الشاعر العراقي معروف الرصافي

  • بواسطة: بابونج تاريخ النشر: الأحد، 24 نوفمبر 2019 | آخر تحديث: الإثنين، 04 يوليو 2022

This browser does not support the video element.

مقالات ذات صلة
وفاة مظفر النواب الشاعر العراقي الكبير
حبيب العازمي Habib Al-Azmi شاعر القلطة المعروف وملك المحاورة
خزعل الماجدي.. الشاعر والباحث العراقي المتخصص في علم الأديان

يعتبر الشاعر العراقي الراحل معروف الرصافي واحداً من أقطاب الشعر العربي ومن ألمع شعراء عصره حتَّى كاد يحتل الشعر كلّه في العراق لولا معاركه مع الزهاوي وآخرين، فالرصافي لم يكن يجيد النظم وحسب، بل كان يمتلك جرأة كبيرة في المواجهة (امتلكها الزهاوي أيضاً) فاستطاع أن يواجه المجتمع والسلطة، لتبقى وجهة نظره فيما يتعلق بموضوع حجاب المرأة المسلمة موضع أخذ ورد بين مؤيدي فكره من المسلمين ومعارضيه. 

فيديو ذات صلة

This browser does not support the video element.

ولد الشاعر معروف الرصافي لأب كوردي وأم تركمانية

هو معروف بن عبد الغني الجباري من أكراد العراق، ولد في بغداد عام 1875 لأبٍ كوردي وأمٍّ تركمانية، أكمل دراسته فيها على يد خيرة أساتذتها وشيوخها، من أبرزهم الشيخ محمود شكري الألوسي الذي منحه لقب الرصافي تيمناً بمعروف الكرخي، حيث قال الألوسي:

"سيكون لك يا معروف شأن فيما بعد، فإن كانت الكرخ تفتخر بمعروف الكرخي، فما أحرى الرصافة أن تفتخر بمعروف الرصافي".

عرف أيضاً بمعروفٍ الرصافي البغدادي لأنَّه سكن بغداد وأخذ أول علمه فيها قبل أن ينطلق برحلاته إلى خارجها ويعود إليها في آخر المطاف.

تنقل الرصافي بين بغداد والقدس واسطنبول

أتمَّ الرصافي دراسته على يد شيخه الألوسي بعد أن تتلمذ على يد كبار علماء العراق منهم الشيخ قاسم البياتي والشيخ القصاب وغيرهم، لكن حظه من شيخه الألوسي كان اثنتي عشرة سنة، إلى أن بدأ العمل بالتدريس في مدرسة الراشدية في الأعظمية، ثم انتقل إلى بغداد ومنها إلى اسطنبول عام 1908.

يذكر الدكتور يوسف عز الدين في كتابه (الرصافي يروي سيرة حياته) الصادر عن دار المدى أن الرصافي انتخب في مجلس المبعوثان التركي أو العثماني عام 1912 (مجلس النوّاب الأول في السلطنة العثمانية أسسه في عام 1877 السلطان عبد الحميد)، وبقي الرصافي في إسطنبول حتى الهدنة التي آذنت بانتهاء الحرب العالمية الأولى عام1918.

الرصافي عمل أيضاً محرراً في جريدة الرشاد إلى جانب عمله مدرساً في الكلية الشاهينية، ثم تم تعيينه مدرساً في دار المعلمين في القدس، وتنقل بين بغداد واسطنبول والقدس حتَّى عام 1922، حيث عاد إلى العراق وأصدر جريدة الأمل، كما تم انتخابه في مجمع اللغة العربية في دمشق وعمل مفتشاً في المعارف عام 1924، وكان آخر عهده مع الوظيفة الحكومية عندما عمل مدرساً في دار المعلمين العالية في بغداد عام 1927 واستقال بعد سنة واحدة.

انتخب الرصافي عضواً في مجلس النواب العراقي أربع مرَّات

يروي الدكتور عبد الحميد الرشودي في كتابه (الرصافي خطيباً) الصادر أيضاً عن دار المدى أن معروف الرصافي استقال من دار المعلمين العالية في بغداد بعد مشكلة بينه وبين أحد الطلاب أساء فيها الطالب الأدب، لكن الرصافي رفض أن يستمر في التدريس بعدما اعتبرها إهانة من الطالب، فتقدم باستقالته إلى العميد طه الهاشمي الذي وافق عليها دون رغبة منه، وكان ذلك في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1928.

