شارع المتنبي في بغداد .. الأمل الأخير المتبقي!

  • DWWbronzeبواسطة: DWW تاريخ النشر: الإثنين، 18 أبريل 2022
شارع المتنبي في بغداد .. الأمل الأخير المتبقي!

عند شارع المتنبي في بغداد يلتقي المثقف والمسافر والباحث عن كتاب والمشتاق إلى بغداد القديمة، الكتب تفترش الدرب باحثة عن قراء، كتب لم يكن لها أن تظهر إلى العلن خلال أكثر من ثلاثين عاماً من حكم صدام حسين، حين كانت الثقافة لعقود "تحت السيطرة". كل هذا تغير وبات شارع سوق الكتب وسط بغداد يتنفس الصعداء بعد عام 2003 وأصبح مرآة للحرية والكلمة، لكن طالته أيضاً يد الإرهاب باستهدافه في مارس/ آذار 2007، في انفجار أدى إلى مقتل العشرات ودمار الكثير من المكتبات والمطابع في الشارع.

شارع المتنبي من أقدم شوارع بغداد، إذ شُيّد في نهاية العصر العباسي، أي قبل أكثر من ألف عام، حيث ظهرت محال الوراقين وبائعي الكتب أولاً. البداية كانت كما يقول مؤرخون، مع أكشاك الكتب، ثم شُيّدت المباني والمساكن، وفي العهد العثماني بُنيت المنازل من الطابوق. في عام 1932 أطلق عليه الملك فيصل الأول اسم المتنبي بسبب كثرة مكاتب بيع الكتب فيه والمقاهي التي يرتادها الشعراء والأدباء.

هنا كان يُصنع الرأي وتدور الحوارات بين المثقفين وتطبع الكتب وتنصت العقول حين كان يتحدث عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، أو يلقي الجواهري قصيدة في مقهى بالشارع.

مع سقوط نظام صدام بدأ المتجول في ربوع شارع المتنبي يشاهد كُتباً، مُنعت من التداول لعقود من الزمن، سواء كانت دينية أم سياسية، فقد اختفت "خطابات القائد "، لتحل محلها كتب تعنى بتاريخ العراق وحاضره. وتباع اليوم كتب مثل "العراق الأمريكي" للمفكر حسن العلوي وكتب المؤرخ الفلسطيني حنا بطاطو وكتب عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، وهذه الكتب كانت تُباع حتى عام 2003 في الخفاء خوفاً من بطش السلطة التي لم تكن تتفق مع ما فيها.

يقول عبد الرزاق، وهو من مرتادي الشارع الدائمين بحثاً عن عن هواء مختلف عن هواء الفضائيات: "شارع المتنبي جنة بغداد". هذه "الجنة" وثّقت تاريخ عاصمة العراق منذ أكثر من ألف عام، من يوم ظهوره مروراً بتدميره على يد المغول يوم سقوط الدولة العباسية، وخلال حكم العثمانيين الذي امتد على مدى خمسمئة عام تقريباً وحتى تأسيس الملكية في العراق مطلع القرن العشرين، ثم سقوطها على يد الجيش في الخمسينات، ثم الانقلابات المتتالية مع ظهور الجمهورية وحتى سقوط نظام صدام حسين مع دخول الجيش الأمريكي عام 2003، ثم الهجمات الإرهابية المتتالية وحتى اليوم.

شارع المتنبي نبض الرأي العام

المعروض من الكتب تغير مع كل نظام، من ماركسي إلى عربي قومي إلى إيديولوجي بعثي يمجد شخصاً واحداً، إذ طالما حاولت الأنظمة التي مرت على العراق منذ مئة عام كبح جماح عقل المثقف في العراق ولا مكان أفضل لفعل ذلك من شارع المتنبي. يضيف عبد الرزاق في حوار مع مراسل القناة الألمانية الأولى ARD: "هنا يلتقي المثقفون والباحثون عن العلم والفضاء الحر". لكن كثيراً من الكتب المعروضة اليوم لا تلائم ذوق عبد الرزاق، الذي كان يرى الكتب الماركسية تُعرض في خمسينات القرن الماضي في الشارع، واليوم دخلت كتب دينية متطرفة من كل حدب وصوب، إلا أن النقاش مفتوح ولا ممنوع إلا الإرهاب.

