المناضل نيلسون مانديلا: حياته وأبرز إنجازاته
مانديلا هو صاحب القول الشهير: "لقد تعلمت أن الشجاعة لا تكمن في انعدام الخوف، بل في الانتصار عليه"، فكيف بدأ مانديلا تلك الحياة المفعمة بالنشاط والشجاعة؟ وكيف كانت تلك البدايات؟
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
طفولة ماديبا نيلسون مانديلا وبداية نضاله ضد العنصرية
ولِد نيلسون مانديلا في ترانسكي (Transkei) الواقعة في جنوب أفريقيا في الثامن عشر من تموز (يوليو) عام 1918، وهو ابن قائد عشيرة (Tembu) المحلية، توفي والده في عام 1930 وهو لا يزال في الثانية عشرة من عمره، عاش تحت رعاية وصي حتى دخوله الجامعة.
ساعدته مكانة أبيه خلال طفولته على أخذ أدوار كثيرة في النشاطات المختلفة والطقوس الخاصة بقبيلته، واعتاد الناس في جنوب أفريقيا على مناداته بالاسم الذي يعرف به في عشيرته وهو "ماديبا"، حصل على اسمه الإنجليزي نيلسون من معلمه في المدرسة.
وعلى عكس والده، تابع نيلسون تعليمه، فكان أول فرد في عائلته يلتحق بالثانوية، قضى فترة تعليمه الثانوي في معهد كلاركبوري (Clarkebury) ومن بعده التحق بجامعة فورت هير (Fort Hare) لنيل درجة البكالوريوس في الفنون.
كان واحداً من أعداد قليلة من الطلاب السود في الجامعات آنذاك، وقد تعرض للطرد منها بعد انضمامه لأحد الاحتجاجات الطلابية، لكنه عاد إليها ليكمل الدراسة ويتخرج منها في عام 1943.
قابل خلال دراسته الجامعية عدداً من الطلاب الأفارقة والهنود، ومن هؤلاء من أصبح له دور قيادي هام في أفريقيا فيما بعد أمثال أوليفير تامبو (Oliver Tambo)، إذ أصبح هو ومانديلا شركاء عمل ورفاق درب نضالية.
وخلال فترة توقفه عن دراسة الفنون التحق بجامعة ويتووترساند (Witwatersand) في العاصمة جوهانسبورغ، إذ بدأ فيها بدراسة القانون وكان الطالب الأفريقي الأصل الوحيد هناك، نال منها شهادته في الحقوق عام 1942.
مانديلا ومسيرة النشاط السياسي
بدأ نشاط مانديلا السياسي خلال تواجده في الجامعة الذي تزامن مع ظروف سياسية سيئة كانت سائدة في ذلك الوقت، إضافة إلى نظام التمييز العنصري القائم ضد الأفارقة السود، ثم انضم وهو في السادسة والعشرين من عمره إلى حزب المؤتمر الوطني الإفريقي عام 1944 وأصبح رئيساً له فيما بعد عام (1952).
بعد انضمامه أصبح منادياً بحق السود في السلطة لكونهم الأكثرية في البلاد وسكانها الأصليين، ولعب دوراً مهماً ضد العنصرية السائدة، وقد كبُر هذا الدور وازداد أثره بعد استلام الحزب الوطني الحكم في البلاد عام (1948)، وهو حزب سنَّ خلال فترة حكمه العديد من القوانين المجحفة بحق السود والتي حدت من حقوقهم وقيدتهم داخل بلادهم.
الأمر الذي أثار غضب مانديلا، لكن نضاله بقي سلمياً واقتصر على الوقوف بوجه تلك القرارات والاحتجاج على القوانين التي وضعتها الحكومة، وذلك بقيادته لحملة احتجاجات ضدها وتأسيسه شركة محاماة ركزت عملها على مناصرة قضايا وشكاوى المواطنين السود.
بقي مانديلا يشجع على المقاومة غير العنيفة والاحتجاجات السلمية إلى أن بدأت ردود الفعل العنيفة على تلك الاحتجاجات من قبل سلطة البلاد، والتي بدأت بإطلاق الرصاص على المتظاهرين واستخدام وسائل قمع عنيفة ضدهم، عندها بدأ مانديلا بالدعوة إلى استخدام الحل العسكري وقرر مع أعضاء الحزب إنشاء الجناح العسكري للمؤتمر الوطني الأفريقي، وقد أصبح رئيساً لهذا الجناح عام (1961).
سنوات مانديلا خلف القضبان
عند بداية الاحتجاجات السلمية التي اجتاحت البلاد، اعتُقل مانديلا لأول مرة في عام 1952، دام سجنه تسعة أشهر ثم أفرج عنه بعدها، ثم اعتقل مجدداً عام 1955 وتمت محاكمته مع عدد من زملائه في الحزب بتهمة الخيانة العظمى، وصدر الحكم عليهم بالبراءة في عام 1961.
