إيليا أبو ماضي شاعر المهجر الأكبر
أبيات إيليا أبو ماضي وأشهر قصائده
أبيات الحبِّ والمرأة في شعر إيليا
شكَّل أدباء وشعراء المهجر ظاهرةً استثنائية مطلع القرن العشرين، حيث استطاعوا تشكيل عدَّة تجمعات أدبية في الأمريكيتين وقدموا أعمالاً اعتبرت آن ذاك من صفوة أعمال الأدب العربي، لكنهم تعرضوا أيضاً لانتقادات كثيرة من قبل الشعراء الاتباعيين، حيث يعتبر شعراء المهجر من مؤسسي القصيدة الحديثة من حيث المعنى والمبنى ومن الدعاة إلى التجديد في اللغة وما يتفرع عنها من الفنون... من بين الأسماء الكثيرة التي لمعت في سماء الغرب كان الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي، الملقب بشاعر المهجر الأكبر.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
شبَّ في مصر ونشر فيها ديوانه الأول
ولد الشاعر إيليا أبو ماضي عام 1889 أو عام 1890 في المتن الشمالي في لبنان، ولم يتلقَ من التعليم إلَّا الأساسيات في قريته من القراءة والكتابة، ثم ارتحل إلى مصر عن عمر إحدى عشرة سنة مع أبيه، وكان القصد من الرحلة هو التجارة والعمل.
لكن إيليا وجد في مصر بيئة مناسبة لتطوير ملكاته الشعرية فبدأ بنظم الشعر صغيراً، وكان قد أقام في الإسكندرية وأدار فيه دكاناً صغيراً لبيع السجائر، حيث بقي أبو ماضي في مصر حتى بلغ العشرين من عمره تقريباً، وطبع فيها ديوانه الأول (تذكار الماضي) ثم شدَّ الرحال إلى أمريكا الشمالية التي كانت قبلة المهاجرين آن ذاك.
إيليا أبو ماضي في أمريكا
استقر إيليا أبو ماضي في أمريكا عام 1911 حيث عمل في التجارة في سنواته الأولى حتى عام 1916، ثم انتقل من مدينة سنسناتي إلى مدينة نيويورك ليجد فيها ضالته الأدبية، فتعرف في نيويورك إلى مجموعة كبيرة من الكتاب والشعراء اللبنانيين والسوريين المهاجرين أبرزهم: جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ونسيب عريضة، إضافة إلى ندرة حداد ورشيد أيوب وغيرهم، فألَّفوا معاً رابطةً أدبية في المهجر أطلقوا عليها اسم (الرابطة القلمية)، ومن وقتها عاد إيليا أبو ماضي ليتفرغ للعمل في الكتابة الصحفية والشعرية حتى وفاته في الثالث والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر عام1957.
يعرف إيليا أبو ماضي بشاعر المهجر الأكبر
ما زال شعر إيليا أبو ماضي متميزاً وفريداً حتى يومنا هذا، فهو شِعر رقيق العاطفة وبسيط الكلمة كما أنَّه عميق في المعنى، من جهة أخرى فقد مرَّ شِعر إيليا أبو ماضي بمراحل تطورية عديدة؛ فهو لم يتلقَ تعليماً أكاديمياً يساعده في مبتغاه الشِعري بل اعتمد على نفسه بشكل كبير خاصة في مراحله الأولى.
ثم بدأت أدواته الشِعرية واللغوية تتطور مع اتساع اطلاعه واختلاطه مع كبار الأدباء والشعراء من أبناء عصره ورفاق مهجره، وكان ذلك في فترة كاد أدباء المهجر يحتكرون الإنتاج الثقافي العربي بما قدموه من الشعر والنثر وضروب الأدب، وقد اتجه أبو ماضي في بدايته إلى الاتباعية في الشكل وتقليد الشعر القديم في بناء القصيدة ومطالعها، كما قدم العديد من محاولات إعادة إحياء الموشَّحات الأندلسية، واعتنى في بداياته بالشكل والصنعة البديعية على حساب المعنى، لكنَّ أبو ماضي عندما أصدر ديوانه الأول وهو في العشرين من عمره تقريباً لم يكن قد تمكن أو اكتسب ما يكفي من الخبرة التي سنجدها عنده لاحقاً.
