ترك الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار بصمة واضحة في الفلسفة المعاصرة، وقد كان له الفضل في استشكاف العلم بعمق، ورأى في الخيال قوة بداعية قادرة على تغيير الواقع، وفتح آفاقًا جديدة للمعرفة، فقد تحليلًا عميقًا لعملية الخيال، وكيفية تفاعلها مع العقل والعالم الخارجي، وأثرت أفكاره على العديد من الفلاسفة والكتاب والنقاد كذلك، تعرف على حياته وفلسفته.
من هو غاستون باشلار؟
هو فيلسوف وشاعر فرنسي، ولد في 27 يونيو عام 1884 في بار- سور- أوب في فرنسا، ويعد من أشهر الفلاسفة في أوروبا، وأثرت أفكاره على الفكر الفلسفي في القرن العشرين.
بدأ باشلار حياته المهنية كمعلم في المدرسة الثانوية، ثم تحول إلى الفلسفة، وحصل على الدكتوراه في الفلسفة، وأصبح أستاذًا في جامعة السوربون.
اشتهر غاستون بأفكاره وفلسفته حول العلم، حيث ركز على كيفية تطوير الفكر العلمي، وكيفية تأثر الخيال والإبداع في هذا التطور، وبجانب أعماله الفلسفية، فقد كان شاعرًا.
يعتبر غاستون شخصية محورية في الفلسفة الحديثة، وقد أثر بشكل عميق على مجالات عديدة، بما في ذلك فلسفة العلم، الأدب، وعلم النفس.
نشأته وحياته
عاش غاستون باشلار حياة صعبة، وقد وصف حياته في كتابه "لهيب شمعة" بأنها حياة مريرة ومأساوية، يحث اضطر إلى تعليم نفسه، وقد درس حتى المرحلة الثانوية، وبعدها عمل موظفًا في البرد حتى عام 1913، حتى حصل على الليسانس في الرياضيات والعلوم.
عمل بعد ذلك مدرسًا للفيزياء والكيمياء في مدرسة ثانوية في مسقط رأسه، وبعدها حوّل اهتمامه إلى الفلسفة، حيث حصل على درجة الدكتوراه في الأدب في قسم الفلسفة في جامعة السوربون عام 1927.
بعد الحصول على درجة الدكتوراه في الفلسفة أصبح أستاذًا في جامعة ديجون عام 1930، ثم تم تعيينه بعدها رئيسًا لقسم تاريخ الفلسفة وفلسفة العلوم في جامعة باريس عام 1940، وفي عام 1958 أصبح عضوًا في الأكاديمية الملكية للعلوم والآداب والفنون في بلجيكا.
تزوج باشلار في سن متأخر، فقد تزوج بعد الانتهاء من دراسته، إلا أن زوجته توفيت سريعًا، وتركت له ابنته الوحيدة سوزان باشلار، التي دعمها طوال حياتها في مسيرتها الأكاديمية في فترة لم يكن من المعروف للنساء إكمال تعليمه، وقد أصبحت ابنته أستاذة الفلسفة في جامعة السوربون، وصاحبة كتاب "وعي العقلانية عند فينومينولوجيا هوسلر".
ما هي الابستمولوجيا عند باشلار؟
الابستمولوجيا العقلية عند باشلار يمكن ترجمتها بأنها فلسفة المعرفة أو نظرية المعرفة، وتناول فيها بشكل رئيسي دراسة طبيعة وأصول المعرفة العلمية، وقدم رؤية مبتكرة حول كيفية تطور المعرفة العلمية من خلال التركيز على النقد والتجاوز والخيال.
يرى باشلار أن العلم لا يتقدم تدريجيًا، بل من خلال "قطيعات إبستمولوجية"، والتي تمثل تحولات جذرية تنقل الفكر العلمي من إطار نظري قديم إلى آخر جديد.
الإبستمولوجيا عند باشلار تقدم رؤية ديناميكية ونقدية للمعرفة العلمية، مشددة على أهمية التحولات الجذرية والنقد المستمر في تطوير الفكر العلمي.
كيف يتطور العلم عند غاستون باشلار؟
وعلى عكس التصور التقليدي الذي يرى تطور المعرفة كعملية خطية ومستمرة، يؤكد باشلار أن هناك فترات من الاضطراب الفكري والتحول الجذري التي تميز مسيرة العلم.
