في وسط مجال اقتصر غالبيته على الرجال، برزت العالمة الألمانية ماريا غوبرت ماير في مجال الفيزياء، وكانت نظرية قشرة النواة هي ثمرة إنجازاتها وعبقريتها، وحصلت على جائزة نوبل في الأدب، لتصبح ثاني امرأة تحصل على هذه الجائزة، ولم تقتصر إنجازاتها على الاكتشافات العلمية، بل كانت ملهمة للأجيال القادمة من النساء، وأثبتت قدرتهن على النجاح والتألق في أصعب المجالات العلمية.
من هي ماريا غوبرت ماير؟
فيزيائية نظرية ألمانية أمريكية، ولدت في 28 يونيو 1906 في كاتوفيتسه، بولندا، التي كانت آنذاك جزءًا من الإمبراطورية الألمانية، وتوفيت في 20 فبراير 1972 في سان دييغو، كاليفورنيا، الولايات المتحدة، واشتهرت بمساهماتها البارزة في الفيزياء النووية، وخاصة بنموذج القشرة النووية.
حصلت ماريا على درجة الدكتوراه في الفيزياء النظرية من جامعة غوتنغن في ألمانيا عام 1930، ودرست تحت إشراف فمكس بورن، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة بعد زواجها، وهناك بدأ مسيرتها في الأبحاث، وواجهت العديد من التحديات كونها امرأة في مجال يقتصر غالبيته على الرجال تقريبًا.
تمكنت ماريا من العمل في العديد من المؤسسات البحثية والجامعات في الولايات المتحدة، وقد أصبحت رائدة في تطوير نموذج القشرة النووية، حيث تمكنت من شرح ترتيب البروتونات والنيوترونات داخل النواة.
اقترحت ماريا أن النواة تحتوي على قشور مماثلة للقشور الإلكترونية في الذرات، وأن هناك أعداداً سحرية معينة من البروتونات والنيوترونات تجعل النواة أكثر استقرارًا، وبفضل هذا الإنجاز حصلت على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1963، لتصبح ثاني امرأة تحصل على هذه الجائزة بعد ماري كوري.
كانت ماريا نموذجًا ماير نموذجًا ملهمًا للنساء في العلوم، حيث تحدت التحديات الاجتماعية والمهنية لتترك بصمة دائمة في مجال الفيزياء النووية، حيث ساهمت في زيادة فهمنا للبنية النووية.
نشأتها وتعليمها
ولدت العالمية الألمانية ماريا غوبرت ماير في 28 يونيو عام 1906 في مدينة كاتوفيتز في بولندا، حيث كانت وقتها جزءًا من الإمبراطورية الألمانية، وكانت الطفلة الوحيدة لطبيب الأطفال الألماني فريدريش جوبرت، أما والدته فهي ربة منزل واسمها ماريا ني وولف.
انتقلت العائلة عام 1910 إلى مدينة جوتنجن بسبب عمل الأب، حيث انتقل للعمل كأستاذ جامعي في جامعة جوتنجن، وهناك التحقت بمدرسة للفتيات من الطبقة المتوسطة، ثم التحقت بمدرسة ثانوية خاصة للفتيات اللاتي يطمحن إلى إكمال تعليمهن العالي.
خلال دراستها كانت ماير من بين السيدات اللاتي شاركن في أنشطة تدعم حق المرأة في التصويت، وخلال هذه الفترة خاضت امتحان القبول بالجامعة، وكانت تبلغ من العمر 17 عامًا فقط، وكانت فتاة من بين 4 أو 5 فتيات، و40 فتى، وقد نجحت كل الفتيات في الاختبار، بينما نجح ولد واحد فقط.
في عام 1924 بدأت ماريا دراستها الجامعية في جامعة جوتنجن، ودرست الرياضيات، وبعدها سافرت إلى إنجلترا، ودرست لمدة عام في جامعة كامبريدج، وفي وقت كانت معظم السيدات يتجهن إلى تدريس الرياضيات، كانت ماريا من القلائل اللاتي اهتتمن بالفيزياء، وقررت متابعة رسالة الدكتوراه.
