يعتبر الطبيب الإنجليزي إدوارد جينر واحد من أهم الشخصيات في تاريخ الطب، فمن خلال ملاحظات الدقيقة على مرض الجدري وحصبة البقر تمكن من تطوير أول لقاح في التاريخ ضد الجدري، وهو الاكتشاف الذي أصبح بمثابة ثورة في مجال الطب، وأثبت أنه من الممكن حماية الأفراد من الأمراض المعدية من خلال تحفيز جهاز المناعة لديهم، تعرف أكثر على اكتشافاته وقصة حياته في هذا المقال.
من هو إدوارد جينر؟
هو طبيب وعالم إنجليزي يعد رائدًا في مفهوم اللقاحات وهو من ابتكر لقاح الجدري، الذي يعد أول لقاح في العالم، ولد في 17 مايو عام 1749 في بيركلي بإنجلترا، ويُعرف باسم "أبو التطعيم"، ويعد واحدًا من أبرز الشخصيات في تاريخ الطب بفضل اكتشافه التطعيم ضد الجدري، والذي كان واحدًا من أكثر الأمراض فتكًا في تلك الفترة.
في أواخر القرن الثامن عشر، كان الجدري مرضًا شديد العدوى والفتك، مما دفع جينر للبحث عن وسيلة لمكافحته، لاحظ جينر أن العاملات في حلب الأبقار اللاتي أُصبن بجدري البقر، وهو مرض مشابه، ولكنه أقل خطورة، لم يُصبن بالجدري البشري.
وقد أدت ملاحظته تلك إلى تجربته الشهيرة، حيث حقن طفل صغير يبلغ من العمر 8 سنوات بمرض الجدري، ليثبت فعالية التطعيم، وأصبحت طريقة التطعيم تعرف باسم Vaccinatio، وهي من الكلمة اللاتينية Vacca، وتعني البقرة.
انتشرت فكرة التطعيم بسرعة في أوروبا والعالم، وساهمت في تقليل حالات الجدري بشكل كبير، وأصبحت طريقة التطعيم التي ابتكرها جينر الأساس لتطوير اللقاحات الحديثة.
ساهم اكتشاف جينر في إنقاذ ملايين الأرواح، وشكل نقطة تحول في مجال الصحة العامة والطب الوقائي.
نشأت وتعليمه
ولد إدوارد جينر في بيركلي في إنجلترا في عائلة كبيرة مكونة من 9 أطفال، وقد كان والده قسيس بيركلي، لذا تلقى جينر تعليمًا أساسيًا قويًا من قبل والده. التحق جينر بمدرسة كاثرين ليدي بيركلي، وفي هذا الوقت حصل على تطعيم بالجدري ضد الجدري، والذي كان له تأثير مدى الحياة على صحته العامة.
في سن الرابعة عشر بدأ جينر تدربه كمساعد جراح لمدة 7 سنوات، وفي عام 1770، وعندما كان يبلغ من العمر 21 عامًا، أصبح متدربًا في الجراحة والتشريح تحت إشراف الجراح جون هانتر في مستشفى سانت جورج في لندن.
كان جينر متدينًا، ولكنه لم يكن متعصبًا، وخلال حياته تعرض للإهانة كونه طبيبًا من الأرياف، وقد أظهر تسامح وروحانيته من خلال مراسلاته مع الأصدقاء، كما أنه قال قبل أيام قليلة من وفاته: "لست مندهشًا من عدم امتنان الرجال لي؛ لكنني أتساءل أنهم لا يشكرون الله على الخير الذي جعلني أداة لنقله إلى زملائي".
زوجته وحياته الشخصية
تزوج ويليام جينر من كاثرين كينجستون في عام 1788، وقد توفيت زوجته عام 1815 بسبب مرض السل. رزق جينر من زوجته بثلاثة أطفال وهم إدوارد روبرت، وروبرت فيتزهاردينج، وكاثرين.
مسيرته المهنية
في عام 1773 عاد إلى بيركلي، وأصبح طبيبًا عائليًا وجراحًا ناجحًا، وفي عام 1792، ومع خبرة لمدة 20 عامًا في الممارسة العامة والجراحة، حصل على درجة دكتور في الطب من جامعة سانت أندروز.