تم اعتقاله للمرة الثالثة في عام 1962، وكان ذلك إثر تنظيمه ودعوته للمقاومة المسلحة ضد سياسات الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وحُكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات.
خلال فترة سجنه، داهمت الشرطة مقراً للحزب وصادرت منه عدداً من الوثائق التي تدين أعضاء الحزب بمن فيهم مانديلا بالتحريض على الاحتجاجات وإثارة الفوضى والشغب داخل البلاد، فتمت محاكمتهم وفقاً لما جاء ضمن هذه الوثائق وحكم عليهم بالسجن المؤبد.
قضى خلف القضبان ما يقارب 27 عاماً، وقد توفي أثناء وجوده في السجن كلٌّ من والدته وابنه البكر ولم يسمح له بالخروج لحضور الجنازة، أمضى 18 عاماً من أعوام سجنه في سجن جزيرة روبن (Robben) الوحشي معزولاً عن بقية السجناء السياسيين.
حيث كان محبوساً في زنزانة رطبة صغيرة دون سرير بل فقط حصيرة من القش لينام عليها، وكانت الزنزانة تخلو حتى من أنابيب تصريف المياه، كما كان مجبراً على القيام بأعمال شاقة في مقالع الحجارة، وكونه سجين سياسي أسود فقد تلقى معاملة سيئة جداً وعنصرية كبيرة مقارنة بباقي السجناء.
وكان مسموح له رؤية زوجته (Winnie Madikize) مرة واحدة كل ستة أشهر، لكن ذلك كله لم يثنه عن مسيرته، فقد كان يحاضر في السجناء عن السياسة والحقوق والقانون، ويرسل المنشورات إلى المناضلين خارج السجن داعياً إياهم لمواصلة النضال والاحتجاج على ممارسات الحكومة.
انتقل بعد ذلك إلى سجن بولسمور (Pollsmoor) في (كيب تاون) في نيسان/أبريل عام 1982 مع عدد من قادة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، وهناك تدهورت حالته الصحية بشكل واضح، فقد أصيب بالسل بسبب الظروف الصحية المتدنية داخل السجن، وعرض عليه خلال فترة سجنه الإفراج عنه مقابل أن يصرح بوقف جميع النشاطات والحركات المسلحة التي كانت تعم البلاد في ذلك الوقت، لكنه رفض جميع هذه المفاوضات.
في عام 1988 نُقل مانديلا إلى سجن فيكتور فيرستر (Victor Verster) ليقضي فيه آخر 14 شهراً له وراء القضبان، وقد تحسن وضعه الصحي فيه نظراً لظروف السجن المقبولة.
الحرية لمانديلا.. وأمة جديدة كلياً
وأخيراً تم إطلاق سراح نيلسون مانديلا في الحادي عشر من شباط/فبراير عام 1990 بعد أن رفعت الحكومة الجديدة الحظر عن حزبه وأطلقت سراح قادته، وكان هذا اليوم حدثاً تاريخياً لجنوب أفريقيا والعالم أجمع؛ لأن حريته كانت رمزاً لنهاية قريبة للعنصرية.
بقي مانديلا ينادي بحقوق الأغلبية السوداء المستضعفة، وأصر على استمرار النضال المسلح حتى حصولهم على حقوقهم التي كان من أهمها حق التصويت، وفي نيسان عام 1994 حصلت جنوب أفريقيا لأول مرة في تاريخها على انتخابات ديمقراطية حرة وعادلة.
أصبح بنتيجتها نيلسون مانديلا أول رئيس منتخب لجنوب أفريقيا الجديدة عن عمر يناهز ال 76عاماً بعد أن صوتت جميع الأعراق في البلاد على انتخابه رئيساً، وخلال فترة حكمه بحث عن حلول لخلافات الماضي التي أثرت سلباً على المجتمع الإفريقي.
كما عمل على إيجاد حلول لكثير من قضايا المجتمع بما فيها توفير السكن للفقراء والمشردين والنهوض بالأحياء الفقيرة وتشجيع الشركات الأجنبية على البقاء في جنوب أفريقيا والاستثمار فيها، عمل أيضاً على مكافحة الفساد في معظم المدن.
وعلى الرغم من سوء معاملة البعض له فقد كان شهماً ومتسامحاً، هذا ما جعل كل أفريقيا تحترمه وبالتالي تساعده في مسيرته للتقدم خطوة تلو الأخرى نحو الحرية.