بعض من يلتقي للنقاش حول الكتب يجلس قرب تمثال أبي الطيب المتنبي. كأصيل، وهي شابة ترتدي نظارة شمسية واسعة تحميها من شمس بغداد القوية. تقول أصيل: "المكان هنا ثقافي وحضاري. يذكرنا بتراثنا العراقي وبأجدادنا، وفي نفس الوقت فهو حديث. هنا الكثير من الكتب. تمكننا من رؤية المستقبل من خلال تجارب الكتاب والشعراء".

مقهى الشابندر

في انفجار عام 2007 الذي تسبب بمقتل العشرات، وتدمير مبان تاريخية قديمة ومكاتب، طال الانفجار أيضا مقهى الشابندر الشهير، نقطة لقاء المثقفين وأصحاب الرأي. المقهى افتتح في عام 1917. في السبعينات أصبح المقهى ملكاً للحاج محمد الخشالي، رجل يرتدي "عرقجينة" سوداء على رأسه، حين يتحدث تظهر ابتسامة من خلف شاربه رغم الحزن الذي يعانيه، يروي بحزن: "الشابندر والمتنبي عانى من انفجار عام 2007، في المتنبي سقط 68 قتيلاً، وفي المقهى قتل أربعة من أبنائي والخامس حفيدي".

بعد الانفجار بدأت عمليات ترميم للشارع لكنها تأخرت بسبب الاقتتال الداخلي ثم هجمات تنظيم "داعش". ومن خلال إدارة بلدية العاصمة وتبرع جهات بنكية وتجار أعيد ترميم الشارع من دون المساس بمعماريته وتراثه، وافتتح من جديد في كانون الأول/ ديسمبر الماضي. ولادة جديدة للشارع العريق، لكنها لا تنسي الناس وخصوصاً الحاج محمد أولاده وحفيده الذين سقطوا ضحايا.

في المقهى صورهم معلقة على جدار خلف كرسيه. وفي باقي زوايا الجدران معلقة صور ملونة أو بالأبيض والأسود، لساسة وشعراء وأدباء ومشاهير زاروا المقهى خلال عقود من عمره. يضيف الحاج محمد الخشالي: "المقهى رمز الثقافة والمثقفين في بغداد. كل سائح يزور بغداد يأتي إلى هنا".

الفساد والأحزاب والمتنبي

في الفترة الأخيرة بدأ بعض السياح بزيارة بغداد والعراق، لكن كثيرين ممن يتمنون زيارة العاصمة يخشون من الصواريخ التي تطلق بين الحين والآخر على المنطقة الخضراء . ولذا فإن أكثر مرتادي المقهى عراقيون وعراقيات. ندى سيدة عراقية وربة بيت ومحبة للثقافة، ترى أن الأمور مازالت "غير طبيعية في العراق"، خصوصاً لأن المجتمع العراقي منقسم أثنياً ودينياً ولم يلتأم بعد عشرين عاماً من سقوط نظام صدام حسين. توضح بالقول :"بسبب الأحزاب! بسبب الوضع السياسي والأحزاب (والتي كلها أحزاب دينية أو أثنية) هناك خلافات عميقة بينها، هذه الخلافات تنعكس على الناس والشعب هو الضحية".

أحزاب تسببت في فساد عميق طال مؤسسات الدولة والاقتصاد، وممثلوها يجنون الأموال من ريع بيع النفط والصفقات المشبوهة، فيما يعاني الشباب من عدم الحصول على عمل والفقر. زينب، ابنة ندى تحلم بالعيش خارج العراق، حيث الحياة أكثر عصرية ولا يفرض عليها ارتداء الحجاب، ولا يقود المجتمع نظام أبوي متسلط. تقول زينب (18 عاماً): "يتحكم الرجال فينا نحن النساء. الحياة صعبة حقاً بالنسبة لنا هنا. لا تعيش كل امرأة بأمان هنا ولديها حقوقها. أعني، نحاول البقاء كما لو كنا في حرب".

في الشابندر تجد زينب وأمها ندى أشخاصاً يفكرون معهم بنفس المستوى وبصوت عال. يتناقشون حول ما يجري في العراق والعالم. يتحاورون حول الأدب العالمي والعراقي، وحول كتب سياسية وأدبية ودوواين الشعر. يقول أحد أصحاب المكاتب، اسمه ماهر: "شارع المتنبي هو الأمل الوحيد المتبقي. إعادة إعماره وبنائه تمنحنا الثقة. نتمنى أن تطال يد الإعمار شوارع أخرى. والبداية هنا مهمة جداً".

بيورن بلاشكه/ عباس الخشالي

القيادي الآن على واتس آب! تابعونا لكل أخبار الأعمال والرياضة