تناول إيليا أبو ماضي موضوعات مختلفة في شعره
ترك أبو ماضي لنا عدَّة دواوين شعرية أشهرها الجداول والخمائل، إضافة إلى مجموعة من القصائد التي نشرها في الصحف والمجلات، حيث تناول إيليا أبو ماضي مواضيع مختلفة في شعره عبَّر عنها بشكل بديع؛ تعالوا نتذكر معاً أشهر قصائد الشاعر إيليا أبو ماضي وأبرز موضوعاته.
أبيات إيليا أبو ماضي وأشهر قصائده
شعر أبو ماضي عن الغربة
يواسي أبو ماضي نفسه في قصائده ويواسي وطنه، فهو يقدم الأسباب التي دفعته إلى هجرة وطنه مرغماً فيقول واصفاً حالة وطنه وحالة الأديب فيه:
وطن أردناه على حبّ العلى فأبى سوى أن يستكين إلى الشّقا
كالعبد يخشى -بعدما أفنى الصبى يلهو به ساداته- أن يعتقا
أو كلَّما جاء الزمان بمصلحٍ في أهله قالوا: طغى وتزندقا؟
فكأنَّما لم يكنه ما قد جنوا وكأنَّما لم يكفهم أنْ أخفقا
هذا جزاء ذوي النُّهى في أمَّةٍ أخذ الجمود على بينها موثقا
وطنٌ يضيق الحرُّ ذرعاً عنده وتراه بالأحرار ذرعاً أضيقا
مشتْ الجهالة فيه تسحبُ ذيلها تيهاً، وراح العِلمُ يمشي مطرقا
ويقول في الهجرة أيضاً:
شرَّدتْ أهلكَ النوائبُ في الأرض وكانوا كأنجم الجوزاءِ
وإذا المرءُ ضاق بالعيش ذرعاً ركب الموتَ في سبيلِ البقاءِ
إيليا أبو ماضي ومصر
كانت علاقة إيليا أبو ماضي بمصر علاقة استثنائية، فهو أحبَّ مصر وأهلها وقال في مصر أروع الأبيات، لكنَّه أيضاً ألمح في شعره أنَّه غادر مصر هارباً من الظلم، علماً أنَّه عاد يشكو غربته واعتبر أنَّه أخطأ في ترك مصر، يقول إيليا أبو ماضي في مصر:
ليس الوقوف على الأطلال من خلقي ولا البكاء على ما فات من شيمي
لكنّ (مصرا)، و ما نفسي بناسية مليكة الشّرق ذات النيل والهرمِ
صرفتُ شطر الصِّبا فيها فما خشيتْ نفسي العثار؛ ولا نفسي من الوصمِ
في فتيةٍ كالنُّجوم الزهر أوجههم ما فيهم غير مطبوع على الكرمِ
ويقول في هجر مصر
نأى عن أرضِ مِصر حَذار ضيمٍ فَفرَّ من عَذابٍ إلى عَذابِ
أبيات الحبِّ والمرأة في شعر إيليا أبو ماضي
وكان لإيليا أبو ماضي وقفة مع الحبِّ وسحره، وربما تكون من أجمل أبياته في ذلك القصيدة التي أوردنا مطلعها، ويقول فيها:
ليت الذي خلق العيون السودا خلق القلوبَ الخافقات حديدا
لولا نواعسها ولولا سحرها ما ودَّ مالكُ قلبه لو صيدا
عَوذْ فؤادك من نبال لحاظها أو متْ كما شاء الغرام شهيدا