وبالفعل تمكنت من الحصول على درجة الدكتوراه عام 1930، وكانت أطروحتها بعنوان "نظرية امتصاص الذرات المحتمل لفوتونين"، وقد وصفت هذه النظرية بأنها تحفة فنية من الوضوح والواقعية.
زواجها
تزوجت العالمة الألمانية ماريا جوبرت ماير عام 1930، بعد إنهاء دراستها العالمية، من العالم الأمريكي جوزيف إدوارد ماير، وكان زميل في مؤسسة روكفلر، وأحد مساعدي جيمس فرانك.
التقت ماير بزوجها عندما كان يقيم مع عائلتها، وبعد الزواج، انتقلت معه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وعملت كأستاذ مشارك في الكيمياء في جامعة جونز هوبكنز.
رزقت ماريا من زوجها بطفلين، وهما ماريا آن، والتي تزوجت لاحقًا من عالم الفيزياء الفلكية الأمريكي دونات وينتزل، وابنها الثاني اسمه بيتر كونراد.
مسيرتها المهنية في الولايات المتحدة
عندما سافرت ماريا جوبرت ماير إلى الولايات المتحدة لم تتمكن من الانضمام إلى جامعة جونز هوبكنز كعضو هيئة تدريس، وذلك وفقًا لقواعد وضعتها الجامعة لمنع المحسوبية، حيث مُنعت زوجات أعضاء هيئة التدريس من التوظيف.
لذا بدلًا من ذلك حصلت ماريا على وظيفة كأستاذ مساعد في قسم الفيزياء في الجامعة، وحصلت على راتب صغير جدًا، ومكانًا للعمل، كما تمكنت من الوصول إلى جميع المعامل في الجامعة، وفي الوقت نفسه كانت تدرس بعض الدورات، ونشرت أوراقًا بحثية مختلفة، منها ورقة بحثية عن تحلل بيتا المزدوج عام 1935.
وفي الجامعة عملت ماير على ميكانيكا الكم مع العالم كارل هيرزفيلد، وتعاونا معًا في نشر بعض الأوراق البحثية. في عام 1937 تم فصل ماير من الجامعة، وقيل إنها فصلت بسبب كراهية عميد الكلية للنساء، حيث كره تواجدها داخل المختبر.
لذا انتقل ماير إلى جامعة كولومبيا، ورغم عملها في الجامعة لم تتلق أي راتب، وخلال عملها في الجامعة، تمكنت من التحقق من غلاف التكافؤ للعناصر غير المكتشفة عبر اليورانيوم باستخدام نموذج توامس فيرمي، وفي عام 1941 تم انتخابها زميلة في الجمعية الفيزياء الأمريكية.
وفي ديسمبر من العام نفسه، حصلت ماير على أول منصب مهني مدفوع الاجر، حيث درست في كلية سارة لورانس بدوام جزئي.
اقرأ أيضًا: ما لا تعرفه عن لاري بايج مخترع غوغل وسر تسمية محرك البحث بهذا الاسم
دورها في مشروع مانهاتن
مع بداية الحرب العالمية الثانية، وانخراط الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب، بدأ مشروع "مانهاتن" وهو المشروع الأمريكي الذي أدى إلى اختراع أول قنبلة ذرية، وقد انضمت العالمية ماريا جوبرت ماير إلى المشروع، حيث عملت في وظيفة بحثية في جامعة كولومبيا.
كان مشروع مانهاتن يهدف إلى البحث عن طريقة لفصل نظير اليورانيوم الانشطاري عن اليورانيوم الطبيعي، وقد بحثت ماير في الخصائص الكيميائية والديناميكية الحرارية لسداسي فلوريد اليورانيوم، وحاولت البحث في إمكانية فصل النظائر عن طريق التفاعلات الكيميائية، إلا أن أبحاثها تلك لم تكن مفيدة.
