حكمة الشاعر أبو العلاء المعري
This browser does not support the video element.
فقد بصره، فأنجدته بصيرته، كان رهين المحبسين، ولكن حكمته حررته من قيود جسده، فغدا حكيم الشعراء، والقصيدة لديه اندياحٌ في عوالم قد لا يحسّها المبصرون أنفسهم.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
الشاعر أبي العلاء المعري، الذي كتب الشعر لإنسانه وإنسان الكون أجمع، هو ذاك الإنسان الذي يرى فيه المعري الصلاح والعمق، ويرى فيه يقظةً مستمرة تعي حقيقة الوجود ووحدة المآل.
فما أجمل ما قاله الشاعر أبي العلاء المعري من الأبيات الحكيمة؟
أبو العلاء المعري.. رهين المحبسين
هو عبدلله بن سلمان التنوخي والملقب بأبي العلاء المعري، ولد في معرة النعمان بسوريا، وذلك عام 973 ميلادي، أصيب أبو العلاء بداء الجدري وهو ابن الثالثة، ما أدى إلى إصابته بالعمى، وكان يقول:
"أنا لا أعرف من الألوان غير الأحمر، لأني أُلبست ثوباً أحمر عند إصابتي بالجدري"، كما كان يقول: "أشكر الله على العمى كما يشكره غيري على البصر".
ذهب إلى بغداد ومكث فيها قرابة العام وذلك إبان خلافة المرتضى (عبدالله بن المعتز، أحد الخلفاء العباسيين)، ثم ما لبث أن عاد إلى مسقط رأسه في معرة النعمان.
وهناك اعتزل في منزله وأطلق على نفسه لقب رهين المحبسين، ويقصد بذلك أنه أسير منزله إذ اعتزل فيه وأسير عماه، فكانت بصيرته وسرعة بديهته هما العون له على الصروف، وفيما حققه من علم أيضاً.
أطل على الشعر من نافذتين
ما يميز الشاعر المعري عن غيره من الشعراء الأقوياء (ولا سيما المتنبي)، ليس فقط تبحره وإلمامه باللغة، وليست فقط شاعريته، إنما عدم قوله الشعر مدحاً أو بغرض التكسب، بل فاضت حكمته لتروي شاعريته.
فقال الشعر وهو ابن اثنتي عشر عاماً، وقد لعب ما أصابه من سقمٍ في صغره دوراً في جعله ذلك الشاعر الذي يدرك جوهر الحياة ومآلها الحقيقي، ثم يزهد بكل متاعها فأطل على الشعر من نافذتين، نافذة الحكمة ونافذة التصوّف.
قصيدة أبو العلاء يرثي الإنسانية جمعاء
ينتقل الشاعر أبي العلاء، ليرثي الإنسانية جمعاء في قصيدته "تعبٌ كلها الحياة"، وتقوده حكمته لتلمس حقيقة الكون وجوهر الحياة، فكل امرئٍ وطأت قدمه الحياة، مصيره إلى الزوال والفناء.
لكن الإنسان العاقل هو من يدرك حقيقة هذه الدنيا فلا يختال متكبراً ومغتراً، فقال في رثاء الدنيا:
غيرُ مجدٍ في ملّتي واعتقادي....نوحُ باكٍ ولا ترنم شادِ
وشبيهٌ صوت النعيّ إذا قِيـ..... سَ بصوتِ البشيرِ في كلّ نادِ
صاحِ هذي قُبورُنا تملأ الرُحبَ.....فأين القبورُ من عهدِ عادِ
خفّف الوَطْءَ ما أظنّ أَدِيْمَ الـ....أرض إلا من هذه الأجسادِ
رُب لحدٍ قد صار لحداً مراراً.... ضاحكٍ من تزاحم الأضدادِ
تعبٌ كُلّها الحياةُ فما أعـ .....جبُ إلّا من راغبٍ في ازديادِ
إنّ حزناً في ساعة الموت..... أضعاف سرورٍ في ساعة الميلادِ
أمر الإله واختلف الناسُ.... فداعٍ إلى ضلال وهادٍ
واللبيبُ اللبيبُ من ليس يغتـ ..... رُّ بكونٍ مصيره للفسادِ
الزهد والتصوف عند المعري
يرى أبو العلاء المعري أنه لا يمكن أن يؤتمن للحياة وما تعطيه، فهي في تقّلب وكل الناس مهما علا شأنهم فإن المآل واحدٌ، والدنيا صعبة المراس قاسية حتى في حنوها.
فكم من ملوكٍ مروا ونالوا من متاع هذه الدنيا وملذاتها، لكنهم رحلوا في نهاية المطاف
(وهنا النظرة لدى أبي العلاء المعري تمتزج بطابع صوفي، إذ كان زاهداً في الحياة الدنيا، وهو ما سنلمسه في معظم قصائده التي سنتحدث عنها لاحقاً في هذا المقال)، وفي ذلك يقول:
يأتي على الخلق إصباحٌ وإمساء...وكلنا لصروف الدهر نسّاءٌ
يموج بحرك والأهواء غالبةٌ...لراكبيها وهل للسفن إرساءٌ؟
إن تعطفت يوماً كنت قاسيةً....وإن نظرت بعينٍ فهي شوساءٌ (مؤنث أشوس، وتعني الشدة والصلابة).