دعى باشلار في نظريته إلى نوع جديد من العقلانية التي تعتمد على التفاعل بين النظرية والتجربة، وترفض الانفصال بين الفكر والممارسة العلمية، وأكد على ضرورة النقد المستمر للفكر العلمي، ويرى أن كل النظريات العلمية تحتوي على نقائص يجب أن تتجاوزها النظريات اللاحقة.
رأى باشلار أن الخيال يلعب دورًا محوريًا في تطوير المعرفة العلمية، على الرغم من أن العلم يعتمد على التجربة والعقلانية، ولكنه آمن أن الخيال عنصر أساسي في صياغة الفرضيات العلمية الجديدة.
استخدم باشلار كذلك مفهوم الرمزية لفهم كيف تؤثر العناصر الطبيعية مثل الماء والنار والهواء على الفكر البشري، وتطور المعرفة.
ركز باشلار على التجربة الحسية في العلم، رغم أنه اهتم بشكل كبير على العقلانية، ورأى أن الإحساس هي الأساس الذي تبنى عليه النظرية العلمية، ودعى في الوقت نفسه إلى دراسة الظواهر العلمية من خلال التجربة والملاحظ بشكل مباشر، بدلًا من الاعتماد على التفسيرات النظرية فقط.
وفي نظرية غاستون باشلار يرى أن هناك عوائق معرفية تعيق تقدم العلم، وعلى رأسها الأفكار والأحكام المسبقة، والافتراضات التقليدية التي يجب على العلماء تجاوزها لتحقيق تقدم حقيقي، ويتطلب تجاوز هذه العوائق ممارسة نقدية مستمرة، وإعادة تقييم العلم والمعرفة الحالية.
فلسفة النفي عند باشلار
من ضمن الأفكار الفلسفية التي اشتهر بها الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار هي فلسفة النفي، حيث يرى أن هناك آفاقاً علمية جديدة يمكن التوصل إليها من خلال الجدل أو النفي.
ويؤكد غاستون في فلسفته أن ليس في هذا النفي أي سلب، وإنما النفي هو عامل مساعد يتيح للفكر الهندس التأليف الكلي والاحتمال.
ويقول باشلار في فلسفة النفي: "العقل نشاط مستقل يطمح لأن يتكامل، ويكمل في العقل العلمي الجديد أن المذهب الذي يؤمن بعقل متناه هو فلسفة بائدة".
في فلسفته يقول باشلار أن العالم يقول لا للطرق المعتادة في التفكير، ولا يأخذ بالأفكار البسيطة على أنها أفكار بسيطة فعلًا يجب التسليم إليها دون نقاش، بل يجب الاجتهاد في نقد هذه البسائط نقديًا جدليًا، لربما تنطوي على أفكار جديدة أو غموض.
أعمال غاستون باشلار
قدم غاستون باشلار العديد من الأعمال والمؤلفات الفلسفية والشعرية، ومنها "دراسة حول تطور مشكلة فيزيائية: الانتشار الحراري في المواد الصلبة"، و"القيمة الاستقرائية للنسبية"، و"الحدس الفوري"، و"الحدس الذري"، و"الروح العلمية الجديدة"، و"جدلية المدة".
ألف كذلك "تجربة الفضاء في اللياقة البدنية المعاصرة"، و"تكوين الروح العلمية، و"التحليل النفسي للنار"، و"النشاط العقلاني للجسم المعاصر"، و"المادة العقلانية"، و"لو عقلانية مطبقة"، و"المشاركة العقلانية"، و"شعلة شانديل" وأعمال أخرى.
وقد ترجمت العديد من أعماله الرئيسية إلى الإنجليزية، بما فيها أعماله الشعرية"، إلا أن حوالي نصف أعماله في فلسفة العلوم هي التي ترجمت فقط.
وبجانب أعماله في نظرية المعرفة، فقد تناول في مؤلفاته وأعماله موضوعات أخرى بما فيها الأحلام والخيال والتحليل النفسي، ومن أعمال غاستون باشلار في هذه الموضوعات "التحليل النفسي للنار"، و"شعرية الفضاء"، و"الوجود والعدم"، و"الماء الأحلام"، وأعمال أخرى.