الرصافي حاول أن يهاجر ثانية كما يروي الرشودي في كتابه، لكنه بعد محاولات الأصدقاء اقتنع أخيراً أن يبقى في العراق، بل ورشَّح نفسه لمجلس النواب وانتخب أربع مرَّات، فكان أول دخوله المجلس في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1930 إلى أن غادره في أيار/مايو عام 1937، مثَّل خلالها لواء العمارة (ميسان) ولواء الدليم (الأنبار)، وقد عمل الرشودي في كتابه المذكور على جمع خطب الرصافي في المجلس خلال هذه الفترة وتحليلها.

واجه الرصافي بشِعره الملك فيصل بن الشريف حسين والانتداب الإنجليزي

لم يكن الرصافي راضياً عن فكرة الانتداب الإنجليزي على العراق كما لم يكن العراقيون كذلك، وكان يرى في تتويج الملك فيصل من قبل الإنجليز أنفسهم وبحضور قائد الجيش الإنجليزي والمندوب السامي امتداداً لهذا الاستعمار، لذلك عبَّر وبكل قوة وجرأة عن موقفه من الملك الجديد ومن الانتداب الذي هو احتلال مقنَّع، ولم يكن الرصافي ليِّناً في معارضته لهذه الأحداث، فهو القائل:

أبلاطٌ ليتَ شعري أم ملاط أم مليكٌ بين المخانيث محاط

غضبَ اللهُ على ساكنه فتداعى ساقطاً ذاكَ البلاط

وهو القائل أيضاً:

وكمْ عندَ الحكومة من رجالٍ تَراهم سادة وهم العبيدُ

كلابٌ للأجانب هم ولكن على أبناء جلدتهم أسودُ

وليس الإنكليز بمنقذينا وإن كُتبت لنا منهم عهودُ

لقاء الرصافي مع الملك فيصل

قصة لقاء الرصافي مع الملك فيصل بن الشريف حسين ملك العراق آنذاك من القصص التي فيها أخذ ورد بين الباحثين في تراث الرصافي، إلَّا أنَّنا نرى أن الخلاف بين الباحثين حولها ليس بالغ الأهمية، فهو خلاف على الطريقة التي خاطب بها الرصافي الملك فيصل لا على جوهر هذا الخطاب، فالقصة أن الملك فيصل دعا الرصافي إلى قصره ليعاتبه على قوله:

لقد عاش في عزٍّ بحيث أذلهم وقد ساءهم من حيث سرَّ الأجانبا

وليس له من أمرهم غير أنَّه يعدد أياماً ويقبض راتبا

وفي رواية هذه القصة فريقين

فريقٌ يقول أن الرصافي كان فظاً مع الملك وجلس دون استئذان وغادر دون استئذان وكانا في مجلس خاص، ولما سأله الملك: ليش يا معروف... أنا أعد الأيام وأقبض راتباً؟!.

أجابه الرصافي: أسأل الله ألَّا تكون كذلك!.

ثم سأله الملك: ليش كل هذا العداء يا معروف؟!

فأجابه: يا صاحب الجلالة لا يوجد ولا شخص واحد في الدنيا يقول أن لي مطمعاً في مقامكم لأجل أن يكون لي عداء معكم لأن الأغراض هي التي تولد العداء.

فقال: وهذا بلاط أم ملاط؟!

فأجابه الرصافي : إن هذا لم يكن موجهاً لشخصكم الكريم وإنما لمقامكم والمقصود هو حاشيتكم الذين أساؤوا للبلاد.

أمَّا الفريق الثاني فيؤكد الأجوبة نفسها لكن مع احترام تقاليد مقابلة الملوك، فلم يكن الرصافي فظاً مع الملك، كما لم يكن المجلس خاصاً، بل كان مجلساً عاماً وكان العتاب مقتصراً على قول الرصافي "يعد أياماً ويقبض راتباً"، لكن الأكيد أن الرصافي لم يكن مهادناً لحكم الملك فيصل ولا لحكم عبد الإله الوصي على العرش من بعده، لذلك سخَّر شعره في خدمة ثورة الكيلاني فيما بعد.