إنْ أنتَ أبصرت الجمال ولم تهِم كنت امرءاً خشن الطباع بليدا
وإذا طـلبت مع الصبابة لذةً فلقد طـلبت الضائع الموجودا
يــا ويح قلبي إنَّه في جانبي وأظـنه نائي المـزار بعـيدا
ما لي أكلف مهـجـتي كتم الأسى إن طال عهد الجرح صار صديدا
ويلذُّ نفـسي أن تكون شقيةً ويلــذُّ قلبي أن يكون عميدا
إن كنت تدري ما الغـرام فداوني، أو لا فخلِّ العذل والتفنيدا
عذابات الحبِّ
عَيناكِ والسِحرُ الَّذي فيهِما صيَّرياني شاعِراً ساحِرا
علَّمَتنِيَ الحبَّ وعلمتُهُ بدر الدُجى والغُصن والطائِرا
أن غِبتِ عن عَيني وجُنَّ الدُجى سألتُ عنكِ القمر الزاهِرا
وأطرُقُ الروضة عند الضُحى كَيما أناجي البُلبُلَ الشاعِرا
وأنشُقُ الوردةَ في كُمِّها لِأَنَّ فيها أَرَجاً عاطِرا
يُذكِّرُ الصَبُّ بِذاكَ الشَذا هَل تَذكُرينَ العاشِقَ الذاكِرا
ذكريات إيليا أبو ماضي
ولقد ذكرتُكِ بعد يأسٍ قاتلٍ في ضحوةٍ كثُرَت بِها الأَنواءُ
فودِدتُ أنّي غرسةٌ أو زهرَةٌ ووددتُ أنَّكِ عاصِفٌ أَو ماءُ
كجميع شعراء المهجر أبدع أبو ماضي في قصائد الحنين
واحدة من أبرز سمات شعراء المهجر أنَّهم كلَّهم تغنوا بوطنهم الأمِّ، وباحوا بأشواقهم وشكوا آلام غربتهم، كما أنَّهم وصفوا حالة أوطانهم التي لا تسرُّ الخاطر كما رأينا في الأبيات الماضية لشاعرنا أبو ماضي، لكنَّه على الرغم من غضبه من حال بلاده كانت أشواقه أكثر تدفقاً في قصائده، ومنها قوله:
وطنَ النُجومِ أنا هُنا حَدّق، أتذْكُرُ مَنْ أنا؟ ألمحتَ في المَاضِي البَعيدِ فتىً غريراً أرعَنا؟
جذلانَ يمرحُ في حقولكَ كالنسيمِ مُدندِنا، يَتسلَّقُ الأشجَارَ لا ضَجراً يُحسُّ ولا وَنى
ويَعودُ بالأغصانِ يَبرِيها سُيوفاً أو قَنا، ويَخوضُ في وَحلِ الشِّتا مُتهلِّلاً مُتيمِّنا
لا يتَّقي شَرَّ العُيونِ ولا يَخافُ الألسُنا، ولكمْ تَشيطَنَ كي يَقولَ النَاسُ عَنهُ "تَشيطَنا
أنا ذَلكَ الوَلدُ الَّذي دُنياهُ كانتْ ههنا، أنا مِن مياهكَ قَطرةٌ فَاضتْ جَداولَ مِنْ سَنَا.
أمنية المهاجر
جعتُ والخبز وثيرٌ في وطابي والسّنا حولي وروحي ف�� ضبابِ
وشربتُ الماء عذباً سائغاً وكأنِّي لم أذق غير سرابِ
محنةٌ ليس لها مثل سوى محنة الزّورقِ في طاغي العبابِ
ليس بي داءٌ ولكنيَّ امرؤ لستُ في أرضي ولا بين صحابي
مرَّتْ الأعوامُ تتلو بعضها للورى ضحكي ولي وحدي اكتئابي
كلّما استولدت نفسي أملاً مدَّت الدُّنيا لهُ كفَّ اغتصابِ!
