنحاول أن نقدمه في هذه المادة.
نسب العلامة إبن تيمية
هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن الخضر، المعروف بأبي العبَّاس ابن تيمية الحرّاني نسبة إلى مسقط رأسه، ثم الدمشقي نسبة إلى موطن نشأته ومماته، ثم الحنبلي نسبة إلى مذهبه، حيث ولد ابن تيمية في العاشر من ربيع الأول سنة 661 للهجرة الموافق 22 كانون الثاني/يناير عام 1263 ميلادي في حرَّان الواقعة في الجزيرة السورية.
وكانت حرَّان قد اتخذت المذهب الحنبلي كما كانت عائلة ابن تيمية من كبار علماء حرَّان وفقهائها على هذا المذهب، حيث ورثت عائلته الخطابة والإمامة بعضهم عن بعض وكان آخرهم والده عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الذي غادر حرَّان إلى دمشق هرباً من المغول.
أما والدة ابن تيمية هي ستُّ النِعم بنت عبدوس الحرَّانية وكان لها تسعة أبناءٍ من الذكور الذين حملوا عن آبائهم شغل الفقه وأمور الدين فعرف منهم بدر الدين أبو القاسم، وشرف الدين عبد الله، وزين الدين عبد الرحمن، لكن أشهرهم على الإطلاق وأكثرهم تأليفاً واجتهاداً وإثارةً للجدل كان تقي الدين بن تيمية.
تسمية ابن تيمية
وتيمية هي أمُّ مجد الدين جدُّ شيخ الإسلام التي كانت واعظة ومحدِّثة كما يذكر عبد الرحمن الشرقاوي في كتابه (ابن تيمية الفقيه المعذب)، وقد أشار صائب عبد الحميد في كتابه (ابن تيمية حياته عقائده) إلى أصل تسمية ابن تيمية، مستشهداً بقول كبير العائلة محمد بن خضر:
"حجَّ أبي أو جدي أشكُّ أيَّهما وكانت امرأته حامل، فلما كان بتيماء (قرية على طريق الحج) رأى جويرية (جارية) خرجت من خباء، فلما رجع إلى حرَّان وجد امرأته قد وضعت جارية فلما رفعوها إليه قال: يا تيميَّة، يا تيميَّة، يعني أنَّها تشبه التي رآها في تيماء فسمِّيَّ بها".
طفولة شيخ الإسلام في حرَّان والهروب إلى دمشق
كان ابن تيمية محاطاً بالفقهاء وعلماء الدين كما ذكرنا، حيث كان والده فقيه حرَّان وشيخها فعلَّمه من القرآن والحديث الشريف ما تيسر في صغره، وكان جدُّه الإمام مجد الدين صاحب (المنتقى من أحاديث الأحكام) ومؤلف كتاب (الأحكام الكبرى) وهو من المؤثرين به أيضاً، لكن العائلة غادرت قريتها عندما وصل المغول إلى تخومها حيث كانت حرَّان بوابة بلاد الشام من جهة الموصل، وكان تقي الدين بن تيمية في السادسة من عمره عندما هربت العائلة من حرَّان إلى دمشق.
في دمشق وجدت العائلة ما يسرها حيث أُسند لعبد الحليم الحرَّاني كرسي في جامع دمشق (الجامع الأموي) يدرِّس فيه كما أُسندت إليه مدرسة دار الحديث السكرية في القصَّاعين، أما ابنه أحمد فأكمل أخذ العلم عن كبار علماء الشام ومشايخها كما تتلمذ على يدِّ المحدِّثات من النساء؛ ومن أبرز معلميه:
- أحمد بن عبد القائم المقدسي.
- أبو زكريا، سيف الدين يحيى بن عبد الرحمن الحنبلي.
- مسند الشام بن أبي بكر التنوخي.
- أمُّ العرب فاطمة بنت أبي القاسم بن علي المعروف بابن عساكر.
- زينب بنت مكِّي الحرَّانية.
- شرف الدين أحمد بن نعمة المقدسي وهو القائل: أنا الذي أذنت لابن تيمية الإفتاء.
بدايات الجدل في حياة شيخ الإسلام
تشير معظم المراجع والتراجم إلى أنَّ ابن تيمية لم يكن طالباً عادياً في طفولته وصباه، بل كان ذا قدرة استثنائية على الحفظ والتحليل والنقاش، وقد تفوق على أقرانه وتنبأ له أساتذته بمستقبل متميز، حتَّى قيل أنَّ شيخاً من حلب جاء إلى دمشق وقد سمع أنَّ فيها صبياً حافظاً وواسع الفطنة، فلمَّا سأل عنه أرشدوه إليه فتلا عليه من الأحاديث ليكتبها على لوحه ثم يسمُعهُ إياها من ذاكرته، ولما رأى منه قوة حفظه قال: "إن عاش هذا الصبي ليكونن له شأنٌ عظيم".
وهذا ما كان، فأصبح تقي الدين الشابَّ ذائع الصيت بذكائه وقوَّة حجَّته، حتَّى أفتى في العشرين من عمره فكان بذلك محط أنظار العلماء الكبار، لكن كانت لابن تيمية خصلة كرهها معلموه قبل غيرهم حيث كانت تأخذه الحمية والحدَّة في النقاش، فلا يقيم وزناً لمن يخالف رأيه ويستمر في النقاش حتَّى يقضي على هيبة خصمة وإن فاقه علماً أو كبره سناً.
ومن هذه القصص التي تروى عن ذلك أنَّه جادل عالماً في الخمسين من العمر وهو ما زال في العشرين، لكن العالم تمسك برأيه لمَّا أحسَّ بالإهانة فقال له ابن تيمي: "إنَّه لَلعناد أو الجهل بالسُّنَّة".