خلال مسيرته المهنية، شارك إدوارد جينر في تشكيل جمعية طبية اسمها فليس، وقد ساهمت الجمعية في تقديم أوراق وأبحاث طبية، وساهم جينر حينها بتقديم أبحاث عن الذبحة الصدرية والتهاب العين، وصمامات القلب وجدري البقر.
اهتم جينر كذلك بعلم الحيوان، وأصبح عضوًا في الجمعية الملكية، وقد نشر دراسات عن حياة طائر الوقواق، وقد لعب اهتمام جينر بعلم الحيوان دورًا كبيرًا في تجربته الأولى مع التطعيم.
ما قصة اكتشاف اللقاح لمرض الجدري؟
كان التطعيم ممارسة طبية قياسية استخدمت في الطب الآسيوية والأفريقي لسنوات، إلا أنها كانت تنطوي على مخاطر جسيمة، حيث يتم تطعيم الشخص بالمرض، وكانت طريقة جيدة للوقاية، ولكن مخاطرها كثيرة.
في عام 1768 أدرك الطبيب الإنجليزي جون فوستر أن الإصابة السابقة بجدري البقر تجعل الشخص محصنًا ضد الجدري، وفي السنوات التي تلت نجح خمسة باحثين من إنجلترا وألمانيا في اختبار لقاح جدري البقر ضد الجدري على لبشر بنجاح.
كان إجراء التطعيم يتم لسنوات، إلا أنه لم يتم فهمه على نطاق واسع إلا بعد أعمال ويليام جينر. اقترح جينر أن القيح الموجود في البثور التي تصيب الأفراد المصابين بجدري البقر، وهو مرض مشابه للجدري، لكنه أقل ضراوة، يمكنه حمايتهم من الجدري.
بدأت قصة لقاح الجدري بفضل ملاحظة ويليام جينر، ففي أحد الأيام، بينما كان يتمشى في مزرعة الأبقار، أخبرته خادمته سارة نيلز، إحدى حالبات الأبقار، أنها أصيب بمرض جدري البقر، ولا يمكنها أن تصاب بالجدري الذي يصيب البشر بسبب هذا الأمر.
أخذ جينر كلام خادمته على محمل الجد، وبدأ يجري أبحاثه حول العلاقة بين الإصابة السابقة بجدري البقر، والمناعة ضد الجدري الذي يصيب البشر، وقد سافر إلى مدن مجاورة، وتحدث مع ريفيات أصبن بجدري البقر، وتأكد أنهن لم يصبن بالجدري البشري.
لاحظ جينر أن الفتيات اللاتي سبق أن أصبن بمرض جدري البقر تظهر على أيديهن بثور، واستنتج أن الصديد داخل تلك البذور هو من يحمي الفتيات بطريقة ما من الإصابة بالجدري، وقرر أن ينفذ تجربته على أرض الواقع.
كيف اكتشف إدوارد جينر اللقاح؟
أخذ العالم إدوارد جينر الصديد الموجود في يد الخادمة سارة، وحقنها في يد طفل اسمه "جيمس فيليبس"، وهو ابن خادمة، في البداية تعرض الطفل لأعراض بسيطة، وقد أعاد العملية على مدار بضعة أيام، وكان يُكثر كمية الصديد المحقونة في جسد الصبي بشكل تدريجي.
كانت تجربة شديدة الخطورة، حيث كان من الممكن أن يتوفى الطفل، أو يصاب بالعمى كمضاعفات لمرض الجدري، إلا أنه اكتشف عكس ذلك، حيث أصيب الطفل في البداية بإعياء شديد لعدة أيام، حيث ارتفعت درجة حرارته، وظهرت بقع حمراء مكان التطعيم.
وبعد مرور عدة أيام اختفت هذه البقع، وشفي تمامًا من المرض في غضون 6 أسابيع دون أي أعراض جانبية، لتنجح تجربته، التي أصبحت من أهم إنجازات إدوارد جينر، وأنقذ البشرية بسببها.
معارضة شديدة ثم الاعتراف
قدم ويليام جينر تجربته إلى المجتمع الطبي البريطاني، إلا أنه لم يتقبل في البداية حقيقة أن عالمًا ريفيًا من بيركلي توصل إلى هذا الاكتشاف، وأهين علنًا في لندن أمام العديد من الأطباء.
