يصدح صوته في مشارق الأرض ومغاربها، مر على وفاته أكثر من 30 عامًا ولا يزال صوته خالدًا رغم الرحيل، الشيخ عبد الباسط عبد الصمد الذي تربع على عرش تلاوة القرآن الكريم، ونال الحب والاحترام والتقدير ما جعله أسطورة لا تتكرر.
عبد الباسط محمد عبد الصمد سليم داوود هو قارئ قرآن مصري وأحد أعلام المجال البارزين، لُقب بصوت مكة، وصاحب الصوت الملائكي، ولد في 1 يناير عام 1927 في قرية المراعزة التابعة لمدينة أرمنت بمحافظة قنا، وأصبح مركز أرمنت الآن ضمن محافظة الأقصر منذ عام 2009.
نشأ الشيخ عبد الباسط في بيئة تهتم بالقرآن الكريم، فجده كان من الحفظة المتمكنين في أحكام القرآن وتجويده، أما والده فكان أيضًا من المجودين المجيدين للقرآن الكريم، وكذلك أخواه.
التحق الشيخ عبد الباسط إلى الكُتاب وهو في السادسة من عمره وتعلم القرآن على يد الشيخ الأمير، ولما وجد فيه الموهبة والرغبة في التعلم أحسن تعليمه، وتوسم فيه كل المؤهلات القرآنية.
ومن جملة المواهب التي لاحظها الشيخ في تلميذه النبوغ وسرعة الاستيعاب، وشدة الانتباه، وحرصه الشديد على متابعة الشيخ بحب وشغف، فضلًا عن الدقة في التحكم في مخارج الحروف، والألفاظ، والوقف، والابتداء، وعذوبة الصوت أيضًا.
أتم الشيخ عبد الباسط حفظ القرآن الكريم وعمره عشر سنوات، فكان القرآن يتدفق على لسانه كالنهر الجاري، فطلب من والده وجده أن يتعلم القراءات فأشارا عليه السفر إلى طنطا في الوجه البحري ليتلقى علم القرآن والقراءات على يد الشيخ محمد سليم.
ولكن المشكلة أن المسافة بين أرمنت التي هي إحدى مدن جنوب الصعيد، وبين طنطا إحدى مدن الوجه البحري بعيدة جدًا، وبسبب شغفه بتعلم القرآن قرر أن يسافر، ولكن قبل سفره بيوم واحد فقط علم أن الشيخ محمد سليم انتقل إلى أرمنت ليستقر بها مدرسًا للقراءات في المعهد الديني في مدينته.
وكأن القدر ساق له هذا الرجل في الوقت المناسب، وبعد قدومه أقام أهل المدينة جمعية للمحافظة على القرآن الكريم في منطقة أصفون المطاعنة، فتعلم فيها علوم القرآن والقراءات، وذهب إليه وراجع عليه القرآن الكريم كله، ثم حفظ متن الشاطبية الخاص بعلم القراءات السبع.
وحينما أتم الشيخ عبد الباسط الثانية عشرة من عمره جاءت له الدعوات من مدن وقرى محافظة قنا لقراءة القرآن فيها بمساعدة الشيخ محمد سليم الذي زكّاه في كل مكان يذهب إليه.
زادت شهرة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد في التلاوة، وكان قد حصل الشيخ الضباع على تسجيل لتلاوة الشيخ عبد الباسط في المولد الزينبي وتقدم به إلى لجنة الإذاعة فانبهر الجميع بالأداء القوي للشيخ.
فاقترح عليه الشيخ الضباع أن يتقدم للعمل في الإذاعة كقارئ ولكن أراد الشيخ أن يؤجل ذلك لارتباطه بمسقط رأسه، ولكنه تقدم في النهاية، وتم اعتماده كأحد قراء الإذاعة المصرية في نهاية عام 1951، وبعدها بعدة أشهر قرر الإقامة الدائمة مع أسرته في القاهرة في حي السيدة زينب.
بعد التحاق الشيخ بالإذاعة المصرية زاد الإقبال على شراء أجهزة الراديو وانتشرت في معظم البيوت للاستماع لصوت الشيخ، وكان من يمتلك راديو في إحدى القرى يرفع صوته ليتمكن الجيران من سماع الشيخ وهم بمنازلهم، وخاصة في يوم السبت من الساعة الثامنة إلى الثامنة والنصف مساءً.
وكان الشيخ عبد الباسط يحيي الليالي الدينية في شهر رمضان في دواوين قريته، وكان لا يرد أحدًا يطلب منه قراءة بضع آيات من القرآن الكريم، وبعدها تنقل بين المحافظات لتلاوة القرآن الكريم.
وكان الشيخ من ضمن المقرئين بمسجد الحسين في القاهرة، وحينما جاء دوره قرأ ربع من سورة النحل فأعجب به المستعمون وظلوا يستوقفونه من حين لآخر ليعيد لهم ما قرأه مرة أخرى.