حصلت ماريا في تلك الفترة على منصب في جامعة كولومبيا مع مشروع العتامة، وقد كانت مهمتها في هذا المشروع البحث في خصائص المادة والإشعاع في درجات الحرارة العالية، وركزت على تطوير قنبلة "تيلر" الخارقة، وهو مفهوم تقني يمكن وراء الأسلحة النووية، واستخدم المشروع بهدف تطوير الأسلحة النووية الحرارية.
في عام 1945 انضمت ماير إلى مجموعة مشروع تيلر في مختبر لوس ألاموس، وتركت أطفالها وزوجها في نيويورك، وفي العام التالي أصبحت أستاذة في قسم الكيمياء ومعهد الدراسات النووية الجديدة في جامعة شيكاغو.
وخلال شغلها هذا المنصب نجحت ماير في إجراء العديد من الأبحاث، وبرمجت جهاز إينياك، لحل مشاكل المفاعل النووي المبرد بالمعادن السائلة، كما استنتجت معادلة بيغليزن ماير بالتعاون مع العالك جاكوب بيغليزن، وهي معادلة في الكيمياء الجيولوجية النظيرية المستقرة.
اقرأ أيضًا: جيمس كليرك ماكسويل.. العالم الذي غيّر وجه العالم
نموذج بنية الأغلفة للنواة الذرية
خلال عملها في شيكاغو أواخر الأربعينيات طوّرت ماريا جوبرت ماير نموذجًا رياضيًا لبنية الأغلفة النووية، ونشرت هذا النموذج عام 1950، وهو نموذج نظري يصف كيفية ترتيب البروتونات والنيوترونات داخل النواة الذرية.
يستند نموذج الأغلفة النووية إلى فكرة أن النواة تحتوي على مستويات طاقة منفصلة، مشابهة لتلك الموجودة في الأغلفة الإلكترونية حول النواة. في هذا النموذج، يتم توزيع البروتونات والنيوترونات في "أغلفة" أو مستويات طاقة محددة داخل النواة، وكل غلاف يمكنه استيعاب عدد محدد من الجسيمات.
استند النموذج على مجموعة من النقاط الرئيسية، ومنها المستويات الطاقية، حيث توجد مستويات طاقة مختلفة للنيوكليونات، البروتونات والنيوترونات، داخل النواة، وتتوزع هذه النيوكليونات في مستويات طاقة محددة بناءً على طاقتها.
اقترحت ماير في نموذجها على الأعداد السحرية من النيوكليونات تجعل النواة أكثر استقرارًا، والأعداد السحرية هي (2،8،20،28، 50،82، 126). عندما يكون عدد البروتونات أو النيوترونات في النواة مساويًا لأحد هذه الأعداد، تكون النواة أكثر استقرارًا.
توصلت ماريا كذلك على القوى المركزية، والجاذبية التي يتم تفسير استقرار النواة من خلالها، والتي تعمل بين النيوكليونات، وهذه القوى تؤدي إلى تفضيل ترتيب معين للنيوكليونات داخل الأغلفة.
من النقاط المهمة التي اعتمدت عليها ماريا في نموذجها الاقتران المغزلي المداري، والذي يلعب دورًا مهمًا في تحديد مستويات الطاقة للنيوكليونات داخل النواة، وهذا التأثير يزيد من تعقيد البنية الداخلية للنواة، ويؤدي إلى توزيع أكثر استقرارًا للنيوكليونات.
ساعد نموذج ماريا في تفسير سبب كون بعض النوى أكثر استقرارًا من غيرها، كام ساهم بالتنبؤ بالخواص النووية، وهو ما وفر فهمًا أعمق للبنية النووية، وتم استخدام النموذج في مجموعة واسعة من التطبيقات في الفيزياء النووية والطاقة النووية، بما في ذلك تصميم المفاعلات النووية، ودراسة تفاعلات الانشطار والاندماج.