وكان والده حاضراً فنهرهر وأنَّبه قائلاً: "أتقول لعالِمٍ أسنَّ منكَ هذا عنادٌ أو جهل؟!، فهذا منكَ قلة أدبٍ وإن كنتَ على صواب". (رواها عبد الرحمن الشرقاوي في المرجع المذكور).
ربما نستطيع من خلال هذه الحادثة أنَّ نلخص واحدة من أكبر المشكلات في حياة ابن تيمية، فهو لم يكن يقدر على الاستمرار في النقاش دون أن يحتد ويتعصب لرأيه منكراً بذلك الصواب عن المصيب وجاعلاً من الخطأ إهانة بحق المخطئ فلا يترك له مجالاً للعودة عن خطأه بل يهاجمه فيتمسك المخطئ برأيه أكثر، وعندما تكررت تلك الحوادث في نقاشاته الكثيرة صار له عدد من الأعداء الذين إمَّا غاروا منه وخافوا من حجته، أو تعرضوا للإهانة من قبله فأوغل الحقد في قلوبهم.
أول ما جادل فيه ابن تيمية كان صفات الله
هكذا كان الشيخ الشاب تقي الدين بن تيمية، متميزاً وعارفاً لكنَّه حادٌ في طرح آرائه والدفاع عنها، حيث بدأت العداوة تتطور بينه وبين بعض العلماء والشيوخ الكبار في دمشق مع تطور معرفته ودخوله مواضيع أكثر حساسية خاصةً وأنَّه أخذ مكان أبيه في الجامع الأموي ودار الحديث بعد وفاة الأخير سنة 682 هجرية، فكانت أولى موجات الغضب الكبيرة التي واجهها ابن تيمية من قبل العلماء والمشايخ بعد خطبة ألقاها عن حقيقة صفات الله.
وكان ذلك سنة 698 هجرية، فقام عليه بعض علماء الشام والقاهرة والاسكندرية من شيوخ المذاهب الثلاث (المالكية والحنفية والشافعية) فما هي آراء ابن تيمية في صفات الله؟ وكيف انتهت أولى المعارك الفقهية في حياة شيخ الإسلام؟
صفات الله عند ابن تيمية
أنكر ابن تيمية ما قال به بعض المتكلمين والصوفية عن مجازية صفات الله، وقال أن صفات الله عزَّ وجل المذكورة في القرآن الكريم إنَّما هي صفات حقيقة أولها العلو بمعناها الحقيقي وليس فقط علوّ المكانة كما يذهب المتكلمون، كذلك أيَّد ابن تيمية القائلين بالتجسيم (أو هكذا وصفه معارضوه)، فصفات الله الجسمانية حقيقية لا تقبل المجاز من حيث الوجود في جهة واحدة والاستواء على العرش والانتقال والنزول، إضافة إلى الأعضاء المذكورة كاليد والعين والوجه...إلخ، وقد قال في إنكار المجاز ضمن رسالته (رسالة صفات الله تعالى علوه على خلقه بين النفي والإثبات):
"ومعلومٌ باتفاق العقلاء أنَّ المخاطِب المبين إذا تكلم بمجاز لا بد أن يُقرن خطابه ما يدل على إرادة المعنى المجازي، فإذا كان الرسول المبلِّغ المبيِّن ما نزَّل إليهم أنَّ المراد بالكلام خلاف مفهومه ومقتضاه كان عليه أن يقرن خطابه ما يصرف القلوب عن فهم المعنى الذي لم يرد، لا سيما إن كان باطلاً ولا يجوز اعتقاده بالله".
والقصد من قول ابن تيمية أن رسول الله محمد (ص) كان ليبلِّغ الناس أنَّ هذه الصفات مجازاً لو كانت كذلك، فإذا ثبت أنَّه لم يفعل فهي حقيقية كما وردت في النص لا مكان للاجتهاد في تفسيرها على غير ما جاءت بحرفيتها.
وهذه القضية من أكثر قضايا الخلاف بين أهل العقل الذين أخذوا التأويل العقلي مذهباً يفسرون القرآن الكريم من خلاله، وبين أهل النقل الذين يتمسكون بحرفية النص ودلالاته الظاهرية، فلمَّا كان ابن تيمية قد أخذ موقفاً إلى جهة النقل حتَّى أقصاها وجد نفسه في صراعٍ كبير من العديد من العلماء والمشايخ في بلاد الشام ومصر، لكن هذا الصراع انتهى لصالحه بعد أنَّ أيده آخرون منهم أمير دمشق المملوكي جمال الدين الأفرم.
ولم يكن هذا الخلاف إلَّا جولة من حرب ضروس بين ابن تيمية وما يمثله من آراء وبين المخالفين له، ونعتقد أنَّ التهديد المغولي للشام عام 699هـ/1299م لعب دوراً محورياً في تأجيل هذه الحرب خاصةً مع سطوع نجم ابن تيمية كمحارب ومدافعٍ شرس عن دمشق في وجه المغول وتقربه الملحوظ من كبار الولاة وصولاً إلى السلطان.
مواجهة إبن تيمية للمغول
كانت دمشق هدفاً لغزوات المغول منذ منتصف القرن الثالث عشر وحتَّى بدايات القرن الرابع عشر الميلادي، وكان لابن تيمية نصيب في أن يكون ممن تصدوا للمغول في إحدى غزواتهم على دمشق عام 1303، حيث كانت البداية مع اقتراب المغول من دمشق بعد دخولهم حمص عام 699هـ/1299م، فذهب ابن تيمية مع قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وكبار علماء دمشق ليقابلوا قازان سلطان المغول في مدينة النبك بين حمص ودمشق وطلبوا منه أن يمنح الأمان لدمشق وأهلها، فأعطاهم الأمان وطلب من ابن تيمية أن يدعو له فقال:
"اللهم إن كنت تعلم أنَّه إنَّما قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وجاهد في سبيلك فأيده وانصره وإن كان قاتل للملك والدنيا والتكاثر فافعل به واصنع".