لما زادت شهرة الشيخ في مصر طُلب لقراءة القرآن الكريم خارج مصر، وكانت أول زيارة له خارج مصر في السعودية حيث سافر مع والده لأداء فريضة الحج.
وسجل هناك عدة تسجيلات للمملكة لتذاع في الراديو، أشهرها التي سجلت في الحرم المكي، وحرم المسجد النبوي الشريف، ولُقب بعدها بصوت مكة، وبعدها توالت زيارات الرسمية وغير الرسمية إلى السعودية.
ومن المواقف له في السعودية أنه حينما سافر إلى مكة المكرمة كان وقتها شيخ الحرم المكي يقرأ من سورة البقرة إلى سورة الأنعام عن رواية ورش عن نافع، ولكنه أخطأ.
حيث قرأ في الآية الأولى بقراءة حفص وفي الآية الثانية برواية ورش، فأقر الشيخ هذا السهو في القراءة وطلب منه أن يبقى في الحرم المكة معهم.
وكانت رحلته الإذاعية في رحاب القرآن الكريم منذ عام 1952 ومن ثم انهالت عليه الدعوات من كل الدول ليحل عليهم مقرئًا في شهر رمضان وغيره، وكانت توجه له بعض الدعوات لمجرد الحضور، فكان سفر الشيخ إلى دولة ما بمثابة مناسبة يجب الاحتفال بها.
وكان يتم استقبال الشيخ عبد الباسط استقبالًا رسميًا على المستوى الحكومي، حيث استقبله الرئيس الباكستاني في المطار، وصافحه وهو ينزل من الطائرة.
أما الاستقبال الشعبي كان أعظم، فقد قرأ القرآن في جاكرتا في إندونيسيا في أكبر مساجدها وامتلأت المساجد بالحاضرين وامتد الحضور لخارج مساحة المسجد بكيلو متر تقريبًا، وقُدر عدد الحاضرين للاستماع له بربع مليون مسلم تقريبًا يستمعون له وقوفًا على الأقدام.
لم تقتصر زيارات الشيخ عبد الباسط إلى الدول العربية والإسلامية، وإنما سافر أيضًا إلى دول غير مسلمة، ومنها جنوب أفريقيا حيث استقبلته الصحافة والإذاعة والتلفاز لإجراء لقاءات صحفية معه.
ومن بين الدول التي زارها الهند، وأحيا فيها حفلًا دينيًا، كما سافر إلى باريس وتلى القرآن الكريم في إحدى القاعات الفرنسية الشهيرة قاعة باليه كونجريه، وتحدث الشيخ عن كواليس تلاوته في القاعة التي كانت ممتلئة ب 4 آلاف شخص فرنسي أغلبهم من أصول مغربية.
ظل يقرأ الشيخ عبد الباسط لمدة ساعة كاملة، وبعد الانتهاء من التلاوة وقف الحضور وصفقوا له لمدة 10 دقائق كاملة، وتحدثت الصحافة الفرنسية عن تلاوته واعتبرت أن الساعة مرت كأنها 5 دقائق.
أيضًا زار الشيخ عبد الباسط 14 ولاية في باكستان وتلى فيها القرآن الكريم، وكان أقل احتفال هناك يحضره 20 ألف شخص.
وتلى الشيخ القرآن في أشهر المساجد حول العالم، بداية من المسجد الحرام بمكة، والمسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة، والمسجد الأقصى بالقدس، والمسجد الإبراهيمي في الخليل، والمسجد الأموي في دمشق إلى أشهر المساجد في آسيا وأفريقيا والولايات المتحدة.
حصل الشيخ عبد الباسط عبد الصمد على العديد من التكريمات والأوسمة، فقده كرمته سوريا عام 1956 وحصل على وسام الاستحقاق، وفي لبنان حصل على وسام الأرز، وفي ماليزيا حصل على الوسام الذهبي.
كما حصل على أوسمة من السنغال، والمغرب وآخر التكريمات التي حصل عليها قبل رحيله كانت في عام 1987 حيث حصل على وسام الاستحقاق في عهد الرئيس السابق محمد حسني مبارك في الاحتفال بليلة القدر.
عانى الشيخ عبد الباسط عبد الصمد قبل وفاته من مضاعفات مرض السكري على الرغم من حرصه على صحته، كما تزامن مع السكري مرض الكسل الكبدي وأصيب بالتهاب كبدي قبل وفاته بأقل من شهر.
تطلب لعلاجه سفره إلى لندن لاستكمال علاجه، ومكث هناك أسبوعًا ولكنه طلب من ابنه طارق العودة إلى مصر، وتوفي فيها في يوم الأربعاء 30 نوفمبر عام 1988 عن عمر 61 عامًا.