كان الرصافي معروفاً بتحيزه إلى الفقراء والعمال

كان الرصافي معروفاً بين الجميع كرجل يحمل هموم البسطاء على كتفيه ويسير بها، حتَّى قيل أنَّه شاعر الفقراء والبؤساء، ولم يكن ليخفي أبداً هذا التحيز على الرغم أنَّ مثل هذه التوجهات كانت تهمة في زمن وقوع العراق تحت الانتداب الإنجليزي ومحاولة القوى الغربية محاربة المد الشيوعي القادم من الاتحاد السوفيتي.

عبر الرصافي خلال قصائده عن توجهاته الاشتراكية والشيوعية ودعوته الصريحة للسير وراء الثورة البلشفية في روسيا "للإنجليز مطامع ببلادكم لا تنتهي إلَّا بأن تتبلشفوا"، لكن الأمر تعدى ذلك ليدافع عن هذا النهج في البرلمان وينفي أن تكون نصرة الفقراء تهمة.

الشيوعية في البرلمان

يروي الرشودي في كتابه المذكور أن النائب بشير صقال قال في خطبته جملة "الحكومة نصيرة الفقراء"، وكان ذلك في جلسة السابع من حزيران/يونيو عام 1937، والملفت أن رئيس الوزراء حكمت سليمان حاول أن ينفي هذا الاتهام عن الحكومة وقال: "يا جماعة إن هذه الحكومة بعيدة كل البعد عن الشيوعيين".

وهنا تدخل الرصافي وطلب الحديث؛ فقال:

"إن الذي أفهمه من كلام فخامة رئيس الوزراء في هذه المرة وفي غيرها هو أنه يتحفظ ويحذر كل الحذر من أن يسمع أو أن يتكلم بكلمة تدل على الشيوعية أو يشم منها رائحة الشيوعية، وأفهم أيضاً أن هناك أناساً يريدون في طي الخفاء أن يضعوا تحت أقدام الحكومة مزالق من ثلوج الشيوعية، إن هذا الشيء غريب!، الشيوعية مبدؤها معلوم ومبدؤها عالٍ سامٍ جداً فليت شعري من هؤلاء الذين يريدون أن يقاوموا هذا المبدأ السامي، إن هذا المبدأ لا يقاوم إلَّا بشيئين إما بثقافة عالية أو بقوة غاشمة عظيمة جداً.

سادتي أنا شيوعي وشيوعيتي إسلامية، الشيوعية التي جاء بها محمد بن عبد الله (ص)، وجاء في القرآن (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) فالضمير هنا يعود إلى الأغنياء، فهذه كلمة حق وكل فقير له حق في مال الغني وكان صلوات الله وسلامه عليه يرسل عماله لجباية الزكاة ثم يقول (خذوها من أغنيائهم وردُّوها على فقرائهم)، فسألتكم بالله هل الشيوعية غير هذا؟ فأرجو من فخامة رئيس الوزراء أن يعرفني الرجال الذين يريدون أن يقاوموا هذا المبدأ السامي بالجهل".

وفاة الشاعر معروف الرصافي

توفي معروف الرصافي في السادس عشر من آذار/مارس عام 1945 عن عمر يناهز السبعين، وقد خرج الكثير من الناس في تشييعه إضافة إلى الأدباء والصحفيين والسياسيين، كما نظموا في تأبينه قصائداً عديدة منها ما وضع في الصفحة الأولى في ديوانه لعبد الكريم العلاف:

أمثل الشاعر المعروف يبقى رهين البيت في عيش كفاف

فقم واندب مآثره وارخِ بعدم مات معروف الرصافي

منعت بعض أعمال الرصافي من النشر، كذلك بعض فصول كتبه

ترك الرصافي إرثاً كبيراً من الشعر فضلاً عن آرائه ومؤلفاته في الأدب والدين والفلسفة، وقد عملت الظروف في ضياع بعض ما ألف أو إخفائه، كما قامت الرقابة بمنع بعض كتاباته لاعتبارها مخالفة للتقاليد أو تمس بالمقدسات خاصة في كتابه (الرسالة المحمدية)، وفي الكتاب الذي بوبه الدكتور يوسف عز الدين بعنوان (الرصافي يروي سيرة حياته) جامعاً فيه ما عرف بـ "أحاديث الرصافي".