انسحاب المغول من دمشق
لم يكن أمان المغول كما أراد أهل الشام حيث عاث عسكر المغول في الشام فساداً وفرضوا الضرائب باهظة على الناس حتَّى بدت المدينة كأنَّها لم تأخذ من أمانهم شيء؛ فعاد الشيخ ابن تيمية إلى سلطان المغول قازان يشكو له ما يفعله عسكره من نهب وتعديات فضلاً عن الضرائب الباهظة المفروضة على دمشق، لكن قازان رفض لقاءه هذه المرَّة كما يذكر ابن كثير في تاريخه.
وهنا قرر ابن تيمية أن يدعوا الناس للقتال دفاعاً عن أنفسهم وعن مدينتهم، كما استطاع ابن تيمية أن يقنع الأمراء في دمشق بالتصدي للمغول فاجتمعوا وتعاهدوا على ذلك ونودي في دمشق ألا يغادرها أحد من أهلها كما بدأ الشيوخ بتشجيع الناس على القتال، ثم توجه ابن تيمية إلى القوات التي جاءت من مدينة حماة فاجتمع بهم وأعلمهم باتفاق الأمراء على مواجهة المغول.
ومن العقبات التي تصدى لها ابن تيمية كانت الشبهة التي وقعت في نفوس بعض المسلمين فيما يتعلق بقتال المغول بعد إسلامهم، فحثَّ الناس على مواجهة المغول والتصدي لهم وعدم تصديق إعلانهم للإسلام وردَّ شيخ الإسلام على المشكِّكين بجواز القتال بأنَّ المغول "ولو كانوا مسلمين فهم من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية".
وقال لهم أيضاً: "إذا رأيتموني في جانب مع المغول وعلى رأسي مصحف فاقتلوني"، فكان له دور كبير في شدِّ همة الناس وعزيمتهم وقطع شكوكهم باليقين، وقد توجت هذه الجهود بعودة السلطان الناصر محمد وقد أعاد جمع جيشه، كما لعبت الظروف الداخلية للمغول دوراً كبيراً في تراجعهم وخروجهم من الشام عام 1300 ميلادي.
دور ابن تيمية في معركة شقحب (مرج الصفر) قرب دمشق
عاد المغول ليهددوا دمشق مرَّة جديدة بعد انسحابهم عام 1300؛ فخرج ابن تيمية إلى مصر طالباً عودة السلطان المملوكي الناصر محمد لقتال المغول قبل وصولهم إلى دمشق فعاد الشيخ ومعه جيش مصر، كما قام على تنظيم الجيش الشعبي الذي تشكَّل من أهالي دمشق والقوات الوافدة من مدينة حماة ليجتمع الجيش في بلدة الكسوة جنب دمشق القريبة من بلدة شقحب.
بدأت معركة شقحب (مرج الصفر) في رمضان عام 702هـ/1303م بعد ثلاث سنوات تقريباً على انسحاب المغول من دمشق، بحضور سلطان مصر المملوكي الناصر محمد ومعه القضاة والأمراء وابن تيمية كذلك الخليفة العباسي المستكفي بالله الذي لجأ إلى مصر هرباً من المغول.
وكانت الكفة راجحة للمغول في بداية الأمر حيث كسروا ميمنة جيش الشام، لكن ابن تيمية ومن معه من الشيوخ والعلماء ظلوا يحثون الجنود على الصمود والقتال وكانت الفتوى المشهورة التي أباح ابن تيمية من خلالها إفطار رمضان أثناء المعركة كما بدأ يدور على الجيش ويأكل أمامهم ليؤكد لهم جواز الإفطار في مثل هذه الظروف حفاظاً على قوة المجاهدين.
بدأ جيش الشام ومصر بهجوم مضاد من جهة الميسرة وقلب الجيش، إلى أن تمكن الجيشان من هزيمة المغول بعد ثلاثة أيام من بداية المعركة، ولابن تيمية فضل يذكر في ذلك حتَّى عند مخالفيه، وقد روى هذه التفاصيل وغيرها الدكتور فايد حمَّاد محمد عاشور في كتابه (الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين والمغول في العصر الإسلامي) كما ذكرت العديد من المراجع دور ابن تيمية في تشجيع الناس على قتال المغول وحماية دمشق في هذه الفترة، لكن المغول عادوا ليدمروا دمشق مطلع القرن الخامس عشر بقيادة تيمور لنك (أي بعد قرن من معركة شقحب) وكانت هذه آخر غزواتهم للشام.
لا يمكن النظر إلى أفكار وآراء ابن تيمية منفصلة عن عصره وأوانه
كما ذكرنا في مقدمة هذه المادة فإن آراء ابن تيمية انحسرت شعبياً بعد وفاته بفترة قصيرة، وصارت شغل الفلاسفة وطلاب العلم وعلماء الدين، علماً أنَّ هذا الانحسار لم يتعلق بطبيعة الآراء نفسها بقدر ما ارتبط بالظروف الاجتماعية والسياسية التي عاصرها ابن تيمية والتي تلت وفاته، حيث يمكن أن نقول أنَّ عصر ابن تيمية كان عصر الخلافات الكبيرة بين مختلف الفرق الإسلامية حول أمور العقيدة والعبادة وتفاصيلها الدقيقة.