سنوات مانديلا بعد الرئاسة
أعلن مانديلا بعد نهاية ولايته عن عدم رغبته في ولاية ثانية، وخطب في الجماهير خطبته الأخيرة مودعاً إياهم وذلك في 29 آذار /مارس عام 1999، لكنه بقي بعد نهاية نشاطه السياسي مكرساً حياته لتحقيق السلام والعدالة الاجتماعية في بلده وحول العالم حتى بعد مغادرته لمكتب الرئاسة، إذ أسس عدداً من المنظمات منها:
- منظمة تحمل اسمه "منظمة نيلسون مانديلا" وذلك في عام 1999، كان من أبرز أهدافها مكافحة انتشار مرض الإيدز وتحسين واقع التعليم وبناء المدارس.
- بالإضافة إلى منظمة (The Elders) وهي مجموعة مستقلة ملتزمة بمعالجة المشاكل العالمية والإنسانية.
وفي عام 2002 تابع مانديلا اهتمامه بنشر الوعي حول مرض الإيدز وخاصة في المناطق التي ينتشر فيها المرض بكثرة، وفي عام 2005 قضى الإيدز على حياة ابنه (Makgatho) وكان ابنه الوحيد الباقي على قيد الحياة في ذلك الوقت.
وقد أعلن عن سبب وفاته بنفسه بعد أن كان الحديث عن مرض الإيدز شبه معدوم في البلاد، مما ترك أثراً عميقاً في مشاعر الأفريقيين.
- كما اهتم مانديلا بطلبة العلم ومحبيه، فأنشأ عام 2003 مؤسسة مانديلا رودس (Mandela Rhodes) في جامعة أوكسفورد، تعطي هذه المؤسسة منحاً دراسية في الدراسات العليا للطلاب الأفارقة.
في شهر نوفمبر 2009، أعلنت الأمم المتحدة يوم 18 تموز/يوليو من كل عام يوم نيلسون مانديلا العالمي تكريماً لتاريخ ميلاده، والجدير بالذكر أنها المرة الأولى التي تعلن فيها الأمم المتحدة عن يوم عالمي مرتبط بشخص ما.
تزوج نيلسون مانديلا ثلاث مرات
تزوج مانديلا 3 مرات، وكانت نتيجة تلك الزيجات 6 أبناء و17 حفيداً:
- كان زواجه الأول من إيفيلين ناتوكو ماس (Evelyn Natoko Mase) عام 1944، وهي ممرضة وناشطة من حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، أنجبا ولدين هما (ماديبا ثيمباكايل) و(ماكجاثو مانديلا)، وابنتين (مكازيوي مانديلا) (حيث سميت الابنة الثانية على اسم الأولى بعد أن توفيت بعمر التسعة أشهر على أثر إصابتها بالتهاب السحايا)، انتهى هذا الزواج في عام 1957 بسبب المشاكل والخلافات المستمرة.
- أما زواجه الثاني فكان من ويني ماديكيزي (Winnie Madikize)، وأنجبا ابنتين (زيني) في عام 1958 (وزيندزي) في عام 1960، انتهى هذا الزواج بالطلاق في عام 1996.
- زواجه الأخير كان من غريس ميشيل (Graca Machel)، وهي أرملة رئيس موزمبيق السابق، تزوجها وهو في الثمانين من عمره بعد أن وقع في حبها ووصفها للجماهير بالسيدة الرائعة.
رحيل مناضل عظيم وثائر حر
بدأت صحة مانديلا بالتدهور بعد إصابته بعدوى تنفسية خطيرة في عام 2011 أُدخل على أثرها المستشفى، وقد تمكن الأطباء من معالجته بنجاح وعاد إلى حياته الطبيعية بعدها، لكن صحته انتكست مجدداً في عام 2013 حيث بقي في المستشفى فترة طويلة بحالة حرجة كان خلالها معتمداً على أجهزة التنفس الاصطناعية.
قررت عائلته إخراجه من المستشفى ونقله إلى منزله في جوهانسبورغ ليمضي به أيامه الأخيرة، وفي 5 كانون الأول عام 2013 توفي مانديلا عن عمر يناهز ال 95 بعد أن عاش حياة مليئة بالنضال والإنجازات المشرفة.
أعلن خبر وفاته إلى الجماهير رئيس جنوب أفريقيا في ذلك الوقت (جاكوب زوما)، كما أعلن الحداد في البلاد لمدة عشرة أيام ليُقام له بعدها جنازة ضخمة حضرها العديد من القادة والشخصيات البارزة عالمياً مودعين مانديلا إلى مثواه الأخير.
ختاماً؛ لقد ترك الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا أثراً لا يمكن نسيانه ليس فقط في قلوب أبناء جنوب أفريقيا بل في قلوب العالم أجمع.
بعد أن قضى حياته ساعياً من داخل السجون وخارجها إلى تمهيد الطريق نحو الحرية أمام شعب بلاده، مطالباً بحقوقهم المسلوبة من المساواة والكرامة، فنال بذلك إجماع العالم على استحقاقه التقدير والاحترام كونه الرجل السياسي الأكثر صدقاً ونزاهةً في عصره.