وهي الأحاديث التي تم نقلها عن الرصافي وبقيت مخطوطة تنتقل من شخص إلى آخر إلى أن وصلت إلى الدكتور يوسف عز الدين عن طريق والده فنشرها، فمنعت بعض الفصول من النشر.

أبرز مؤلفات الرصافي

  • الأناشيد الوطنية، مجموعة من الأناشيد لطلاب المدارس.
  • دروس في آداب اللغة العربية، عبارة عن مجموعة من المحاضرات التي ألقاها في دار المعلمين.
  • نفح الطيب في الخطابة والخطيب.
  • على باب سجن أبي العلاء، هو كتاب في الرد على طه حسين بخصوص فلسفة المعري.
  • عدة إصدارات شعرية تم جمعها في ديوان واحد معروف بديوان الرصافي أو الرصافيات تم طبعه عام 1910، ثم تم طبعه مرتين سنأتي مع تعديلات على ذكرها بالتفصيل.
  • الشخصية المحمدية (حل اللغز المقدس)، هذا الكتاب يلقى هجوماً كبيراً يصل حدَّ تكفير الرصافي على الرغم أنَّ الرصافي تركه مخطوطاً على دفاتر مدرسية عادية.

تم ترتيب ديوان الرصافي في أربعة أبواب حسب الموضوع

نشرت المكتبة الأهلية في بيروت أولى طبعات ديوان الرصافي عام 1910، حيث اعتنى بترتيبه وتبويبه والتقديم له الأستاذ محي الدين الخياط، واعتنى بشرح بعض قصائده الشيخ مصطفى الغلاييني، فكان أن بوب الخياط ديوان الرصافي في أربعة أبواب حسب موضوعات القصائد ( الكونيات، الاجتماعيات، التاريخيات، الوصفيات).

أمّا الطبعة الثانية من ديوان الرصافي

صدرت عن دار المعرض في بيروت عام 1932، جاءت ضعف حجم الطبعة الأولى (524 صفحة)، كما تمت إضافة أبواب عدَّة حتَّى بلغ عددها أحد عشر باباً متضمنة الأبواب الأربعة في الطبعة الأولى (الكونيات، الاجتماعيات، التاريخيات، الوصفيات، الفلسفيات، النسائيات، الحريقيات، المراثي، السياسيات، الحربيات، المقطعات).

الطبعة الثالثة من ديوان الرصافي

اعتمدنا الطبعة الثالثة من ديوان الشاعر معروف الرصافي التي صدرت عام 1953 عن المكتبة العصرية في بغداد وطبعتها دار الكتاب العربي في القاهرة، قام على شرحها وتصحيحها مصطفى السقا، تميزت بوجود مجموعة من القصائد لم يتم نشرها في الطبعتين السابقتين، فضلاً عن فهرسة القصائد وفقاً للقافية إضافة إلى فهرسة الموضوعات التي قدمتها الطبعة الأولى، وقد تميزت هذه الطبعة أيضاً أنَّها طبعت بعد وفاة الشاعر، كما قام المشرفون عليها بجمع ما يمكن من قصائده التي خطها بيده أو نشرها في الصحف دون أن يجمعها بالديوان.