كما كان عصر التوترات السياسية باحتضار الدولة العباسية في بغداد وغزوات المغول المتكررة على الشام، أمَّا ما تلى عصر ابن تيمية فكان أيضاً كفيلاً بتراجع أفكاره واقتصارها على فئة من التابعين له خاصَّةً بعد قيام الدولة العثمانية في القرن السادس عشر التي آثرت التعامل مع الآراء الأقل تعصباً وشدَّة من آراء ابن تيمية، وقصدنا من هذا التقديم أنْ نوضح سبب إعادة بعث مذهب ابن تيمية في ظروف تكاد تكون مشابهة للظروف التي نشأت في ظلها أفكاره ومعتقداته بغض النظر عن صحتها أو خطئها، فنحن في هذه المادة لا نتبنى آراء ابن تيمية ولا نؤيد معارضيه إنَّما نكتفي بعرض ما قاله في المسائل الرئيسية وما لاقاه من ردود.
من جهة ثانية لا بد أن نقيم مقارنة بين ابن تيمية وغيره من حيث طريقة التعامل مع القضايا الفقهية والجدال فيها، فابن تيمية كما تتفق معظم المراجع لم يكن ليِّناً قط في النقاش والمجادلة، وكان أسلوبه جارحاً يقصد فيه تسفيه من خالفه الرأي فكان ينتقد كبار علماء الإسلام الأوائل والمعاصرين بأسمائهم انتقاداً عنيفاً كما يذكر الأستاذ محمد خليل هرَّاس في كتابه (ابن تيمية السلفي).
كما لم يسلم أحد من مخالفيه من انتقاداته اللاذعة التي وصلت إلى ما قيل أنَّه تكفير لهم، فكان عدواً لمعظم أصحاب الفرق والمذاهب ما جعلهم يثورون عليه عند أصحاب السلطان حتَّى صار يخرج من سجنٍ إلى سجن.
العلامة إبن تيمية في السجن
كان ابن تيمية يحظى بتأييد الحكَّام والأمراء في البداية، نستدل على ذلك من جداله الأول حول صفات الله تعالى وانتصار أمير الشام له بمواجهة المشتكين، كما يذكر ابن كثير في البداية والنهاية أنَّ ابن تيمية كان إذا أشار للسلطان أو نائبه بعزل خطيبٍ أو قاضٍ أو شيخ نُفذ طلبه دون تردد، ما يدل على مدى قربه من أصحاب الدولة في عصره، كذلك دوره في مهادنة شيعة كسروان اللبنانية ثم فتواه في جواز قتالهم وتهنئة سلطان المماليك بالانتصار عليهم كما يذكر صائب عبد الحميد في المرجع المذكور سابقاً، لكن ما الذي تغير حتَّى أصبح ابن تيمية أسيراً في سجون السلاطين في مصر والشام حتَّى وفاته؟
تنقل ابن تيمية أكثر من عشرين سنة بين سجون مصر والشام
بدأت الخلافات تظهر بين ابن تيمية والمخالفين له مع قضية صفات الله تعالى ورسالته المعروفة باسم (الحموية)، ثم بردت همَّة المعارضين له حتَّى انتصار جيش مصر والشام في معركة شقحب عام 702هـ/1303م، فأعادوا إثارة الأمر من جديد لكن الشيخ ابن تيمية كان من وجهاء الشام ما جعل التخلص منه أمراً صعباً، فاتجه معارضوه إلى سلطان المماليك في مصر ركن الدين بيبرس يشكون له أفعال وأقوال ابن تيمية، فما كان من هذا الأخير إلَّا أن استدعاه للمحاكمة فحكم عليه بالسجن في سجن القاهرة كما رفض الخروج من السجن مرَّات عدَّة لأنَّه ظن أن في خروجه تنازلاً عن آرائه، حتَّى أنَّه رفض نقاش الاتهامات الموجهة إليه أمام القاضي ابن مخلوف المالكي.
خرج ابنن تيمية من سجنه المصري عام 707هـ/ 1308م بعد أن قضى سنة ونصف السنة، وعاش في القاهرة فترة من الزمن يعطي فيها الدروس ويخطب بالناس إلى أن احتج بعض الشيوخ والعلماء على وجوده بينهم فقررت السلطنة أن تعيده إلى دمشق مع بريد الشام، كما يذكر محمد العبدة في تقديمه لكتاب (رسائل من السجن لابن تيمية)، ثم أعادوه إلى سجن القاهرة ثانيةً ومنه إلى سجن الإسكندرية حتَّى أطلقوا سراحه مجدداً ليعود إلى دمشق مع الجيش المصري الذي سيواجه المغول عام 712هـ/1313م.
السجن الشامي لابن تيمية
وكان خروج ابن تيمية من سجنه المصري بمساعي السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون، لكن أعداء ابن تيمية الكثر من أهل المذاهب السُّنِّيَّة والشيعية والصوفية وغيرهم أعادوا شكواهم للسلطان بخصوص قضية زيارة القبور هذه المرَّة حيث رفض ابن تيمية زيارة قبور الأولياء والأنبياء والتبرُّك بها مستشهداً بقول النبي: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، المسجد الأقصى ومسجدي هذا).
كما كانت قضية الطلاق من الأمور التي تسببت في سجنه، وسنترك استعراض هذه الأمور إلى فقرة مستقلة نتحدث فيها عن آراء شيخ الإسلام ابن تيمية، لكن لا بد أن نذكِّر القراء الأفاضل أنَّنا لا نتبنى هذه الآراء ولا نهاجمها إنَّما نعرض لكم ما كان من أمرها فقط، وأمَّا سجن ابن تيمية في قلعة دمشق فقد جاء أول الأمر من باب تخفيف حدَّة نقمة المعارضين له فكان أشبه بالإقامة الجبرية في سجن القلعة مع توفير أسباب الراحة للسجين، لكننا نجد أنَّ الأمر تحول إلى سجن حقيقي بالتدريج من خلال التضييق أكثر على ابن تيمية، حتَّى تم حرمانه من أوراقه ودواته كي لا يكتب مزيداً من رسائله التي تثير الفتنة من وجهة نظر سجَّانه، وكان ذلك قبل وفاته بشهور قليلة.
