يرتبط اسمه دائمًا بشهر رمضان، فلا يخلُ شارع أو مسجد من صوت محمد رفعت قبيل آذان المغرب، فشكل صوته ملمحًا من وجدان المصريين، ولا يكون رمضانُ رمضانَ بدون صوته الشجي الذي يملأ السماء فأصبح لقبه قيثارة السماء، وبلبل الجنة.
محمد رفعت محمود رفعت واسمه مركب هو قارئ قرآن مصري يعد من أعلام قراءة القرآن البارزين في مصر ولُقب بقيثارة السماء، وبلبل الجنة.
ولد الشيخ محمد رفعت في محافظة القاهرة في 9 مايو عام 1882 بدرب الأغوات بحي المغربلين في القاهرة، وفقد بصره وهو صغير حيث كان يبلغ الثانية من عمره.
أدخله والده كتاب بشتاك الملحق بمسجد فاضل باشا بدرب الجماميز في السيدة زينب، وبدأ بحفظ القرآن الكريم في سن الخامسة، ودرس على يد معلمه الأول الشيخ محمد حميدة، وحفظ على يده القرآن الكريم، ومجموعة من الأحاديث النبوية.
ثم أتم حفظ القرآن وتميز في الحفظ وهو في التاسعة من عمره، ولما رأى شيخه ما فيه من تميز وبراعة في الإلقاء وعذوبة صوت رشحه لإحياء الليالي الدينية في الأماكن المجاورة القريبة من بيته.
أكمل الشيخ رفعت دراسة علوم القرآن، فدرس علم القراءات، والتجويد على يد الشيخ عبد الفتاح هنيدي وكان صاحب أعلى سند في القرآن الكريم، وحصل على الإجازة منه.
كان والد الشيخ رفعت يعمل مأمورًا بقسم شرطة الجمالية، وتوفي وهو في التاسعة من عمره، وبعد وفاة والده وجد نفسه يتيمًا مسؤولًا عن أسرته المؤلفة من والدته، وخالته، وأخته وأخيه، وأصبح هو عائل الأسرة الوحيد.
لذا اتجه إلى إحياء الليالي الدينية في القاهرة بترتيل القرآن الكريم، وذلك بدلًا من الدراسة في الأزهر، ولما زادت شهرته دُعي خصيصًا لترتيل القرآن الكريم في الأقاليم.
هل كان الشيخ محمد رفعت أعمى؟
ولد الشيخ محمد رفعت بصيرًا ولكنه فقد بصره وهو في عمر الثانية.
كيف فقد الشيخ محمد رفعت بصره؟
لا توجد معلومات مؤكدة عن سبب فقدان الشيخ محمد رفعت بصره، ولكن نشرت بعض الصحف المصرية معلومات تفيد بأن سيدة رأت عينيه فأعجبت بهما كثيرًا وقالت له إنه "ابن ملوك" واستيقظ في اليوم التالي فاقدًا بصره.
أولاد الشيخ محمد رفعت وزوجته
تزوج الشيخ رفعت لما صار معروفًا وأصبح له مورد رزق، فأرادت والدته تزويجه ولم يكمل السادسة عشرة من عمره، واشترطت أن تكون زوجته قوية وتمتلك صحة وقدرة على التحمل لتتمكن من تحمل ظروف ابنها الكفيف.
فتزوج من الحاجة زينب وكانت تقطن في قرية الفرعونية بمحافظة المنوفية، وهي سيدة منظمة، ونظيفة جدًا ومعطاءة، وله منها أربعة أبناء، وهم محمد، وأحمد، وبهية، وحسين.
بدأ الشيخ محمد رفعت قراءة القرآن الكريم أولًا في مسجد فاضل باشا بحي السيدة زينب، كما عُين قارئًا للسورة، وبعدها قرأ القرآن في كافة المناسبات الكبرى منها والصغرى.
وكانت المناسبات التي يقرأ فيها القرآن الكريم يحضرها جميع الأعيان وكبار الشخصيات في البلد، ومنهم النحاس باشا، والملك فاروق فذاع صيته وعرفه كل الناس بعذوبة صوته وجمال أدائه، وتفوقه وإمكاناته.