سنتبع تبويب الديوان نفسه في عرض مختارات من شعر معروف الرصافي

في الفقرة الأخيرة من مادتنا نقدم مختارات من شعر معروف الرصافي معتمدين فيها على تبويب الديوان نفسه بواقع أحد عشر باباً حسب الموضوعات، وهي كالآتي:

1. كونيات الرصافي

في هذا الباب جمعت القصائد التي تأمل فيها الرصافي الكون والوجود من حوله، وهي مجموعة قصائد طويلة تحتوي على صور جمالية بديعة وعمق فلسفي يستحق التأمل الطويل، كما أنَّها من القصائد التي جعلت من الرصافي قامة شعرية كبيرة بحق، ومنها قوله:

جمالكَ يا وجه الفضاءِ عجيب وصدرك يأبى الانتهاء رحيبُ

وعينُك في أمِّ النجوم كبيرةٌ تضيء على أن الضياء لهيبُ

وما زلت تغضيها فنُخطئ قصدنا وتفتحها برّاقةً فنصيبُ

فيحمرّ منها في الغَدّية مطلع ويصفرّ منها في العشيّ مغيبُ

ويخلفها البدر المنير حفيدها وعنها إذا جنّ الظلام ينوبُ

وقوله في الكونيات أيضاً:

أجِدَّكِ يا كواكب لا تُرينا بياناً منكِ يخبرنا اليقينا

كأنَّ العالم العلوي سِفرٌ نطاله ولسنا مفصحينا

نحاول منه إعراب المعاني بتأويل فنرجع معجمينا

2. اجتماعيات الرصافي

وقد تنطق الأيامُ بالحقِ أعجما وتُسكِت عن تبيانه كلَّ ناطقِ

وكم مدعٍ فضلَ التمدنِ ما له من الفضلِ إلا أكلُهُ بالملاعقِ

وكم عاقل عدَّه الناس أحمقاً وما هو لو يُبلى سوى متحامقِ

وألطف جورِ الدهر جورٌ نرى به تدلل معشوقٍ وذلة عاشقِ

ومن اجتماعيات الرصافي أيضاً:

ابنوا المدارس واستقصوا بها الأملا حتى نُطاول في بنيانها زُحلا

جودوا عليها بما دَرَّت مكاسِبُكم وقابلوا باحتقارٍ كلَّ مَن بَخِلا

إن كان للجهل في أحوالنا عِلَل فالعلم كالطبِّ يَشْفي تلكم العِللا

سيروا إلى العلم فيها سَير معتَزِم ثم اركبوا الليل في تحصيله جَمَلا

لا تجعلوا العِلم فيها كلَّ غايتكم بل علّموا النَشء علماً يُنتج العَملا

هذي مدارسكم شَروَى مزارعكم فأنبتوا في ثراها ما علا وغلا

لا تتركوا الشَوك ينمو في مَنابتها أعني بذلكم الأهواء والنّحلا

3. فلسفيات الرصافي

لعمركَ ما كلُّ انكسارٍ له جبرُ ولا كلُّ سّر يستطاع به الجهرُ

لقد ضربتْ كفُّ الحياة على الحِجا ستاراً فعِلم القوم في كنهها نزرُ

فقمنا جميعاً من وراء سِتارها نقول بشوقٍ: ما وراءك يا سترُ؟

حكت سرحة فنواء نُبصر فرعها ولم ندرِ منها ما الأنابيش والجذر (السرحة: الشجرة، الأنابيش: الجذور)

وقد قال بعض القوم إن حياتنا كليلٍ وإن الفجرَ مطلعه القبرُ

وما كلُّ مشعور به من شؤونها قدير على إيضاحه المنطق الحرُّ

ففي النفس ما أعيا العبارة كشفُه وقصَّر عن تبيانه النظمُ والنثرُ

ومن خاطراتِ النفس ما لم يقم به بيان ولم يَنهض بأعبائه الشعرُ

4. وصفيات الرصافي

(الأرملة المرضعة)

لقِيتُها ليتنِـي مَا كنتُ ألقاهَـا تَمشي وقد أثقلَ الإمْلاقُ مَمشَاهَـا

أثوابُـها رثَّـةٌ والرِّجلُ حَافيـةٌ والدَّمعُ تذرفهُ في الخَدِّ عيناهَـا

بكتْ مِنَ الفَقْرِ فاحْمرَّتْ مدامعُها واصْفَرَّ كالوَرْسِ مِنْ جُوعٍ مُحَيَّاهَـا (الورس: الكركم)