أبرز مؤلفات ابن تيمية وأعماله
ترك ابن تيمية تراثاً ضخماً في التفسير والفقه والردِّ على المخالفين، كما أفرد مؤلفاتٍ كثيرة للردِّ على الصوفية والشيعة بشكل أساسي وأكثر من سبعة عشر مذهباً وطريقة ذكرها بالتفصيل الدكتور إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم في بحث أعدَّه بعنوان (موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من الرافضة)، كما ذكر أغلب هذه المؤلفات ابن رشيق المغربي وهو من تلاميذ ابن تيمية، وأبرز هذه المؤلفات:
- كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، كتاب في مجلدين.
- الرسالة الأكملية في ما يجب لله من صفات الكمال، وتكلم فيها عن إثبات صفات الكمال لله تعالى ونفي صفات النقص وقد دل عليه القرآن الكريم بعبارات متنوعة.
- الرسالة العرشية، تحدث فيها عن كروية العرش جواباً عن سؤال إن كان العرش كروياً أم لا؟ وإذا كان كروياً والله من ورائه محيط، فما فائدة أن يتوجه الإنسان إلى الله تعالى حين دعائه وعبادته فيقصد العلو دون غيره ولا فرق حينئذ وقت الدعاء بين قصد جهة العلو وغيرها من الجهات التي تحيط بالداعي، فأجاب عن ذلك باستفاضة وأورد فيها الكثير من الأدلة والمناقشات.
- كتاب العقيدة الواسطية، كتاب من مجلدين، اشتمل على بيان عقيدة أهل السنة والجماعة، وسمي بالواسطية نسبة إلى رجل من مدينة واسط طلب هذا البيان.
- كتاب بيان تلبيس الجهمية، رد فيه على الفكر الجهمي أو الطائفة الجهمية التي تُنسب إلى جهم ابن صفوان.
- كتاب رفع الملام عن الأئمة والأعلام، كتاب من عشرة أجزاء تحدث فيه عن السيرة الذاتية لأئمة المسلمين وناقش أفكارهم.
- كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح.
- كتاب درء تعارض النقل والعقل، كان هذا الكتاب رداً على كتاب القانون الكلي لفخر الدين الرازي، وقد بين ابن تيمية في كتابه أنه لا يوجد تعارض بين العقل والنقل وإنما التعارض من صنع البشر.
- كتاب منهاج السنة النبوية، من أشهر الكتب التي ألفها ابن تيمية في رده على المخالفين لاعتقاداته وخاصة من المسلمين الشيعة.
- إضافة إلى عشرات المؤلفات الأخرى أبرزها: الصارم المسلول لشاتم الرسول، الفتوى الحموية، فتوى ابن تيمية عن كتاب فصوص الحكم لابن عربي، الإيمان الكبير، نقض المنطق...إلخ.
آراء شيخ الإسلام إبن تيمية من التصوف والشيعة
كما بيَّنَّا؛ كان ابن تيمية واسع المعرفة والاطلاع وقد أشاد فيه العديد من علماء عصره واللاحقين، لكنَّ معارضيه أو من هاجمهم من السابقين عليه لم يكونوا أقلَّ شأناً وعلماً منه أو من أنصاره، فقد كانت معركة ابن تيمية مع مذاهب السُّنَّة والصوفية والشيعة وكل المعتقدات التي رآها خروجاً عمَّا كان عليه السلف من وجهة نظره، كذلك هاجم المتكلمين والفلاسفة بلا هوادة وكان هجومه يأخذ شكل النقاش بالحجَّة تارة وشكل التجريح بخصومه تارة أخرى، لنجد أنَّ القضايا الرئيسية التي شكَّلت محور الخلاف بين ابن تيمية والفرق الأخرى كانت خمس قضايا تسببت منفردة ومجتمعة بتأليب العلماء والشيوخ عليه وهي:
- حقيقة صفات الله وهو ما ذكرناه سابقاً.
- قضية زيارة القبور ومخالفته لما درجت عليه العامة وأباحه العلماء في عهده، وقد ممرنا عليه سابقاً.
- موقفه من الفلاسفة والصوفية ووقوعه في الخطأ أحياناً في مواجهتهم.
- قضية الطلاق وجواز الرجوع عنه.
- موقفه من الشيعة وفرقها.
موقف ابن تيمية من الفلسفة
عُرف ابن تيمية بخصومته تجاه الفلاسفة ونقده الشديد لهم، لكنه كان على دراية بمداخلها ومخارجها، وعارفاً مبادئها ومسائلها، وقد كتب في الردِّ على أهلها (الرد على المنطقيين) و (نقض المنطق).
كما كانت مسألة صفات الله تعالى من أكثر المسائل التي أثارها جرأة في الردِّ على المتكلمين، حيث كانت هذه المسألة موضع خلاف بين أوائل المتكلمين في القرون الأولى للإسلام، خاصَّةً ما قاله المعتزلة في نفي صفات الله، بينما دعا ابن تيمية لإثباتها واعتبر أنَّ القول بغير ذلك خروجٌ على النص وعلى ما كان في أهل السلف، كما عارض كبار فلاسفة المسلمين في العديد من القضايا أبرزهم الشيخ الرئيس ابن سينا، لكنه في نفس الوقت كان متوافقاً مع بعض الأقوال عند ابن رشد، منها توافق العقل مع النص وعدم جواز تغليب التفسير العقلي على ظاهر النص، وإنَّما البحث عمَّا يكون موافقاً للظاهر من باب التأويل، وفي ذلك قوله في (منهاج السُّنَّة النبوية):
"كلما كان أفسد في الشرع، كان أفسد في العقل، فإن الحقَّ لا يتناقض والرسل إنَّما أُخبرت بحقِّ، والله فطر عباده على معرفة الحقِّ، والرسل بعثت لتكميل الفطرة لا لتغيير الفطرة".