اقرأ أيضًا: خلود المانع: عالمة سعودية ضمن أفضل 10 مؤثرين في العالم
حصولها على جائزة نوبل في الفيزياء
عملت ماريا جوبرت ماير على بحث أغلفة البنية النووية في نفس الوقت الذي قام به 3 علماء على حل نفس المشكلة، وهم أوتو هاكسل، وجيه هانز جينسن، وهانز سوس، وقد توصلوا إلى نفس النتيجة بشكل مستقل، كما أنهم نشروا نتائجهم في عدد من المراجعات الفيزيائية، إلا أن بحث ماير تمت مراجعته أولًا، ولقد تعاونت معهم بعد ذلك.
وفي عام 1963، تقاسمت ماير جائزة نوبل في الفيزياء مع العالم جيه هانز جينسين لاكتشافاتهما المتعلقة ببنية الغلاف النووي، لتصبح ثاني امرأة تفوز بجائزة نوبل في الفيزياء بعد ماري كوري، وآخر امرأة تفوز بهذه الجائزة لأكثر من نصف قرن، حتى حصول العالمة دونا ستريكلاند على الجائزة عام 2018.
اقرأ أيضًا: نساء عالمات ومخترعات.. تعرف على أشهر العالمات العربيات والأجنبيات
المهن اللاحقة ووفاتها
في عام 1960، عملت العالمة ماريا جوبرت ماير كأستاذة للفيزياء في جامعة كليفورنيا، وقد استمرت بالتدريس، وأجرت العديد من البحوث رغم إصابتها بسكتة دماغية.
خلال تلك الفترة حصلت ماريا على عضوية وزمالة العديد من الجمعيات والأكاديميات العلمية، منها الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم، والجمعية الفلسفية الأمريكية، كما حصلت على جائزة اللوحة الذهبية من الأكاديمية الأمريكية للإنجاز.
توفيت ماير في 20 فبراير عام 1972 بعد نوبة قلبية أدخلتها في غيبوبة، وقد دفنت في سان دييغو. وبعد وفاتها تم إنشاء جائزة باسمها من تنظيم الجمعية الفيزيائية الأمريكية، وتقدم الجائزة للفيزيائيات الشابات في بداية حياتهن المهنية.
تم إطلاق اسم جوبرت ماير على العديد من المؤتمرات والندوات التي تنظم سنويًا، حيث يتم تنظيم ندوة سنوية باسم ماريا جوبرت ماير في جامعة كاليفورنيا لمناقشة العلوم الحالية، فيما تم تسمية مختبر علمي على اسمها في الجمعية الفيزيائية الأمريكية.
أطلقت ناسا على اسم ماريا على فوهة بركانية في كوكب الزهرة، وفي عام 2011 تم إصدار طوابع بريدة أمريكية عليها صورتها، كما تم تسمية قاعة قسم الفيزياء في جامعة كاليفورنيا على اسمها.
ماريا غوبيرت ماير تُعتبر واحدة من أبرز العلماء في القرن العشرين، إذ تجسدت في شخصيتها صفات العالم المبدع والمثابر. بفضل إسهاماتها الرائدة في تطوير نموذج القشرة النووية، تمكنت من تقديم تفسير عميق لبنية النواة الذرية، مما أحدث ثورة في فهمنا للفيزياء النووية.
تتجلى عظمتها ليس فقط في حصولها على جائزة نوبل، بل أيضًا في قدرتها على كسر الحواجز التي واجهتها كامرأة في مجال يسيطر عليه الرجال، مما مهد الطريق أمام العديد من النساء في العلوم.
إرث ماريا العلمي لا يزال ينبض بالحياة في كل معادلة ونظرية تتناول بنية النواة الذرية، وتظل أعمالها مصدر إلهام للأجيال القادمة من العلماء والباحثين. من خلال شغفها والتزامها بالعلم، تركت لنا إرثًا لا يقتصر على النظريات العلمية فحسب، بل يمتد ليشمل القيم الإنسانية التي تؤمن بالمساواة والمثابرة والتفاني في تحقيق الأهداف، وتظل رمزًا للتفوق الأكاديمي والإنجاز البشري، ومثالًا يحتذى به في تجاوز التحديات وتحقيق الأحلام.
اقرأ أيضًا: بارنز واليس.. المخترع الإنجليزي مخترع القنبلة المرتدة