ربّ هبني لبلادي عودة وليكن للغير في الأخرى ثوابي
أيُّها الآتون في ذاكَ الحمى يا دعاةَ الخير، يا رمز الشَّبابِ
كمْ هششتم وهششنا للمنى وبكيتم وبكينا في مصابِ
واشتركنا في جهادٍ أو عذابٍ والتقينا في حديثٍ أو كتابِ
وعرفتم وعرفنا مثلكم إنَّما الحقُّ لذي ظفرٍ ونابِ
كلُّ أرض نام عنها أهلها فهي أرض لاغتصابٍ وانتهابِ
عاش لبنان ولتعيش سوريا
وكانت لبنان وسوريا في تلك الأيام ما تزال بلاد واحدةً بعضها امتداد لبعض، فنلاحظ أن جميع شعراء وأدباء المهجر يشيرون إلى الدولتين بذات البنان كأنَّها دولة واحدة، وهنا نرى إيليا أبو ماضي ينشد لبنان وسوريا معاً:
مثلما يكمن اللّظى في الرَّمادِ هكذا الحبُّ كامنٌ في فؤادي
لستُ مغرى بشادنٍ أو شادِ أنا صبٌّ متيَّمٌ ببلادي
يا بلادي عليك ألف تحيّة
هو حبٌّ لا ينتهي والمنيَّةْ لا ولا يضمحلُّ والأمنيِّةْ
كان قبلي وقبل الشّجيّةْ كان من قبل في حشا الأزليَّةْ
وسيبقى ما دامتْ الأبديَّةْ
كلُّ شيءٍ في هذه الكائنات من جمادٍ وعالمٍ ونباتْ
وقديمٍ وحاضرٍ أو آتْ صائرٌ للزوالِ أو للمماتْ
غير شوقي إليك يا سوريَّة
أنتِ ما دمتُ في الحياة حياتي فإذا ما رجعتُ للظلماتِ
واستحالتْ جوارحي ذرّاتِ فلتقل كلّ ذرة من رفاتي
عاشَ لبنانُ ولتعش سوريَّةْ
ولتقل كلُّ نفحةٍ من ندِّ ولتقل كلُّ دمعة في خدِّ
ولتّقل كلُّ غرسةٍ فوق لحدي وليقل كلُّ شاعرٍ من بعدي
عاش لبنانُ ولتعش سوريَّةْ
لا شيء مثل بلادي
وفي هذه القصيدة نرى إيليا أبو ماضي يقارن بين ما عرفه في غربته وما كان في بلاده، ولا بد هنا من الإشارة إلى أنَّ بعض هذه المشاعر انساقت مع تيار الحنين العام لدى شعراء المهجر بغض النظر عن صدقها عند أبو ماضي أو غيره، ونحن لسنا في مكان نقيِّم فيه صدق القلوب، لكن شعراء المهجر كانوا يدخلون فيما يشبه المبارزة من منهم أكثر حنيناً، يقول أبو ماضي:
وشربت ماء النيل شيخ الأنهرِ فكأنَّني قد ذقتُ ماءَ الكوثرِ
نهرٌ تباركَ مِن قديم الأعصرِ، عذبٌ، ولكن لا كماء بلادي
وقرأتُ أوصافَ المروءةِ في السِّيرْ فظننتها شيئاً تلاشى واندثرْ
أو أنَّها كالغول ليس لها أثرْ فإذا المروءة في رجال بلادي
ورسمتُ يوماً صورة في خاطري، للحُسنِ إنَّ الحُسنَ ربّ الشاعر
وذهبتُ أنشدها فأعيا خاطري حتَّى نظرتُ إلى بناتِ بلادي
قالوا: أليس الحُسنُ في كلِّ الدُّنى فعلامَ لم تمدح سواها موطنا
فأجبتهم إنَّي أحبُّ الأحسنا... أبدا، وأحسن ما رأيتُ بلادي
قالوا: تأمَّل أيّ حال حالها صدَّع القضاء صروحها فأمالها
حي الشآم
قصيدته هذه من أبدع ما قال الشاعر الراحل إيليا أبي ماضي في الشآم، وفيها رثاء شهيدها يوسف العظمة، حتى أنَّنا سنجد أبياتها الأولى محفورة على لوحٍ رخامي مغروسٍ في جدار من جدران دمشق القديمة (في شارع القشلة):
حيَّ الشآم مهنداً وكتابا والغوطةَ الخضراءَ والمحرابا
ليستٍ قباباً ما رأيتُ وإنَّما عزمٌ تمرَّد فاستطالَ قبابا
بأبي و أمّي في العراء موسَّدٌ بعثَ الحياةَ مطامعا و رابا
لما ثوى في ميسلون ترنَّحتْ هضباتها و تنفّست أطيابا
و أتى النجوم حديثه فتهافتت لتقوم حرَّاسا له حُجَّابا
ما كان يوسف واحداً بل موكباً للنور غلغل في الشموس فغابا
هذا الذي اشتاق الكرى تحت الثرى كي لا يرى في جلَّق الأغرابا
أبيات الحكمة من شعر إيليا أبو ماضي
وسنلاحظ من خلال أبيات الحكمة من شعر أبو ماضي أنَّه يدعو إلى التفاؤل والإقبال على الحياة، كما سنلاحظ أنَّه يدعو إلى تأمل الحياة من جانبها المشرق والتعلم من الطبيعة كيف تكون المحبَّة والعطاء، فهو صاحب الأبيات الشهيرة:
كُنْ بلسماً إن صار دهركَ أرقما وحلاوةً إنْ صار غيركَ علقما
إنَّ الحياة حبتكَ كلَّ كنوزها لا تبخلنَّ على الحياةِ ببعض ما
أحسِنْ وإن لم تجزَ حتى بالثنا أيَّ الجزاءِ الغيثُ يبغي إن همى؟
مَنْ ذا يكافئُ زهرةً فواحةً؟ أو من يثيبُ البلبل المترنما؟
عُدَّ الكرامَ المحسنين وقِسْهُمُ بهما تجدْ هذينِ منهم أكرما
ياصاح خُذ عِلم المحبة عنهما إنّي وجدتُ الحبَّ عِلماً قيما
لو لم تَفُحْ هذي، وهذا ما شدا عاشتْ مذممةً وعاش مذمما
فاعمل لإسعاد السّوى وهنائهم إنْ شئتَ تسعد في الحياة وتنعما
أيقظ شعورك بالمحبة إن غفا لولا الشعور الناس كانوا كالدمى
أحبب فيغدو الكوخ قصرا نيرا وابغض فيمسي الكون سجنا مظلما
ابتسم
قال: السماءُ كئيبةٌ! وتَجهما قلتُ: ابتسم يكفي التجهمُ في السما !