موقف ابن تيمية من التصوف
كان ابن تيمية من العلماء الذين هاجموا المتصوفة وفندوا ما سموه (انحرافاتهم وشطحاتهم)، لكنه في نفس الوقت كان يخاطبهم خطاب العقل أحياناً ثم ينقلب إلى خطاب التكفير والتجريح في مواضع أخرى.
كما يرى بعض الباحثين أنَّه تجنَّى على بعضهم بما لم يكن به وأغرق في مقارعتهم حتَّى جنح معهم إلى الباطل كما يذكر صائب عبد الحميد في كتابه (ابن تيمية حياته وعقائده) وإن كنا لا نوافق على كل ما أورده الكاتب ونرى في بعضه انزياحاً عن الموضوعية والتجرد، لكن ما جاء به في هذا الباب جديرٌ بالذكر وهو ما دار بين محي الدين بن عربي وتقي الدين بن تيمية.
ابن عربي وابن تيمية
هو محمد بن علي بن محمد بن عربي، المعروف بالشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، ولد في الأندلس وانتقل منها إلى العراق والشام ومصر حيث سجن هناك فعاد من مصر إلى الشام ومات فيها سنة 638هـ/1248م أي قبل ولادة ابن تيمية بحوالي عقدين من الزمن، فكان منهجه ما يزال حيَّاً بين المتكلمين والصوفية حيث كان شيخهم الأكبر وله أكثر من أربعمائة كتابٍ ورسالة أبرزها (الفتوحات المكِّيَّة) و (فصوص الحكمة).
أمَّا مواضع الخلاف بينه وبين ابن تيمية كانت في عدَّة نقاط لكن ابن تيمية كما ذكر صائب عبد الحميد تجنَّى على ابن عربي في مواضع عدَّة، نذكر منها قوله أنَّ ابن عربي من الصوفية الَّذين ادَّعوا أنَّ "خاتم الأولياء خير من خاتم الأنبياء في معرفة الله فيكون بذلك قد خالف الشرع والعقل مع مخالفة الله وأنبيائه" كما يقول ابن تيمية في (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان).
وعندما نعود إلى نصوص ابن عربي نجده وقد أثبت تفوق الأنبياء على الأولياء في مواضع كثيرة منها قوله في الفتوحات المكِّيِّة أنَّ الله اختار من النوع الإنساني "المؤمنين، واختار من المؤمنين الأولياء، واختار من الأولياء الأنبياء، واختار من الأنبياء الرسل، وفضَّل الرسل بعضهم على بعض" وفي هذا درء للتهمة عن ابن عربي، وقد أوردنا أمراً كهذا من باب الاستئناس برأي معارضي شيخ الإسلام ابن تيمية كما فعلنا مع مؤيديه وأنصاره، حيث سنجد لابن تيمية نصوص أقلَّ حدَّة في مواجهة المتصوفين كتقسيمه إياهم إلى ثلاثة أصناف في كتابه (مجموع الفتاوى):
"فأما صوفية الحقائق فهذا أصل التصوف ثم إنه بعد ذلك تشعب وتنوع، وصارت الصوفية ثلاثة أصناف: صوفية الحقائق، صوفية الأرزاق وصوفية الرسم. فأما صوفية الحقائق فهم الذين وصفناهم.
وأما صوفية الأرزاق فهم الذين وقفت عليهم الوقوف كالخوانك فلا يشترط في هؤلاء أن يكونوا من أهل الحقائق، أما صوفية الرسم فهم المقتصرون على النسبة فهمهم في اللباس والآداب الوضعية ونحو ذلك فهؤلاء في الصوفية بمنزلة الذي يقتصر على زي أهل العلم وأهل الجهاد ونوع ما من أقوالهم وأعمالهم بحيث يظن الجاهل حقيقة أمره أنه منهم وليس منهم".
قضية الطلاق عند ابن تيمية
ونذكر تفسير رأي الإمام ابن تيمية في قضية الطلاق كما ذكرها مصطفى بن العدوي في كتابه (أحكام الطلاق في الشريعة الإسلامية)، فنقطة الخلاف بين الشيخ تقي الدين أبو العباس ابن تيمية وباقي علماء الإسلام في عصره هو ما أثاره حول اعتبار الطلقات الثلاث طلقة واحدة، بينما ذهب أكثر أهل العلم إلى أنَّ ثلاث تطليقات في مجلس واحد تكون طلاقاً واقعاً لا يحل للزوج العودة إلى زوجته حتَّى تنكح غيره ويطلقها فتعود إلى الأول، أمَّا ابن تيمية فاعتبر هذا مغايراً لسُّنَّة النبي محمد (ص)، وأن عمراً رضي الله عنه هو من قال في وقوع الطلاق لأن الناس صاروا يستسهلون الأمر، لكن الأصل ألَّا يقع إلَّا واحدةً، وكانت هذه القضية من بين القضايا التي تمت محاكمة ابن تيمية عليها وسجنه بسببها.