وعند افتتاح الإذاعة المصرية في عام 1934 اقترح أن يفتتح الشيخ رفعت الإذاعة المصرية البرنس محمد علي ابن عم الملك فاروق الذي كان يعشق صوت الشيخ رفعت، وبعد أن استفتى شيخ الأزهر وقتها محمد الأحمدي الظواهري عن جواز إذاعة القرآن الكريم فأفتى له بجواز القراءة فيها.
وبالفعل افتتح الشيخ رفعت الإذاعة المصرية في عام 1934 بآية من سورة الفتح "إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا" وكان يتقاضى مبلغًا شهريًا نظير قراءته للقرآن في الإذاعة، وكان أول تعاقد بينه وبين الإذاعة يقدر ب3 جنيهات أسبوعيًا، وبعدها أصبح 25 جنيهًا شهريًا.
ولما سمعت الإذاعة البريطانية بي بي سي العربية صوته أرسلته إليه وطلبت تسجيل جميع تلاوات الشيخ محمد رفعت بصوته، وحينما سمع طلبهم رفض ظنًا منه أنه حرام لأنهم غير مسلمين، ولكنه استفتى الإمام المراغي فشرح له الأمر وأخبره بأنه غير حرام، فوافق وسجل لهم سورة مريم.
من المواقف المهمة في حياته هي أن الملك فاروق طلبه لإحياء الذكرى الثانوية لوالده في الوقت نفسه طلبت منه جارته الفقيرة قراءة القرآن في مناسبة سنوية لديها فآثر السيدة الفقيرة، ولم ينفذ طلب الملك الأمر الذي أغضب الملك فاروق.
وكانت علاقته بالملك علاقة احترام وتقدير متبادل، حيث كان الملك فاروق يحب الشيخ محمد كثيرًا ويحترمه ويقدره، وكان الشيخ رفعت شخصًا واثقًا من نفسه يتعامل بعزة نفس وشموخ يغلفهما الأدب.
ومن المواقف الأخرى مع الملك فارق أن الملك اتصل بنفسه على هاتف المنزل، فرفع ابن الشيخ رفعت التليفون ليجد أن الملك فارق يقول له أين الوالد؟ وسأله إذا كان الشيخ سيحضر الليلة للقراءة كما اتفقا أم لا.
ولم يتحرك الشيخ من مكانه ليرد بنفسه، وإنما أوصل رده من خلال ابنه الذي أبلغه أنه على موعده الليلة لقراءة القرآن الكريم، وقال له الملك: "لو تعبان ومجهد احنا مسامحينه".
من المواقف الأخرى هو أن السيدة أم كلثوم كانت كثيرة التردد على الشيخ محمد بصحبة والدها في بداية مشواره الفني لتستفيد من خبرته الكبيرة في مجال الأصوات ومخارج الحروف، ولم يبخل عليها الشيخ محمد وأهتم بها حتى أتقنت هذا العلم على يديه.
ولكن بعد أن أصابه المرض الذي استمر لـ8 سنوات لم تسأل عليه ولا مرة، وعلى الرغم من أن الشيخ محمد لم يتحدث مطلقًا عن الأمر، ولكن أبناءه وأسرته ساءهم هذا التصرف من أم كلثوم.
أما علاقته بالموسيقار محمد عبد الوهاب كانت علاقة صداقة قوية، استمرت حتى وفاته، حيث قال عبد الوهاب: "أنا خادم تحت أقدام الشيخ رفعت"، وكان يجمعهما لقاء أسبوعيًا بمنزل الشيخ رفعت.
كما كان لديهم أصدقاء آخرون، ومنهم الشاعر أحمد شوقي، وزكريا أحمد، وفتحية أحمد، وفكري أباظة، ومحمد التابعي وغيرهم.
من المواقف الأخرى أن أحد الجنود الكنديين سمع صوت الشيخ رفعت، فسافر إلى مصر وسأل عن عنوانه، وأسلم على يديه.