لم يعارض اللقاح الأطباء فحسب، بل انضم إليهم رجال الدين والفلاسفة، ومنهم الفيلسوف إيمانويل كانط، الذي عارض اللقاح بشدة، ورأى أنها مخاطرة كبيرة، لأنه لا يمكن ضمان عدم فشلها.
إلا أن اكتشاف جينر كان أكبر من أن يتم تجاهله، وفي النهاية حصل لقاح الجدري على الاعتراف في بريطانيا، وتمت تجربته على أكثر من 22 حالة مريضة تحسنت بشكل كامل دون أية أعراض جانبية، وفي عام 1840 تم اعتماد لقاح جينر هو اللقاح الوحيد ضد الجدري من قبل الحكومة البريطانية، وحظرت أي لقاحات أخرى.
ذاعت أنباء اكتشاف اللقاح في أنحاء أوروبا، وقد ساعد ملك إسبانيا في ذلك الوقت في نشر اللقاح في كل أنحاء العالم، فقد الملك تشارلز الرابع، ملك إسبانيا، العديد من أفراد عائلته بسبب مرض الجدري، وخلف المرض ندوبًا عميقة لدى البعض، ومنهم ابنته ماريا لويزا.
وبمجرد سماع الملك بلقاح جينر، كلف طبيبًا للسفر إلى إنجلترا وتوزيع اللقاح في أقصى أطراف الإمبراطورية الإسبانية. في عام 1803 أبحرت سفينة إلى أمريكا الجنوبية وحملت اللقاح.
ومن بلدان الكاريبي سافرت البعثة إلى أمريكا الجنوبية والوسطى، وعبرت المحيط الهادئ، ووصلت إلى الفلبين، وفي غضون 20 عامًا من اكتشاف اللقاح، نجح لقاح جينر في إنقاذ الملايين، حتى تم استئصال المرض بشكل كامل في عام 1979.
وفاته
توفي إدوارد جينر في 26 يناير عام 1823 عن عمر 73 عامًا بسبب سكتة دماغية، ودفن في قبو العائلة في كنيسة سانت ماري في بيركلي.
جوائز وتكريمات
بفضل أعمال إدوارد جينر وإسهاماته الطبية حصل على 10 آلاف جنيه إسترليني لعمله في التطعيم، وفي عام 1807 حصل على 20 ألف جنيه إسترليني أخرى بعد أن تأكدت الكلية الملكية لأطباء بفعالية اللقاح الواسعة.
في عام 1802 تم انتخاب جينر كعضو فخري أجنبي في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم، كما كان عضوًا في الجمعية الفلسفية الأمريكية، وعضوًا في الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم، وأصبح رئيسًا لجمعية جينر عام 1803، وهي جمعية معنية بتعزيز التطعيم للقضاء على لجدري.
أصبح جينر عضوًا في الجمعية الطبية والجراحة، وقدم العديد من الأوراق البحثية، وفي عام 1808 شارك في تأسيس مؤسسة اللقاحات الوطنية، إلا أنه استقال من منصبه كمدير بعدما شعر بالإهانة من قبل المدراء في المؤسسة. في عام 1821 تم تعيين جينر طبيبًا للملك جورج الرابع.
في عام 2002، احتفت به هيئة الإذاعة البريطانية بإدراجه ضمن قائمة أعظم 100 بريطاني بعد تصويت شعبي على مستوى المملكة المتحدة. تم تكريمه على طوابع البريد الصادرة عن البريد الملكي.
في عام 1999، ظهر اسمه جنبًا إلى جنب مع تشارلز داروين ومايكل فاراداي وآلان تورينج في إصدار "مغيري العالم" كما تم تكريمه بتسمية فوهة على سطح القمر باسمه.
بعد وفاته تم إنشاء العديد من التماثيل تكريمًا له، كما تم تحويل منزله إلى متحف صغير، وقد تم تسمية العديد من القرى والمدن والشوارع في إنجلترا وأمريكا على اسمه تكريمًا له بفضل إنجازاته في اكتشاف لقاح الجدري.
إدوارد جينر يُعد واحدًا من أعظم العلماء في التاريخ الطبي، حيث أن اكتشافه للتطعيم ضد الجدري أسس لعلم المناعة الحديث وساهم في القضاء على أحد أخطر الأمراض التي عرفتها البشرية.