موقف ابن تيمية من الشيعة
يعدّ كتاب (منهاج السنة النبوية) من أهم الكتب التي رد بها ابن تيمية على الفرق المخالفة لطرق أهل السنة والجماعة، إذ بيّن فيه وجهة نظره ببطلان عقيدة الشيعة وكان بمثابة ردٍّ على ابن المطّهر من كبار علماء الشيعة في العراق، حيث يقول ابن تيمية في كتابه المذكور: "وهذا حال أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة فإنهم إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، ففيهم جهل وظلم لاسيما الرافضة فإنهم أعظم ذوي الأهواء جهلاً وظلماً، يعادون خيار أولياء الله تعالى".
ويعتبر ابن تيمية أن الرافضة يدعون إلى إطاعة الإمام وأن أوامره لا شك فيها ومن يعارضه يكون قد عارض الدين، ولم تظهر هذه المسألة إلا بعد وفاة النبي، ويقول: "الايمان بالله والرسول في كل زمان ومكان أعظم من مسألة الإمامة فلم تكن في وقت من الأوقات لا الأهم ولا الأشرف".
آراء العلماء في شيخ الإسلام
كان الخلاف قائماً ومحتدماً بين ابن تيمية ومعارضيه من المذاهب والفرق الإسلامية التي خالف معظمها إن لم نقل كلها، لكن هذا الخلاف لم ينتهي بوفاة شيخ الإسلام، بل استمر بين تلاميذه ومعارضيهم، ثم بين أنصاره والذين اتبعوا فكره حتَّى يومنا هذا، لذلك سنجد كتباً مستقلَّة تم إعدادها خصيصاً للردِّ على ابن تيمية أو لترجيح منهجه، ومن هذا الكتب ما اتخذ الحجَّة والنقاش العلمي ومنها ما اتخذ التقليد الأعمى والدفاع أو الهجوم بحدَّة ودون الأخذ بأسباب العلم وطريقة الردِّ على المخالفين، سنحاول أن ننقل بعض هذه الآراء التي تناولت فكر ابن تيمية.
ابن عبد الهادي المقدسي من تلاميذ ابن تيمية
كان لابن تيمية تلاميذ كثر صار لهم شأن في التأريخ وعلوم الدين، أبرزهم ابن كثير الدمشقي وابن رشيق المغربي، كذلك محمد بن أبي بكر الزرعي المعروف بابن قيِّم الجوزية وغيرهم من التلاميذ، ومنهم أيضاً ابن عبد الهادي المقدسي الذي ذكر الكثير من مزايا شيخه ابن تيمية في كتابه (العقود الدرية) ومنها قوله:
"كشف الله لنا ولكم بواسطة هذا الرجل عن حقيقة دينه الذي أنزله من السماء وارتضاه لعباده وبيَّن لكم بهذا النور المحمدي ضلالات عباده وانحرافاتهم".
شمس الدين الذهبي وابن تيمية
ومن تلاميذه ومرافقيه من مدحه في خصاله وأخذ عليه بعض مثالبه وهفواته، منهم الذهبي في كتابه (زغل العلم):
"ولا تنازِع في مسألة لا تعتقدها، واحذر التكبر والعجب بعملك، فيا سعادتك إن نجوت منه كفافاً لا عليك ولا لك. فوالله ما رمقت عيني أوسع علماً ولا أقوى ذكاءً من رجل يقال له ابن تيمية مع الزهد في المأكل والملبس النساء، ومع القيام في الحقِّ والجهاد بكلِّ ممكن، وقد تعبت في وزنه وفتشه حتَّى مللت في سنين متطاولة.
فما وجدت قد أخره في أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم وازدروا به وكذَّبوه وكفَّروه إلا الكفر والعجب، وفرط الغرام في رياسة المشيخة وازدراء بالكبار فانظر كيف وبال الدعاوى ومحبَّة الظهور، نسأل الله المسامحة، فقد قام عليه ناس ليسوا بأورع منه ولا أعلم منه ولا أزهد منه، بل يتجاوزون عن ذنوب أصحابهم وآثام أصدقائهم، وما سلَّطهم الله عليه بتقواهم وجلالتهم بل بذنوبه، وما دفع الله عنه وعن أتباعه أكثر" ويقصد الذهبي من قوله أن ابن تيمية إنَّما لقي ما لقيه من العداء نتيجة حدَّته في النقاش ورغبته في الانتصار لرأيه قبل كلِّ شيء طمعاً بالرياسة والظهور.
كذلك يقول الذهبي في وفاة ابن تيمية
"وفي ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعماية، توفي بالقلعة شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيميَّة الحرَّاني، عن سبعٍ وستين سنة وأشهر، وشيَّعه خلق أقل ما حُزروا بستين ألفاً، ولم يخلف بعده من يقاربه في العلم والفضل."
وللذهبي أيضاً
كما ذكره الذهبي في الطبقة الأخيرة من طبقات المحدثين، وفي الطبقة الثانية والعشرين في (ذِكر من يُعتَمد قوله في الجرح والتعديل):
"والحافظ العَلَم، شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العبَّاس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحرَّاني، ابن تيمية".
ابن بطوطة وصفات الله عند ابن تيمية
ولمَّا كانت صفات الله من أكثر الأمور جدلاً بين ابن تيمية وأتباعه، فكان يغالي أحياناً في وصفها وتصويرها، ومنها صفة النزول إلى الأرض، فيذكر الرحالة ابن بطوطة أنَّه استمع إلى خطبة من خطب ابن تيمية في دمشق وذكرها في رحلته:
"وكان في دمشق من كبار فقهاء الحنابلة تقي الدين بن تيمية كبير الشام يتكلم في الفنون، إلَّا أنَّ في عقله شيء، وكنت إذ ذاك في دمشق فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكِّرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: (إنَّ الله ينزل من السماء إلى الدنيا كنزولي هذا) ونزل درجة من درج المنبر".