أجمل ما قيل عن الشيخ محمد رفعت
أثر الشيخ محمد رفعت على حياة كل من سمعه، فصوته شكل ذكريات أجيال متتالية لا تزال تسمع تلاوته حتى الآن، ولم يقتصر تأثيره على الجمهور فقط، بل أثر على قراء ومشايخ آخرين.
قال عنه الشيخ محمد الصيفي: "رفعت لم يكن كبقية الأصوات تجرى عليه أحكام الناس.. لقد كان هِبة من السماء".
أما الأديب محمد السيد المويلحي قال عنه: "سيد قراء هذا الزمن، موسيقيٌّ بفطرته وطبيعته، إنه يُزجي إلى نفوسنا أرفَع أنواعها وأقدَس وأزهى ألوانها، وإنه بصوته فقط يأسرنا ويسحرنا دون أن يحتاج إلى أوركسترا".
والأديب أنيس منصور قال عنه: "ولا يزال المرحوم الشيخ رفعت أجمل الأصوات وأروعها، وسرُّ جمال وجلال صوت الشيخ رفعت أنه فريد في معدنه، وأن هذا الصوت قادر على أن يرفعك إلى مستوى الآيات ومعانيها، ثم إنه ليس كمثل أي صوت آخر".
وشيخ الأزهر السابق مصطفى المراغي قال عنه: "هو منحة من الأقدار حين تهادن وتجود، بل وتكريم منها للإنسانية".
ماذا قال الشيخ الشعراوي عن الشيخ محمد رفعت؟
وعندما سُئل الشيخ الشعراوي عن الشيخ محمد رفعت قال: "إن أردنا أحكام التلاوة فالحصريّ، وإن أردنا حلاوة الصوت فعبد الباسط عبد الصمد، وإن أردنا النفَس الطويل مع العذوبة فمصطفى إسماعيل، وإن أردنا هؤلاء جميعًا فهو محمد رفعت".
قبل 8 سنوات من وفاته أي في عام 1942 أصيب بمرض "الزغطة" وكان لا يزال قارئًا مشهورًا واشتد عليه المرض وسبب له العديد من المشكلات النفسية حيث لم يتمكن من تلاوة القرآن بشكل جيد، وهو ما لم يرض عنه.
وحينها قرر التوقف عن العمل وجلس في منزله، وبعدها زادت مشاكله الصحية، فأصيب بالتهاب رئوي حاد، وارتفاع في ضغط الدم واستمر مرضه لسنوات لا يغادر منزله إلا للصلاة أو الفسحة التي نظمها له أصدقاؤه.
ولم تقدم له الإذاعة المصرية أي مساندة له خلال فترة مرضه؛ لأن نظام التعاقد وقتها كان شهريًا نظير القراءة، وحينما توقف الشيخ رفعت عن القراءة بسبب مرضه انتهى التعاقد وبقي بدون دخل.
وكان الشيخ رفعت طوال حياته زاهدًا لا يطلب المال، ويرضى بأقل القليل وظل بالمنزل ينفق من ما تبقى له من مال، حتى جاءت مجلة "المصور" وصورة الشيخ رفعت وهو طريح الفراش.
ومن هنا جاءت فكرة جمع الأموال له، وبالفعل جمعوا له أكثر من 5 آلاف جنيه وكانت وقتها كافية لشراء عزبة من ألف فدان، ولكن الشيخ رفعت رفض وقال أعطوها للفقراء.
وبعدها قرر زكريا باشا مهران أحد المسؤولين في الدولة أن يقدم للإذاعة تسجيلات نادرة للشيخ مقابل معاش شهري ثابت بقيمة 10 جنيهات، ولكن لم يلحق الشيخ من الاستفادة منه بجنيه واحد، حيث توفاه الله في 9 مايو عام 1950 وهو نفس يوم مولده، عن عمر 68 عامًا.
وعلى الرغم من شهرته الكبيرة إلا أنه مات فقيرًا، فحينما فتحوا خزينته التي أهداها له طلعت حرب في بنك مصر لم يجدوا فيها إلا مصحفًا، وساعة، وروشتة دواء.