قال: الصِبا ولَّى! فقلتُ له: ابتــسم لن يُرجعَ الأسفُ الصِبا المتصرما !!
قال: التي كانت سمائي في الهوى صارت لنفسي في الغرام جــهنما
خانت عــــهودي بعدما ملَّكتُها قلبي، فكيف أطيق أن أتبســما !
قلـــت: ابتسم و اطرب فلو قارنتها لقضيت عــــمرك كلَّه متألما
قال: الــتجارة في صراعٍ هائلٍ مثل المسافرِ كاد يقتله الـــظما
أو غادة مسلولة محــتاجة لدم، و تنفث كلَّما لهثتُ دما !
قلت: ابتسم ما أنتَ جالبُ دائها وشفائها، فإذا ابتسمت فربما
شعر إيليا أبو ماضي حول الغرور
ليَ صاحِبٌ دخلَ الغُرورُ فُؤادهُ إِنَّ الغرورَ أخيَّ مِن أَعدائي
أسديتهُ نُصحي فزاد تمادِياً في غيِّهِ وازداد فيه بَلائي
أَمسى يُسيءُ بي الظُنونَ ولم تَسُء لَولا الغُرورُ ظنونهُ بِولائي
قَد كنتُ أَرجو أن يُقيمَ على الوَلا أبداً ولكِن خابَ فيهِ رَجائي
أَهوى اللِقاءَ به ويَهوى ضِدَّهُ فكأنَّما الموتُ الزُؤامُ لِقائي
إِنّي لأَصحبهُ على علَّاتهِ والبَدرُ من قِدَمٍ أَخو الظَلماءِ
يا صاحِ إِنَّ الكِبرَ خُلقٌ سيٌّ هَيهات يوجَدُ في سِوى الجُهَلاءِ
خذ عن الدنيا
خُذ ما استطعتَ مِن الدُّنيا وأهليها لكن تَعلَّم قليلاً كيفَ تُعطيها
كم وردة طيبها حتَّى لسارِقها لا دمنه خبثها حتَّى لساقيها
أكانَ في الكونِ نورُ تستضيء به لو السماءَ طوتْ عنَّا دراريها؟
أو كانَ في الأرضِ أزهارٌ لها أرجٌ لو كانت الأرضُ لا تبدي أقاحيها؟
إنْ كانتْ النفسُ لا تبدو محاسنها في اليسرِ صارَ غِناها مِن مخازيها
يا عابدَ المالِ قُلْ لي هَلْ وجدتَ بِه روحاً تؤانسكَ أو روحاً تؤاسيها؟
حتّى مَ، يا صاح، تخفيه وتطمرهُ كأنَّما هو سوءاتٌ تواريها؟
أشعار اليأس عند إيليا أبو ماضي
وهذه أيضاً من صفات شعر المهجر، وأيضاً سنرى شعراء المهجر يتبارون أيُّهم أكثر قدرةً على تصوير الألم واليأس:
ليسَ يدري الهمَّ غير المبتلي طالَ جنحُ اللَّيلِ أو لمْ يَطلِ
ما لهذا النَّجمِ مثلي في الثّرى طائرَ النَّومِ شديدَ الوَجلِ
أتُراهُ يتَّقي طارئةً أمْ بهِ أني غريبُ المنزلِ؟
كلَّما طالعتُ خطباً جللاً جاءني الدَّهرُ بخطبٍ جللِ
أشتكى اللَّيلَ ولو ودعته بتُّ مِن همّي بليلٍ أليلِ
يا بناتَ الأفقِ ما للصبِّ مِن مُسعدٍ في النَّاسِ؛ هلْ فيكنَّ لي؟
لا عرفتنَّ الرَّزايا إنَّها شيَّبتْ رأسي ولمْ أكتهلِ
وفي مساوئ الناس قال أبو ماضي
في هذه القصيدة يخال إيليا أبو ماضي أن ينجو بنفسه من كلِّ شيء حوله، فيهرب إلى القفر بعيداً عن كل ما يعلمه من الناس والأفكار وحتى الطعام والشارب، لكنه يجد نفسه محاصراً بهم!:
سئمتْ نفسي الحياة مع الناس وملَّت حتى من الأحبابِ
وتمشَّتْ فيها الملالةُ حتى ضجرتْ من طعامِهم والشرابِ
ومِن الكذبِ لابساً بردة الصدقِ، وهذا مسربلاً بالكذاب
ومِن القبحِ في نقابٍ جميلٍ ومِن الحُسنِ تحتَ ألفِ نقابِ
ومِن العابدينِ كلَّ إلهٍ ومِن الكافرينِ بالأربابِ
ومِن الواقفينِ كالأنصابِ ومِن الساجدينَ للأنصابِ
ومِن الراكبينَ خيلَ المعالي ومِن الراكبينَ خيلَ التَصابي
والألى يَصمتونَ صمتَ الأفاعي والألى يهزجونَ هزجَ الذُبابِ
صغرتْ حكمةُ الشيوخِ لديها واستخفَّتْ بكلِّ ما للشبابِ
قلتُ أخرجُ مِن المدينةِ للقفرِ ففيهِ النجاةُ مِن أوصابي
وليكَ الليل راهي، وشموعي الشهبُ، والأرضُ كلُّها مِحرابي
وكتابي الفضاءُ أقرأ فيهِ سوراً ما قرأتُها في كتابِ
(...)
علَّمتني الحياةُ في القفرِ أنّي، أينما كنتُ، ساكن في الترابِ
وسأبقى ما دمتُ في قفصِ الصِّلصالِ عبدَ المُنى أسيرَ الرغابِ
خلتُ أنَّي في القفرِ أصبحتُ وحدي فإذا الناسُ كلُّهم في ثِيابي!
ختاماً... كما قرأنا فقد تعدَّدت الموضوعات التي تناولها أبو ماضي، كما أنَّ مستواه الشعري شهد تغيراً واضحاً عبر الزمن وعبر الموضوع، وهذا ليس مما يعاب على الشاعر وإنَّما هي ملكة أن يمتلك الشاعر قدرة مستمرة في تحسين أدائه كذلك التأثر بما يخدم قصيدته وأفكاره، وسنختم مع بعض ما كتبه أبو ماضي في واحدة من أشهر قصائده (الطلاسم):
جئتُ لا أعلم من أين، ولكنّي أتيت ولقد أبصرتُ قدّامي طريقاً فمشيت
وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أم أبيت كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لست أدري!
أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود هل أنا حرّ طليق أم أسير في قيود
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود أتمنّى أنّني أدري ولكن... لست أدري!
وطريقي، ما طريقي؟ أطويل أم قصير؟ هل أنا أصعد أم أهبط فيه وأغور
أأنا السّائر في الدّرب أم الدّرب يسير أم كلاّنا واقف والدّهر يجري؟... لست أدري!
ليت شعري وأنا عالم الغيب الأمين أتراني كنت أدري أنّني فيه دفين
وبأنّي سوف أبدو وبأنّي سأكون أم تراني كنت لا أدرك شيئا؟... لست أدري!
أتراني قبلما أصبحت إنسانا سويَّا أتراني كنت محواً أم تراني كنت شيَّا
ألهذا اللّغو حلّ أم سيبقى أبديَّا، لست أدري... ولماذا لست أدري؟... لست أدري!