نثر الجمان في تراجم الأعيان
كذلك ذكره العلَّامة أحمد بن محمد بن علي الفيومي في كتابه (نثر الجمان في تراجم الأعيان) فتحدث عن وفاته وأيام سجنه، كما نقل عن الإمام العلَّامة ركن الدين محمد بن القويع قوله:
"مات ابن تيمية ولم يترك على الأرض مثله"
كما نقل الفيومي قول شمس الدين الجزري عن ابن تيميَّة أنَّ: "علمه أرجح من عقله"، وهو من باب الذم.
عادت اسم شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الواجهة مع ظهور الحركات الإسلامية المتشددة وآخرها داعش
ربما يستطيع من يتابع سيرة الشيخ ابن تيمية دون موقف مسبق منه أنْ يرى أن للرجل طبيعة البشر في الخطأ والصواب، وله اجتهاداته ومواقفه التي تحسب له، وله مثالبه ومغالطاته التي تحسب عليه، وهذا ليس من قولنا بل من أقوال مناصريه ومعارضيه وتلاميذه.
أمَّا في العصر الحديث فقد شهدت الأمَّة الإسلامية ولادة داعش التي تلقى معارضة واسعة من معظم عامة المسلمين وعلمائهم، وبالكاد نجد أصواتاً من علماء الدين أيدت داعش أو ناصرتها علانيَّة، وداعش رأت من ابن تيمية ما أرادت وأخذت عنه أكثر فتواه خلافاً خاصَّةً ما يتعلق بتدمير الأضرحة والقبور والتمسك بحرفية النصوص الدينية وتحليل الدم.
لكننا للإنصاف نعلم كما تعلمون أنَّ معظم من هاجموا ابن تيمية ومن دافعوا عنه في العصر الحديث لم يقرأوا كتبه ولم يعلموا من علومه شيء، إنَّما هو الجدل القائم دائما بين التيارات الإسلامية المختلفة، كما أنَّ الشقاق بين السُّنَّة والشيعة الذي تفاقم في العقود الأخيرة أعاد إلى الواجهة كل المؤلفات التي قدمها ابن تيمية رداً على مؤلفات الشيعة كذلك الردود المتوالية عليها عبر مئات السنين التي انقضت بعد وفاة شيخ الإسلام.
وفاة العلامة إبن تيمية
عاش ابن تيمية حياته في حلبة الصراع مع الفرق الإسلامية وأهل المذاهب والطرق، فكان زاهداً في المأكل والمشرب ولم يعرف عنه أنَّه تزوج، وكان سجنه الأخير في قلعه دمشق هو طريقه لملاقاة ربه صاحب العلم كلِّه والقدرة كلِّها، حيث غادر ابن تيمية الحياة ليلة الإثنين في العشرين من ذي القعدة سنة 728 هجرية، وهو الموافق للسابع والعشرين من أيلول/سبتمبر عام 1328 ميلادي، وقيل أن جنازته كانت عظيمة فخرج فيها ستون ألفاً وقيل أنَّهم كانوا مائتي ألفظ.
كما دفن في مقابر الصوفية في دمشق وهم الذين كانوا أعداءه في حياته، والجدير بالذكر أنَّ أتباع ابن تيمية الذين دافعوا عنه في قضية تحريم التضرع للقبور وتقديس الأولياء كانوا ممن احتفوا به احتفاء الصوفية بأوليائهم، حيث يروي صائب عبد الحميد أنَّ المشيعين تجمهروا حول النعش للتبرُّك من الفقيد وأخذوا مزقاً من كفنه.
كما يذكر الفيومي في (نثر الجمان) أنَّ زين الدين عبد الرحمن شقيق ابن تيمية ورفيقه في السجن لم يتم الإفراج عنه بعد وفاة أخيه لأنَّ النائب كان خارج دمشق، فصار يخرج كلَّ يوم إلى قبر أخيه ويقضي الليلة عنده ثم يعود في الصباح إلى القلعة حتَّى عاد النائب من سفره فأفرج عنه، ومما قاله ابن عبد الهادي المقدسي في (العقود الدرية) واصفاً قبر شيخ الإسلام:
إن مررت بقاسيون على ثرى فيه ضريح العالم المتفردِ
واعجب لقبر ضمَّ بحراً زاخراً بالفضل يقذف بالعلا والسؤددِ
وأخيراً.. ما زالت شخصية ابن تيمية وأفكاره مجالاً متوتراً من مجالات النقاش بين المختلفين في الفرقة والمذهب، حيث سنجد في عصرنا الحديث من يرى في ابن تيمية "عالماً لا يشق له غبار وإن كان حادَّ الطباع لكثرة ما رآه من ظلم" كما يقول الشيخ عمر عبد الكافي، وكما يقول الشيخ حبيب الجفري أنَّ شيخ الإسلام "عالمٌ متبحرٌ من علماء المسلمين غير أنَّ أقرانه ممن عاصروه أخذوا عليه أنَّه مع كثرة مطالعته لم يحقق كثرة اطلاعه فاختلطت عليه بعض المسائل".
بينما نجد على الضفة الأخرى الشيخ عدنان إبراهيم يعارض ابن تيمية في منهجه وفتواه وطريقة طرحه، كذلك الشيخ صلاح الدين ابن إبراهيم يرى أن ابن تيمية من دعاة الضلال وأنَّه يخالف السُّنَّة النبوية والقرآن الكريم في دعواه خاصة ما يتعلق بالتكفير وإباحة الدم ومنها جواز أن يقتل الابن أباه المشرك، أمَّا الحقيقة فلا يملكها إلا الله، وهو صاحب الأرض ما عليها وعنده يكون العدل في أجور المحسنين وعقاب المخطئين.