إنسٌ على الأرضِ تدمي هَامها إحنٌ...منها إذا دميت للوحش إنساءٌ (الإحن يعني الحقد).
فلا تغرنّك شمٌّ من جبالهم....وعزةٌ في زمان الملك قعساءٌ
نالوا قليلاً من اللذات وارتحلوا...فإذاً النعماء بَأْسَاءٌ
من النفوس من لا يوقظها إلّا الموت
كثيرٌ من الناس يتضرعون لأجل الحياة ومديد العمر، والبعض منهم يغفلون عمل الخير مع غيرهم من الناس وتأخذهم غفلة الحياة الدنيا ليؤخروا خيرهم.
وعندما تحين ساعة الأجل، يكون الندم والصحو من تلك الغفلة، وفي ذلك يقول أبو العلاء المعري:
نرجو الحياة فإن همّت هواجسُنا....بالخير قال رجاء النفس إرجاءْ
وما نفيق من السكرِ المحيطِ بنا...إلا إذا قيل هذا الموتُ قد جاءْ
رغد العيش لا يقطع حبل المودة
يرى المعري، أن المودة الحقيقية وصدق المعاملة، إنما تظهر في كل أحوال العباد، وليس فقط في ضنك العيش يتذكر الإنسان أخوته وخلّانه وأهله، بل ينبغي على المرء ألا ينسيه يسرٌ؛ حاله.. أصله.. وأهله، وفي ذلك قال:
إذا صاحبت في أيام البؤس.....فلا تنسَ المودة في الرخاء
ومن يعدم أخوه في غناه....فما أدى الحقيقة في الإخاء
صمت المرء كما يرى المعري هو ما يقلل أعدائه
فاللسان عند المعري ذلك السهم الذي إذا انطلق وأصاب أحداً بأذىً فهو أول ما يصيب راميه، فاللسان ينجي ويؤذي في آنٍ واحدٍ، وفي ذلك يقول أبو العلاء:
لسانك عقربٌ فإذا أصابت...سواك فأنت أول من تصيب
أثمت بما جنته ومن شكاها...وفى لك من شكيّته نصيب
كما أنه يرى أن في صمت المرء ما يقلل أعداؤه، وأن الترفع عن السفهاء، خيرٌ من الرد عليهم، فقال في ذلك:
إذا سكت الإنسان قلت خصومه....وإن أضجعته الحادثات لجنبه
وإن سيفاً من كلامٍ مسفّهٍ...عليك فقابله بصبرك تسلمِ
قيادة النفس أصعب من قيادة الجيوش
إن كبح رغبات النفس وإبعادها عن المعصية والشر، من الأشياء التي يقاسي المرء أمامها، فقد تكون قيادة المرء لنفسه إلى أن تكون خيّرة أصعب من قيادة الجيوش، وفي ذلك يقول المعري:
والمرء يعييه قود النفس مصبحةً.....للخير وهو يقود العسكر النجب
وصومه الشهر مالم يجنِ معصيةً....يغنيه عن صومه شعبان ورجبا
واحذر دعاء ظليمٍ في نعامته.....فربّ دعوةُ داعٍ خرقت الحجبَ
يرى المعري أن الإنسان حرّ في اختيار مكانه لكنه خاضع لتقلبات الزمان
إن زمان المرء هو الذي ينقلب ويتقلب لا المكان، وإن كان أكثر حرية في اختيار مكانه، لكن زمانه يمسك ناصيته ويتقلب بحيث لا يدري الفتى، وفي ذلك يقول المعري:
أما المكان ثابت لا ينطوي...أما زمانك ذاهب لا يثبت
والمرء مثل النار شبت وانتهت...فخبت وأفلح في الحياة المخبت
وحوادث الأيام مثل نباتها... ترعى يأمرها مليكها فتنبت
على قبره تجليات حكمته
كان لحكمة أبي العلاء طابعاً مختلفاً أتى من نظرته الزاهدة إلى الدنيا، فالحياة دار ملذات ومآل كل إنسانٍ إلى الفناء، وهذا ما جعل الشاعر أبي العلاء المعري لا يتزوج.
لأنه كان يرى ذلك عناءً سببه له والده بإنجابه، لذا قرر ألّا يتزوج ويعاقب أولاده في حياةٍ لا يفضلها، فقال:
هذا ما جناه أبي علي .. وما جنيت على أحد (وكُتب هذا البيت على شاهدة قبره).
ختاماً.. إن حكمة المعري امتزجت بطابع صوفي، ما جعله يصور المآل والمرجع الذي ينتظر كل إنسان، وجعله لا يعلق أمالاً بأشياء لا يثق بدوامها.
وكيف وهي من متاع الدنيا التي لا سبيل لها إلا الفناء، فاستطاع أن يتجاوز الحجب التي تخفي عن عيون الناس حقيقة المصير، و رغم أنه كان ضريراً، كان يرى ما لم يراه أحدُّ الناس بصراً، لأن بصيرته كانت منبع حكمته.