ماتَ الذي كان يحْميهَا ويُسعدها فالدَّهرُ مِنْ بعده بالفَقْرِ أَشْقَاهَـا

الموتُ أفجعَهـا والفقرُ أوجعَها والهمُّ أنْحلَها والغَمُّ أَضْنَاهَـا

فمنْظَرُ الحُزْنِ مَشهودٌ بمنظَرِهـا والبؤْسُ مرآهُ مَقْرُونٌ بِمَرْآهَـا

كرُّ الجدِيدَيْنِ قد أبلى عباءتهـا فانْشَقَّ أسْفلُها وانشقَّ أعْلاهَـا

ومزَّقَ الدَّهرُ، ويل الدَّهرِ، مئزرها حتَّى بدا من شقوقِ الثَّوبِ جَنْبَاهَـا

تمشي بأطْمارِها والبرْدُ يلسعُهـا كأنَّهُ عقربٌ شالـتْ زُبَانَاهَـا

حتَّى غدا جسمها بالبرد مرتجفاً كالغُصْنِ في الرِّيح واصْطَكَّتْ ثَنَايَاهَا

تمشي وتحملُ باليسرى ولِيدتها حَمْلاً على الصَّدْرِ مَدْعُومَاً بِيُمْنَاهَـا

قد قَمَّطَتْهَا بأهـدامٍ مُمزَّقـةٍ في العينِ منشرها سَمْجٌ وَمَطْوَاهَـا

ما أنْسَ لا أنْسَ أنِّي كنتُ أسمعها تشْكُو إِلَى ربِها أوْصَابَ دُنْيَاهَـا

تقولُ يا ربِّ، لا تترك بلا لبنٍ هذِي الرَّضيعةَ وارحمْنِي وَإيَاهَـا

ما تَصنَعُ الأمُّ في ترْبيبِ طفلتِهَا إِنْ مَسَّهَا الضُّرُّ حتَّى جفَّ ثَدْيَاهَـا

5. حريقيات الرصافي

الحريقيات هي مجموعة من القصائد التي كتبها معروف الرصافي في تركيا، تحدث فيها عمَّا شاهده من اندلاع الحرائق التي كثرت في تلك الأيام، فكان يصف الأبنية وما حل بها، ومنها قوله:

ما للديارِ تراءى وهي أطلالُ هلْ خَفَّ بالقومِ عَنها اليومَ تِرحالُ

كانتْ بِها السَّمُراتُ الخُضرُ زَاهيةً واليومَ لا سُمر فيها ولا ضالُ

ما بالها وهي أقفاصُ مبعثرة تغيرُّ فيهنَّ أبكارٌ وآصالُ

هل هدَّ بنيانها من فوقُ صاعقة أوهدَّ بنيانها من تحت زلزال

بل قد عفتها فلم تترك بها أثراً ريحٌ لها من لهيبِ النارِ أذيالُ

شبَّ الحريق بها ليلاً مشيّدةً فما أتى الُّصبحُ إلا وهي أطلالُ

أنارتْ النارُ في أطرافها رهجاً من الدخان كأنَّ النارَ أبطالُ

حتَّى حكت معركاً خرَّت بساحتِهِ صرعَى بُيوتٌ وأموالٌ وآمالُ

دارُ السَّعادةِ أمستْ من تحرّقها دارَ الشقاءِ وقد ضاقتْ بِها الحالُ

6. مراثي الرصافي

(في رثاء الشيخ محي الدين الخيط الذي جمع أول ديوان للرصافي وبوبه)

عليكِ العفا بيروت هلْ لكِ بعدما قضى فيك محيي الدين من متصبّرِ

فتىً كان ركناً فيكِ للعِلِمِ والحجا وغرَّ القَوافي والكلام المحبّرِ

لقد عاش شيخاً في العلومِ مقدّماً فما ضرّه أنْ ماتَ غير معمّرِ

وما ماتَ من أبقى له طيِّب الثنا لدى الناسِ من بادٍ ومن متحضِّرِ

نعاهُ لي الناعي فكان كأنَّهُ لدَى نَعيهِ أهوَى إليَّ بخنجَرِ

7. نسائيات الرصافي

كان الرصافي قطباً من أقطاب معركة السفور والحجاب التي شهدها العراق بين الداعين إلى خلع المرأة للحجاب كجزء من تحررها، وبين المدافعين عن الحجاب وقدسيته في الإسلام، وكان الرصافي والزهاوي -على الرغم من العداء بينهما- من الأصوات البارزة التي دعت لعدم إجبار المرأة على ارتداء الحجاب، بل اعتبر الرصافي أن المرأة المسلمة مظلومة بميراثها وحقوقها أيضاً، فقال:

لم أرَ بين الناس ذا مَظْلِمَة أحقَّ بالرحمة من مسلمـة

منقوصـةٍ حتَّى بِميراثها مَحجوبةٍ حتى عن المكرُمَة

فقد جعلوا الجهل صواناً لها من كلِّ ما يدعو إلى المأثمة

والعِلِمُ أعلى رتبةً عندهم مِن أنْ تلقاهُ وأن تَعلمه

ما تَعملُ المرأةُ مَحبوسةً في بيتها إنْ أصبحتْ مُعدمةْ

وفي قصيدة له بعنوان إلى الحجابيين أعقبت صدور كتاب (السفور والحجاب) لمؤلفته نظيرة سيف الدين:

يا لاجئين إلى العنادِ خصومةً ما كان حِصنُ عنادكم بحصِينِ

هَدمتْ نظيرة ما بنتْ عادتكمْ من كلِّ سجن للنساء مهينِ

أفتمكثون على العنادِ وقد بدا من بعدِ ليلِ الشَّكِ صبحُ يقينِ

8. تاريخيات الرصافي

ألا لفتة مِنَّا إلى الزمن الخالي فتغبِط من أسلافنا كل مِفضالِ

تَلونا أناساً في الزمانِ تَقدمُوا وكمْ عِبرَة في مَن تقدمَ للتالي

ألا فاذكروا يا قومُ أربعَ مجدكم فقد درست إلا بقية أطلالِ

تطلبتمُ صفوَ الحياة وأنتمُ بجهل، وهل تصفو الحياةُ لجهالِ؟

9. سياسيات الرصافي

(الوطن والأحزاب)

متى نرجو لغُمتّنا انكشافاً وقد أمسى الشِقاق لنا مَطافا

ملأنا الجوّ بالجدل اصطخاباً وكنّا قبلُ نملؤه هُتافاً

وما زلنا نَهيم بكلّ وادٍ من الأقوال نُرسلها جُزافا

ونُرجف في البلاد بكل رُعبٍ يهُزّ فرائص الأمن ارتجافا

ونتّهم الحكومة باعتسافٍ ونحن أشدّ ظلماً واعتسافا

10. حربيات الرصافي

وهي القصائد التي قالها الرصافي في الحروب المتعددة التي اندلعت في تلك الفترة إضافة إلى الافتخار ببطولات الأمة العربية في الحروب، ومنها قوله:

نحنُ للحرب العوانِ ولإدراك الأماني

لا نعدُّ العرس إلّا يوم ضرب وطعانِ

يومَ نحسو من دمِ الأعداءِ لا من بنتِ الدَّنانِ

ما صليلُ السَّيفِ إلّا عندنا صَوتَ المثاني

11. مقطعات الرصافي

وهي القصائد القصيرة التي تم فرزها على حدة في الديوان، ومنها:

كلوا يا أيُّها السادة كما تنكره العادة

كلو من مطبخِ الدُّستورِ أكلة السَّاسةِ القادة

كلوا بالسبعةِ الأمعاء حتَّى تنفذوا زاده

كلوا لا تخشوا الناسَ فإنَّ الناسَ منقادة

كلوا لا تخشوا من الدّهرِ فأمُّ الدّهرِ قوادة.

ختاماً.... كانت أفكار الرصافي في زمانه محل أخذ ورد بين الناس، فلم يكن من الشعراء الذين يمرون ويرحلون تاركين خلفهم بعض قصائد المديح أو الهجاء، بل كان من الشعراء الذين استحقوا فيما بعد أن تقام دراساتٌ عديدة لتتبع مسيرتهم وحياتهم ومصير أعمالهم، وما زالت آثار الرصافي إلى اليوم موضع جدل بين الباحثين والمؤرخين.